[ مدونة رشيد أمديون
الوصف

إضاءة في كتاب "تدريس الفلسفة من أجل مقاربة ديداكتيكية للاشتغال على النص في درس الفلسفة"




يعد كتاب «تدريس الفلسفة من أجل مقاربة ديداكتيكية للاشتغال على النص في درس الفلسفة» أول إصدار للكاتب والباحث ابراهيم السهلي، وقد صدر عن الراصد الوطني للنشر والقراءة في يونيو 2022. ويقع هذا العمل في 162 صفحة من الحجم المتوسط. وهو مساهمة فكرية يتبنى صاحبها رؤية تعليمية لتدريس الفلسفة، سعيا إلى المساهمة في تجويد تدريس الفلسفة لكونها مادة مدرسية يعتمد إنجاز درسها بشكل شبه كلي على النص، أي أن الدرس الفلسفي هو درس تفكيري تتبلور ضرورة إنجازه بطرق مختلفة، وهو بذلك يشبه الورشة كما شبهه بذلك كانغيلام، «ليست الفلسفة معبدا، إنها ورشة». ويعرب الباحث ضمن هذا الكتاب عن الهاجس الذي دفعه إلى إنجاز هذا العمل وهو هاجس ديداكتيكي من جهة وبيداغوجي من جهة أخرى.
ينطلق الكاتب في هذا البحث من قناعة راسخة تعتبر النص منجزا لغويا حاملا للمعنى وفضاء لغويا متحركا تبعث له الدلالات والرموز حياة متجددة، وهذا التوجه يبرز أهمية النص كواسطة ودعامة أساسية في بناء المعرفة، خاصة منها المدرسية وإعطائها بعدا منهجيا منظما، تنعكس نتائجها على المستوى الذهني، والوجداني، والسلوك للمشتغل على النص، وذلك من خلال العمليات الإجرائية التي يقوم بها داخل النص على ضوء أنشطة الفهم والتحليل، والمساءلة، والنقد، والتفكيك، والتركيب والبناء.. وهذا الاشتغال يقود إلى تكوين وعي وإنتاج خطاب حامل للمعنى.
وعلى هذا يؤكد الكاتب على أن النص ورشة منهجية لصقل مهارات المشتغل عليه، عبر اتباع مجموعة من العمليات الذهنية تؤدي به إلى فهم النص وإنتاج خطاب قابل للتأويل، وهذا يفرض على المشتغل على النص الإلمام بمفهوم النص في مختلف الحقول الدلالية، وهو إدراك شمولي للسياق النظري لمفهوم النص باعتبار النص نقطة بداية وتكوين المعرفة.
وإن تعليم الفلسفة وتعلمها يتم عبر وساطة النص الفلسفي، داخل خطاب فلسفي موجه للقارئ، ويصبح من خلال ذلك النص آلية لممارسة التفكير الفلسفي. ويعد النص للمتعلم فضاء للتفكير يقتضي من المدرس مقاربة ديكاكتيكية محكمة، تستدعي منه ضرورة التسلح بالآليات المنهجية والنظرية للاشتغال على النص الفلسفي، والنجاح في عملية النقل الديداكتيكي من أجل جعل النص فضاء حيا يشبع رغبة المتعلم في التعلم، ومن خلاله يرتبط المتعلم بالخطاب الفلسفي وتاريخ الفلسفة، وهو ما يتيح له إمكانية القيام بمجموعة من الأنشطة الذهنية المرتبطة بخصوصية الخطاب الفلسفي (مفهمة، أشكلة، محاجة).
كما أن فعل القراءة يعد نشاطا تعليميا حيث يجعل المتعلم يلتقي بشكل مباشر مع الخطاب الفلسفي، أي أن القراءة في هذا السياق هي تمرين ذهني يتيح للمتعلم التعرف على خصوصية الخطاب الفلسفي، والقدرة على تمييز هذا الخطاب عن غيره من الخطابات الأخرى، كما أن القراءة طريقة لبناء الأفكار واستلهام القدرة على المحاجة، إذ أن أنشطة القراءة الفلسفية تساعد المتعلم على تنمية قدراته، كما تتيح له إمكانية استلهام تجربة الكتابة الذاتية انطلاقا من تجربة النص، وذلك من خلال نشاط ذهني يقوده لحل المعنى المضمر في النص، فيكون المتعلم بذلك قارئا إيجابيا للنص ومحاورا جيدا للفيلسوف.

«أرخبيل الذاكرة» نصوص رحلية


«أرخبيل الذاكرة» لعبد الرحيم مؤدن، كتاب أفتتح به عام 2023.
يعد هذا الكتاب من جنس الرحلة، التي عرف بها الأديب المغربي الراحل عبد الرحيم مؤدن، يتضمن الكتاب ثلاثة نصوص وهي كالتالي: «ستة أيام هزت العالم»، «الرحلة الهولندية»، «الرحلة الباريسية»، «الرحلة الصينية».
وهي كما يشير الكاتب رحلات ومشاهدات متباعدة، في الزمن والمكان، ومتقاربة في الرؤية والسرد والتوصيف.
عوالم هذه الرحلات تشترك في تجسيد الرغبة في المعرفة، معرفة الآخر، ومعرفة الذات، وكشف الاختلافات وتنوع الأصول بتعدد الأمكنة والثقافات.
في رحلته إلى مصر
 «ستة أيام هزت العالم» يستجيب المكان لتغير الزمن حيث أن الفترة كانت قبيل ثورة 25 يناير، وقد تحول فضاء المكان إلى عالم صامت وناطق، وخاصة القاهرة التي يقول عنها أنها لم تعرف إلا الكلام والصخب وتبادل التحية والسلام.
ثم يكشف المكان عن أسراره في الرحلة الهولندية، من خلال أساليب مختلفة في نسق الحياة ونمط العيش، وما يمارسه المكان على الزائر من سلطة الثنائيات، النور والعتمة، وإغواء الخفاء والتجلي، وما على الزائر إلا أن يقوم باستقصاء الزوايا المعتمة لتنكشف له الأعاجيب.
وفي رحلته إلى باريس أغدق علينا النص بمشاهدات مارس فيها المكان سحره المزدوج جامعا بين الترهيب والترغيب، من سلطة حضارة –يقول عنها- إنها قاهرة متماسكة، وتمارس ترغيبا يتجسد في طبيعة المكان الذي لم يدر ظهره لمرجعية التنوير.
وتتعدد الأمكنة في الرحلة الصينية عبر مشاهد مثيرة للدهشة ومطلعة على عوالم غريبة وثقافة مختلفة تخفي في طياتها أسرارا ورمزيات يتقاطع فيها الواقعي بالأسطوري...

-أرخبيل الذاكرة: عبد الرحيم مؤدن، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، ط.1، 2013.


رشيد أمديون
الثلاثاء 03 يناير 2023
#قراءة_2023_رشيد

الشعر العربي بين الجمود والتطور (مراجعة)


ينتصر الدكتور محمد عبد العزيز الكفراوي في هذا كتابه « الشعر العربي بين الجمود والتطور» للرأي الذي يقول بأن الشعر العربي لم يعرف تطورا في العهدين الإسلامي (صدر الإسلام) والأموي، لأنه ظل على صورة من الشعر الجاهلي إلى أن جاء العصر العباسي الذي اتخذ فيه الشعر منحى آخر مغايرا مع بشار ابن برد وأبي نواس.. وقد وجد هذا الرأي من يعارضه من نقاد ومؤرخي الأدب أمثال شوقي ضيف في كتابه "التطور والتجديد في الشعر الأموي". وذهب الكفراوي إلى أن هذه المعارضة سببها أن من تبنوا الرأي الأول لم يفصّلوا القول... على هذا فهو يذهب مذهب أن الشعر العربي أصابه تغير حقا في العصر الإسلامي والأموي، بل وأصابه عدة تغيرات أثناء العصر الجاهلي أيضا، باعتباره يخضع لعوامل النشوء والارتقاء... لكن تلك التغيرات تعدّ يسيرة جدا وسطحية لا تمس العناصر الأولية، والسمات الأصلية التي اتسم بها الشعر الجاهلي... فعالج الباحث هذا الموضوع معالجة تفصيلية مقسما كتابه هذا إلى ثلاثة أبواب.

تناول الباب الأول تحديد العناصر الأساسية للشعر العربي مع طرح تلك الظروف الاجتماعية التي كونتها. والآثار التي ترتبت عليها في الشعر الجاهلي (الطبع، الصدق، الميل إلى التصوير، الموسيقى، بناء القصيدة وتقسيمها إلى مقدمة وغرض)...

وجاء الباب الثاني مقسما إلى فصول. الأول: بين الأسباب التي حاولت دون تأثير الشعر العربي بالدين الجديد في صدر الإسلام، وأيضا الأسباب التي جعلت شعراء العصر الأموي يتوجهون نحو الشعر الجاهلي... والفصل الثاني يتناول مظاهر تشابه الشعر في العصرين الأموي والجاهلي. إذ يعطي نماذج من الشعر الأموي للتأكيد على جموده في الحدود التي رسمها شعراء الجاهلية. وفي الفصل الثالث يرد على القائلين بتطور الشعر العربي في العصر الأموي، حيث تعرض لما أشاروا إليه من فنون ونماذج وأغراض (النقائض والغزل بنوعيه) التي يبدو عليها سمات التطور، ليؤكد على أنها ليست إلا امتدادا طبيعيا للشعر الجاهلي.

الباب الثالث تناول العصر العباسي، وجاء في أربعة فصول: حيث تناول الفصل الأول بناء القصيدة العربية وما لحقها من تطور. وفي الفصل الثاني، خصصه لأغراض الشعر التي عرفت تطورا يعود بالأساس إلى الحالة الاجتماعية في العصر العباسي، حيث ظهر "الغزل بالمذكر" والخمر والمجون كما عند أبي نواس... وشعر الزهد والتزهد كما عند أبي العتاهية... وشعر الخصومات الذي لم يعد يتمثل في خصام بين القبيلة وجارتها بل خصومات بين العرب والموالي، والخصومات السياسية كتلك التي تمثلها علاقة الفضل بن الربيع بالبرامكة في خلافة الرشيد، وتجلت في شعر أبي العتاهية و"أبان بن عبد الحميد"... إضافة إلى الأغراض الأخرى المعروفة والتي لحقها التطور كالغزل والفخر والهجاء والمدح.. أما الفصل الثالث، فهو عن عناصر الشعر وما أصابها من تطور وجمود وهذه العناصر هي : الطبع ( حيث قسم الباحث الشعراء إلى طائفتين، أهل الطبع وأنصار الصنعة وقدم نماذجها). العنصر الثاني التزام الحقائق، وما لحق الشعر العربي في العهد العباسي من المبالغات مقارنة مع ما كان عليه الشعر في الجاهلية من التزام الحقائق في المدح أو في الهجاء.. ثم العنصر الثالث وهو التصوير، الذي كان في العصر الجاهلي قريبا من الواقع، ولما تفشى الغلو والمبالغة في العصر العباسي ترك ذلك الذوق الجديد أثره في التصوير، فعظم الفارق بين الحقيقة التي يتحدث عنها الشاعر والصورة التي يعرضها...أما العنصر الرابع، فهو الموسيقى. وقد قام الباحث بالموازنة ما بين بعض شعر شعراء العصر العباسي والعصر الجاهلي وبين أهل الطبع والصنعة من الشعراء العباسيين أيضا.

كما يعد الباحث أن استفحال روح الثورة وتشعبها ورفض التقليد هو ما ساهم في هذا التطور..

وفي الفصل الرابع، ذهب الكاتب إلى أن الشعر العربي استرد حريته على يد أبي الطيب المتنبي. كتاب "الشعر العربي بين الجمود والتطور" للدكتور محمد عبد العزيز الكفراوي. 206 صفحة. طبعة ثانية.

البطل التراجيدي في المسرح العالمي



يقوم الكاتب رياض عِصمت في هذا الكتاب «البطل التراجيدي في المسرح العالمي» بدراسة مجموعة من الشوامخ في تاريخ المسرح العالمي، قديمه وحديثه، من خلال البطل التراجيدي باعتباره شخصية وجودية، متمردة، ثورية وكأنها تجابه قوى ميتافيزيقية عابثة أو قوى اجتماعية جائرة. والتراجيدية أو المأساة، في تعريفها هي شكل من أشكال التعبير في الفن، تعكس استفحال التناقضات غير القابلة للحل في زمن معين، التناقضات بين متطلبات الفرد وصبواته والاستحالة العملية لتحقيقها، بما يؤدي إلى انفعالات ومعاناة أليمة قد تفضي إلى موت البطل، رغم ما يبذله من قدرة هائلة على مواجهة مصيره بشجاعة في التصدي للعبث الكوني والاجتماعي، ورفضه الحلول الوسطى ولو كان ذلك على حساب حياته وحياة الأخرين.

 قسم الكاتب الكتاب إلى قسمين، قسم بعنوان «البطل التراجيدي في المسرح الإغريقي والإلزابيثي والكلاسيكي الجديد» يحلل ضمن هذا القسم مجموعة من الأبطال بداية من:
-"سوفوكليس" من خلال مسرحيته "الكترا" حيث أن أبطاله يحملون مسؤوليتهم على ظهورهم في نفس الوقت الذي هم فيه مرغمون على قبول ضغوط القدر، فهم يملكون قدرة على مواجهة مصيرهم بشجاعة، ولكن ليس في قدرتهم الهرب منه. واللعنة هي منشأ الصراع، لكن نقاط العنف تكمن في أعماق الإنسان نفسه.
- ويحلل أبطال كريستوفر مارلو، من خلال مسرحيته "فاوست"، وقد يبين أن المسرح الإليزابيثي عرف خلالها تطورا واضحا، فالقدر الميتافيزيقي لم يعد هو المسؤول(كما عند الإغريق) بل الإنسان. والمأساة ليست نابعة من صراع بين المحتوم وبين الحرية، بل بين نوازع الإنسان الخيرة والشريرة (مجسدة أو غير مجسدة)، أما كل ما هو ميتافيزيقي فهو إما عبارة عن رموز، أو عبارة عن تأثيرات فنية وشعبية من الأنماط السابقة.
- وأبطال شكسبير من خلال مسرحيته "ماكبث"، فيحلل الكاتب هذه المسرحية التي تعد إدانة للفردانية في الحكم، ورفض لأن تكون السلطة تسليطا: فالبطل الذي يعزل نفسه عن مسيرة شعبه، ويوغل في تأكيد ذاته عن طريق القسوة، يتحول إلى ديكتاتور، ويحفر بالتالي قبره بيده.
- وأبطال راسين في المسرح الكلاسيكي من خلال مسرحيته "فيدر"، وقد عمل راسين على تحقيق أقصى مثالية ممكنة بالنسبة لصفاء النمط المسرحي، فخلت مآسيه من أي لمسة كوميدية، متعمدة على الوصول إلى ذروة العاطفة عن طريق الحوار الشعوري الذي يعكس بصدق كبير ودون حذلقة أسلوب الإحساسات الداخلية للشخصيات، وذلك عبر حوارات ثنائية غالبا تصل بالصراع الخارجي والداخلي معا إلى ذرى عالية من القوة والشفافية، لا يضاهيه في ذلك شكسبير في المسرح ودوستويفسكي في الرواية. ولمسرح راسين سمة يختلف بها عن المسرح الإغريقي أن مسرحياته باستثناء "مأساة طيبة" و"برريتانيكس" تنتهي بنهاية غير دامية جدا، على الأقل بالمقارنة مع شكسبير، والقسوة فيها لا تعني الموت بل الحياة، والنهايات تحمل الحل الأخلاقي العقلاني للتأقلم مع الحياة.

 والقسم الثاني من الكتاب، عنونه الكاتب بـ«البطل التراجيدي في المسرح الحديث والمعاصر». وفي هذا القسم يتناول أبطال:
- هنريك أبسن، الذي يعد أب المسرح الحديث. ومسرحه له طابع فلسفي، مسرح صراع أفكار باطنية ونفسية، وصراع الإنسان مع الأقدار العاتية. ومن ناحية بناء الشخصيات، فالصفة الإنسانية تقوم على مدى ارتباط الفكر بالواقع، وفي مدى تعبيره عن أزمة إنسانية ما بصدق. ومسرح أبسن ليس إلا نبوءة بمأساة الإنسان المعاصر، وليس إلا الأساس الحقيقي الذي تفرع عنه بعد سنين عديدة كل من المسرح السياسي الاشتراكي ومسرح اللامعقول.

- وحلل في هذا القسم أبطال لويجي بيرانديللو، الذي يعد من أقطاب الدراما الذين طوروا تاريخ الأدب المسرحي وأثروا في كثير من كتاب المسرح بعده، ويرى بيرانيللو أن الشخصية تصبح حرة على الفور، حتى من مؤلفها، بحيث أنه من الممكن لكل شخص أن يتخيلها في مواقف عديدة أخرى لم يحلم المؤلف نفسه بوضعها فيها. وبهذا يؤكد بيرانديللو أن للحقيقة أوجها متعددة، ولكنه عجز (كما يقول الكاتب) عن تجاوز ضبابية الوضع الكائن نحو كشف رؤيا مبررة للوجود، إنسانية، وصادقة.
- كما حلل الكاتب أبطال لوركا من خلال مسرحية "بيت برناردا آلبا"، وأبطال الألماني برتولد برشت من خلال مسرحية "حياة غاليليو"، وقد تضافرت في أدب برشت المسرحي عناصر الوعي الاجتماعي والسياسي مع نظرية جديدة في فن المسرح. وبريشت كان ينطلق من السلبيات إلى ما يجب أن يكون، وتلك هي سمات البطل التراجيدي المعاصر: فالمأساة لا تتعلق به وحده، بل بالمجتمع كله.
- وأبطال جان آنوى، انطلاقا من مسرحية "أنتيغون"، وهي مسرحية وجودية ذات إسقاطات سياسية. وبيّن الكاتب أن الصراع عند آنوي هو بين السياسة بشكلها الانتهازي المعهود وبين النبل المطلق، وهذا الصراع تكتسب فيه الشخصيات ما يثري الفعل التراجيدي بتفاصيل إنسانية مرهفة وصغيرة.
- أما تحليله لأبطال آرثر ميلر في مسرح الحديث والمعاصر، فكان من خلال مسرحية "موت بائع جوال"، وهي عمل تعبيري أمريكي ينطلق من بنية واقعية بحثة، وعمل يتسم بالبساطة والذكاء والعمق النفسي للأبطال، كما يتسم بالوعي الاجتماعي والسياسي لواقع المجتمع الأمريكي. والمأساة في هذه المسرحية لم تعد شكلا ثابتا مستقر الملامح، كما كانت في الماضي، بل هي مجموعة من السبل (ربما اختلفت أو تناقضت من ناحيتي الدافع والمعالجة) لكن تأثيرها الحاصل في النتيجة يخلق إحساسا قاتما حزينا، بيد أنه لا يخلو من إيمان الهدم والبناء: هو إحساس يتساءل عن مصير الإنسان في صراعه مع قوى عاتية، ربما كانت قوى ما وراء الطبيعة (كما عند الإغريق)، أو قوى لا معقولة، أو قوى عدم الفهم الذي يقف حاجزا بيننا وبين الآخرين (كما في مسرح العبث)، وربما كانت قوى اجتماعية مستغلة أو ظالمة (كما في المسرح الاشتراكي)، أو قوى نفسية أو عقلية مدمرة تنبعث من باطن الإنسان (كما في المسرح النفسي).
- ثم تناول الكاتب مسرح العبث من خلال مسرحية "في انتظار غودو" لصموئيل بيكيت، والتي تعد مسرحية أثارت من النقاش ما لم تثره مسرحية أخرى معاصرة تقريبا. وأكد الكاتب أن مسرح العبث ليس مسرحا جماليا محضا بلا مضمون، وأن كتَّابه لا يكتبون لأنفسهم فقط بل للناس. ورغم غرابته وتهريجه وبؤسه وعربدته فهو مسرح مأساوي روحا رغم رداء الكوميديا الصارخ. والمأساة فيه لا تقل فجيعة عن المأساة اليونانية، فهو مأساوي بسبب الإحساس بفراغ الكون وغياب العدالة والمجد في رحلة تهدد الإنسان فيها أنياب الذئاب الشرسة خلف منعطف المجهول.

 وقد جمع الكاتب رياض عصمت في هذا الكتاب مجموعة متباينة ومتضاربة من الأبطال التراجيديين الذين يتراوحون بين أشباه الآلهة (أوديب مثلا) وأشباه المهرجين. والاهتمام بالبطل التراجيدي هو ما طور بعض من أهم اتجاهات المسرح الحديث في الإخراج والتمثيل، وهذا الكتاب قام فيه الكاتب باختيار نماذج فقط من الكتاب العالميين الذين أعجب بهم، وإن كان لأسباب موضوعية أو اعتبارية، فإنه قد أغفل بعضا ممن برعوا في رسم صورة البطل التراجيدي في المسرح الحديث خاصة، مثل يوجين أونيل، وأنطون تشيخوف، وتينسي، ويليامز، شون أوكيسي، وغيرهم.

قريبا: العدد "العشرون" من مجلة الصقيلة في النقد والإبداع




























عن منشورات “الراصد الوطني للنشر والقراءة” وبدعم من وزارة الثقافة والشباب والرياضة (قطاع الثقافة)، سيصدر قريبا العدد العشرون لمجلة “الصقيلة في النقد والإبداع” (مجلة أدبية، فصلية، محكمة تعنى بالنقد والإبداع)، وسيتضمن العدد مواد إبداعية ونقدية متنوعة، حيث في ركن إبداع سنجد نصوصا قصصية كالتالي:
1- "قميص محمود درويش" للقاص الراحل محمد أنقار.
2- "استعصاءات" للقاص محمد الشايب.
3- "قصص قصيرة جدا" للقاص عبد العزيز كصاب.
4- "التائه" للقاص أيوب قراو.
5- "الزيارة" للقاص عبد الهادي شفيق.
6- "وليام بروز والغرفة والست طلقات" للقاص إلياس الطريبق.
أما في الشعر:
1- "جواز سفر" للشاعر الراحل محمود درويش.
2- "في رثائك أبت" للشاعرة آمنة الجويلل.
3- "البئر الخرساء" للشاعر عبد الجليل جابري.
4- "مفتتح للقصيدة" للشاعر عبد الناصر الجوهري.

وفي ركن نقد وفكر سنجد الدراسات التالية:
1- "تجربة سعد الله ونوس المسرحية من تخوم النقد إلى رحابة نقد النقد سيرورة الإنتاج المعرفي في "المسرح والأمل" للناقد حسن يوسفي" للباحث يوسف أمفزاع.
2- "تجليات السخرية في قصص "أسماء لا تجيد السباحة" للقاص عبد المجيد رفيع" للباحث رشيد أمديون.
3- "شعرية الالتزام في قصائد الشاعر محمد علي الرباوي" للباحث عبد الغني الخلفي.
4- "رنين الحلم في شعر جواد المومني قراءة في ديوان "ريثما يعتريني الحجر"" للشاعر الشريف ايت البشير.
أما بخصوص ملف العدد (خطاب السجن في السرد العربي)، فستكون عناوين الدراسات كالتالي:
1- «خطاب السجن في السرد العربي قراءة في رواية " ليال بلا قمر" لعبد الرحمن خواجا» للباحثة البتول المحجوب.
2 - الهُويّة سِجناً: أزمة الذاتِ وسطوةُ جُغرافيّةِ الآخر السياسي (قراءة في مذكرات "سنوات الرمل" لحماد البدوي) للباحث ياسين معيزو.
3- «من سجن الجسد إلى سجن النفس والمجتمع قراءة في رواية "الحلم لي " لحليمة زين العابدين» للباحثة سناء حربول.
4- «خطابُ الألمِ في الروايةِ السجنيةِ المغربيةِ "كان وأخواتها" و"العريس"» للباحث جواد السراوي.
5- «خصائص كتابة الاعتقال السياسي: "كان وأخواتها" و"الزنزانة رقم 10"» للباحث محمد دهاب.

وفي ركن الترجمة هناك:
1- مقال "القارئ المتعاون" لدومنيك مانغينو، ترجمة: ميلود عرنيبة.
2- قصيدة "آية سفر التكوين" لخوسيه مانويل كاباييرو بونالد، ترجمة: عبد اللطيف شهيد.

وفي ركن مشاتل:
*الشعر:
1- "أنامل الصمت" للتلميذة حياة ترهنا.
*القصة:
1- "تنهيدة ألم" للتلميذة حسناء البينة؟
2- "المجرم" للتلميذ فاضل مساعد.
3- "من القاتل..؟" للتلميذة فاطمة الزهراء أوقسو.
4- "المجهول" للتلميذة ساجدة موطيس.
كما سيضمن العدد حوارا مع الشاعرة والباحثة مليكة العاصمي. وأيضا نجد في ركن مبدعون في الذاكرة، تستحضر "الصقيلة" الروائي والباحث الراحل إبراهيم الحجري، بمشاركة: الحبيب دايم ربي، شكيب عبد الحميد، عبد الله مرجان.

الغرابة المقلقة في "كافكا على الشاطئ"


بقلم: رشيد أمديون

ثمة أمر لا بد للقارئ أن ينطلق منه عندما ينهي قراءة رواية «كافكا على الشاطئ» للروائي الياباني هاروكي موراكامي، وهو أن هذه الرواية التي يقدمها هاروكي نص بمعطى غير جاهز، لهذا لا يكتمل إلا عند القارئ. فالأحداث تسير في سياق غرائبي وخيالي وأسرار ومضمرات ودلالات رمزية... وميثولوجيا وثقافة من الأدب والفن الإنساني، وعالم الأرواح والحلول، والاحلام، والإيروتيكية... لهذا يحتاج القارئ أمام هذا المزج أن يكون طرفا واعيا ومكملا للعمل بصفته المتلقي للرواية. وحيث أن النص محرض على البحث عن أسراره وتفسير عوالمه الغامضة انطلاقا من حوارات الشخصيات وكلامها وما تشير إليه مضمراته، ومن خلال سير الأحداث وعلاقة السابق باللاحق وعلاقات الشخصيات ببعضها. وقد تصدم نهاية الرواية القارئ حيث لا يجد إجابات عن كل الأسئلة التي حملها معه منذ بدأت الأحداث تتعقد أمامه خاصة وأنها لا تستند لمنطق عقلي أو تقع تحت قوانين فيزيائية، وهذا ما تشير إليه الرواية، يقول السارد: «كلما حاول هوشينو أن يفك خيوط المسألة، ازدادت حيرته من الأفضل ألا أحاول أن أعثر على المنطق». فالرواية غارقة في الخيال وأبعاده والفانتاستيك، والرمزية، لكنها مع ذلك تشد القارئ وتضعه في عالم الغرابة المقلقة، وفي حيرة (لتعدد عوالمها) وهو يقاوم أسرارها قصد الوصول إلى منطقة الألفة ليضع للرواية تفسيرا يشفي غليل فضوله المعرفي، لكن هل يصل؟ ذلك يتوقف على خيال القارئ وقدرته على التأويل والربط وخلق التمثلات المناسبة... فهذا ما يعرف بإعادة انتاج النص، ولكل قارئ قراءته الخاصة التي تستند إلى ما جاء في الرواية.
والنزعة الوجودية في الرواية تتبدا لكل من قرأها، حيث أن الأسئلة التي تغلي في مرجلها تتبنى قضايا إنسانية يرمز إليها النص ولا يصرح بها: الإنسان بين السلم والحرب، بين الصدق والكذب بين الحياة والموت بين الوجود والعدم بين الحلم والواقع، الروح والجسد... ثنائيات كثيرة تدعو إلى تأمل هذا المنجز الأدبي الياباني الذي يضع القارئ أمام ذاته وتصوراته وقدرته على تقبل الغرائبي لتشكيل رؤية عن الإنسان في مجاهل الحياة بحياد تام، هذه الحياة التي طرأت عليها تطورات كثيرة أثرت على إنسانية الإنسان.

  رواية «كافكا على الشاطئ» للروائي الياباني هاروكي موراكامي. تقع في 620 صفحة. الطبعة الثانية، اصدار 2010.

ثقافة يهود المغرب من خلال كتابات حاييم الزعفراني

 



إن القرون التي عاشها اليهود والمسلمين جنبا إلى جنب على أرض المغرب جعل الفرقتين معا تعتبر هذا البلد موطنهم وتاريخهم وذاكرتهم على حد سواء. ومن هذا البلد صار لليهود المغاربة موروثهم الثري بالأدب والفنون والشعر والفكر... تاريخهم في المغرب لا يشبه الواقع الذي عاشوه واختبروه في المهجر وفي الشتات الثاني. لهذا جاءت مؤلفات حاييم الزعفراني كتعبير عن الحنين لوطن كان ملتقى الثقافات والحضارات، واستعادة نبض تاريخي يمثل هوية وذاكرة يهودية مغربية يستعيدها حاييم الزعفراني محاولا حمايتها من الاندثار، فانطلق من كتابات خلفها يهود أسلاف، فشمل مجموع مؤلفاته معلومات قيمة يجتمع فيها التاريخي بالاجتماعي والديني بالفكري، دون إغفال أن هذه القيم التي لا تنفصل عن البيئة التي نشأت فيها (أي المغرب والأندلس)، حيث كانت العلاقات التي تربط اليهود بالمسلمين في هذا المحيط علاقة متينة بلغت مستوى الحوار والتلاقي، ذلك ما تجلى في الآداب الشفوية باللهجات المحلية (اليهودية الأمازيغية) و(اليهودية الأندلسية)، إضافة إلى الأساطير والحكايات الشعبية وتقديس الأولياء.

من خلال مؤلفات حاييم الزعفرانى حاول الكاتب والباحث المغربي عبد السلام شرماط أن يفتح أفقا للتعرف على ثقافة الآخر والذي هو في الأصل جزء من النسيج المغربي، هذا الجزء الذي نجهل عنه الكثير. ولهذا جاء كتابه «يهود المغرب في كتابات حاييم الزعفراني» ليلقي الضوء على مشروع حاييم الزعفراني في إحياء التراث اليهودي في الأندلس والمغرب والبحث في خصوصيات الطائفة اليهودية الاجتماعية والدينية والفكرية في فترة امتدت من القرن 15م إلى بداية القرن 20م. وقد صدر الكتاب عام 2021، عن مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع، ببيروت، ويتكون من 254 صفحة. تناول فيه الباحث الدارسة في ثلاثة فصول، استطاع خلالها أن يلفت الانتباه إلى أهمية مؤلفات حاييم الزعفراني بعد اطلاعه عليها ودراستها، فهي مادة خصبة تنير جوانب من حياة اليهود التاريخية والاجتماعية والفكرية والدينية، اشتغل عليها حاييم الزعفراني كاشفا من خلالها الغطاء عن تاريخ امتد لأكثر من ألفي سنة، أي لأول مجموعة غير أمازيغية سكنت المغرب واندمجت بالسكان الأصليين من حيث الأخلاق والآداب وطريقة التفكير. ومع مجيء اليهود من الأندلس تقوت العلاقات بين الجماعات المتعايشة في المغرب. كما أن اليهود عاشوا في ظل سلسلة من الإمبراطوريات (القرطاجيون، الرومان، الوندال، البيزنطيون) دون أن يفقدوا هويتهم وإن اختلف الدارسون حول زمن قدومهم.

قدم الباحث عبد السلام شرماط، في الفصل الأول، لمحة عن سيرة الزعفراني وأصول تسميته وانتمائه المغربي إلى مدينة الصويرة، ثم رصد مساره الأكاديمي من خلال مسيرته العلمية وتعدد اختصاصاته، وتكوينه الذي جمع ما بين التعليم العصري الحديث والثقافة التقليدية اليهودية والعربية الإسلامية، فكان متعدد الثقافات، بإتقانه اللغات العربية والعبرية والفرنسية، ومكنه تكوينه الأكاديمي في الحقوق ثم تحصيله للدكتوراه في العلوم الإنسانية في رسم مسار طويل من التدريس والبحث والإشراف العلمي... ثم من خلال نشاطه التأليفي الثَر بيَّن المؤلف أهمية مشروعه في إعادة الروح للتراث الثقافي اليهودي الموروث منذ العصر الذهبي للعبرية-العربية التي عاشت على أرض الإسلام. وقد خلف مخزونا علميا مهما تميز فيه الرجل بالموسوعية والانفتاح على شتى جوانب الثقافة اليهودية في الأندلس والمغرب، فقدم الباحث أهم أعمال حاييم الزعفراني ووقف عندها قصد الاطلاع على ما تختزنه الذاكرة اليهودية في الغرب الإسلامي، ومنها يهود المغرب بالخصوص؛ بما تركوه من إرث فكري يمتزج فيه التاريخي بالاجتماعي والديني بالأدبي والفلسفي. ولغزارة كتابات الزعفراني فقد اكتفى الباحث بتقديم قراءة تحليلية لبعض مؤلفاته التي رتبها وفق تعاقبها الزمني في الصدور، وهي كما يلي: «التربية في أرض الإسلام» 1969. «يهود المغرب؛ حياة اجتماعية، اقتصادية ودينية» 1972. «الشعر اليهودي في الغرب الإسلامي»1977. «ألفي سنة من حياة اليهود»1983. «القبالة؛ تصوف وسحر 1986. يهود الأندلس والمغرب»1996.

في الفصل الثاني، تناول الباحث حياة اليهود بالمغرب، مخصصا المبحث الأول للحياة الاجتماعية والاقتصادية ليهود المغرب، حيث تتكون هذه الطائفة من مجموعتين؛ اليهود البلديين (توشفيم) وهي مجموعة ارتبط مجيئها إلى المغرب تاريخيا بمجيء الفينيقيين، والطائفة الثانية تسمى مهجرين (ميكورشيم) وهم الذين وفدوا على المغرب خلال تهجير اليهود من الأندلس عام 1492م. ورغم اختلاف المجموعتين في الأصل واللغة والثقافة فقد عاشتا جنبا إلى جنب، وسهر على شؤونهما مسؤولون في إطار مجلس عني بخدمة مصالح اليهود وهو مجلس الطائفة (الأحبار، الأعيان، شيوخ الطائفة، أخيار المدينة، نخبة البيعة أو رعاتها، أشراف الطوائف، نخبة أو منتخبو المجتمع، الطبعة المهيمنة). وتمتلك الطائف اليهودية مؤسسات عدة تتميز كل واحدة منها بوظيفة تؤديها تتمثل في: البِيعة، الحبوس والأعمال الخيرية، إصلاح الأخلاق، التعليم اليهودية. وتتميز الحياة الاجتماعية اليهودية بمظاهر اجتماعية مختلفة يتداخل فيها الديني بالسحر من خلال طقوس وشعائر تعبر عن لحظات الوجود المتميزة التي سادت الحياة اليومية لليهود: الولادة، الختان، واختيار التسمية، وظروف الطفل في الوسط العائلي، ثم طقوس الزواج من خطبة، وعقد القران، والصداق... وبيَّن الباحث أن للزوجين وعائلتيهما الحق في اختيار واحدا من النظامين في الزواج: النظام التقليدي؛ وهو يستقي أسسه من التشريع التلمودي القديم ومن الأعراف والتقاليد.. والنظام القشتالي؛ وهو نظام يهتم بالأحوال الشخصية والعائلية ويعرف بالإصلاح والتعديل، وكان يعمل به يهود الأندلس المهجَّرون إبان الاضطهاد الإسباني المسيحي (1492م). ثم تناول هذا البحث في إطار ما هو اجتماعي تعدد الزوجات في النظامين التقليدي والقشتالي، وما يتعلق بـقضية "العاكونة" وهي المرأة التي غاب عنها زوجها وتركها معلقة.

كما تناول هذا المبحث ما تعلق بأحوال الطائفة اليهودية وما يخص متابعة شؤونها اليومية... ثم تطرق للمشترك اليهودي الإسلامي، إذ أن يهود المغرب عاشوا حالة تساكن وتعايش مع المسلمين لقرون طويلة لهذا اشترك اليهود والمسلمون في المغرب في مظاهر ثقافية ونسجت بين الطرفين علاقات متينة تجلت في سلوكهما اليومي، وفي عاداتهما وتفكيرهما رغم اختلاف المعتقد، فشارك اليهودي المغربي جاره المسلم في الإيمان ببعض الاعتقادات كالخوف من العين، والجن، فيعمدان إلى استعمال ما يعتقدان فيه حصنا لهما كالتمائم واتخاذ الخميسة، والتشبير، واللجوء إلى الأولياء، بل وصل ذلك إلى حد توافقهما أحيانا على زيارة نفس الولي.

أما فيما يخص الحياة الاقتصادية فقد لعبت عائلات يهودية دورا كبيرا في المجالين الاقتصادي والسياسي وهي في الغالب عائلات قدمت من الأندلس كعائلة "روتي" وعائلة "بلاشا" و"ميمران" و"طوليدانو" وأبناء عطار" و"أبنسور" و"سرفاتي" و"كوريات" و"المليح" وغيرهم كثير... بينما كانت تزاول أغلب العائلات الأخرى من اليهود التجارة والصناعات الحرفية كصناعة الحلي وسك النقود، أما الفلاحة فإن أقلية منهم من زاولها لأنها في نظر اليهود من المهن الدونية اجتماعيا.

واشتغل الباحث في المبحث الثاني على رصد الحياة الشرعية والأدبية لليهود، والحياة الشرعية التي تخص أشكال المعرفة اليهودية، بما فيها الفكر التشريعي المتعلق بالشريعة اليهودية "هلخة" من صلوات والشعائر التعبدية، ما ارتبط منها بالقبالة وحياة التصوف وما تأثرت به من المعتقدات الفلسفية.. أما ما يخص الأدب اليهودي فيشمل كل من الأدب القضائي من مجموعة من التقانوت (أي الفتاوى)، ومنتخبات من القرارات القضائية، وأدب النوازل الذي سطر اليهود خلاله إطارا لحياتهم وفق المحيط الاجتماعي الذي يفرض طابعه المحلي، وعليه لعبت الفتاوى دور الرابط العضوي بين الطوائف اليهودية المشتتة، وساهمت الأعراف "المنهاك" في إثراء أدب الفتاوى. كما يشمل الأدب اليهودي مؤلفات هلاخية أي تشريعية، ثم الشعر الذي ارتبط ارتباطا وثيقا بالصلاة والطقوس والفلكلور، وتظهر عليه سمات العروض وتقنيات النظم الشعري العربي الأندلسي أكثر من أية سمة أخرى. كما أن الأوزان العبرية متشابهة في تفعيلاتها مع أوزان الشعر العربي، وقد تطرق حاييم الزعفراني في دراسته الشعر في الغرب الإسلامي إلى نماذج شعرية تتوزع بين التوسلات والأدعية والابتهالات ألفها شعراء مغاربة هم «يعقوب ومسى وشلوم أبنسور». ومن ألوان الشعر اليهودي: أناشيد ومرثيات "باقشوت" (وهو شعر وجداني)، وشعر الابتهال "التحنوت" (وهو شعر التضرع)، وأناشيد الحب "أهابوت"، ويرتبط الحب في هذه الأناشيد بحب الله لإسرائيل، والحب المرتبط بفكرة الاصطفاء والخلاص. ويشمل الأدب اليهودي كذلك الكلام المسجوع «ميليصاه» وهو نثر موزون ذو جمل قصيرة ويعتمد التواتر الصوتي (التطريز). ثم هناك أدب القبالة والأدب الشعبي الذي يلتصق بوجدان العامة ويسهم في نقل المعارف والعادات والأعراف، وهو سجل عني احتفظت به الذاكرة اليهودية. والإبداع الأدبي، المكتوب والشفوي، لا قيمة لدراسته بمعزل عن أشكال الفكر الأخرى، لذلك فهو جزء لا يتجزأ عن التاريخ.

وفي الفصل الثالث عقد الباحث مقارنة بين ما كتبه الزعفراني وما كتبه وألفه آخرون باللغة الفرنسية عن يهود المغرب وسعى في ذلك إلى تقسيم هذه الدراسة المقارنة إلى ثلاثة مباحث تناولت وناقشت مواضيع تاريخية وجغرافية وفكرية، تعطي فكرة مفصلة عن الدراسات التي تناولت موضوع يهود المغرب وكيف استعرضت الكتابات الفرنسية، خلال القرن العشرين، جميع جوانب حياتهم التاريخية والاجتماعية والدينية والاقتصادية وما تباناه ملوك المغرب (منذ الأدارسة إلى العلويين) من موقف طيب إزاء اليهود وخاصة في فترة (1822-1912). وتعد تلك الدراسات متعددة ومتنوعة بل ومتداخلة ومتشابهة في طرح القضايا، بخلاف ما ميز كتابات الزعفراني، إذ يعتبر ما قدمه الرجل تضمن موروثا فكريا يهوديا كان القصد منه إعادة إحيائه وبعثه والحفاظ عليه ونفض الغبار عنه ورفض ما يسمى بالتاريخ المليء بالدموع.

إن ما قدمه الزعفراني عن اليهودية المغربية من أبحاث، يعد مخزونا علميا يحظى بالاهتمام والدرس. حيث انكب على البحث منذ خمسة عقود من الزمن بهدف بعث فكر يهودي ظل حبيس سنوات طوال، وضمنه سعى إلى إثبات الهوية اليهودية، انطلاقا من كتابات خلفها يهود مغاربة، سواء تعلق الأمر بالتربية أو القانون أو الإبداع الشعري أو التفسير التلمودي أو النثر الفني أو الكتابات الصوفية والسحرية. فقد شكلت كل هذه الكتابات مادة قيمة يجتمع فيها ما هو تاريخي بما هو اجتماعي وديني وفكري. واكتفاء الزعفراني بمهمة البحث في الموروث اليهودي جعل الباحث عبد السلام شرماط في ختام الكتاب يتساءل كيف سيتحقق المستقبل الذي تمتد جذوره بعمق في ماضي يهود المغاربة؟ وكيف ليهود الشرق والمغرب أن يعيشوا حياتهم كما في الماضي، وهم بعيدون عن أوطانهم؟ وهل دراسة أشكال المعرفة اليهودية والتعرف بها كافية لإعادة اليهود إلى أوطانهم وإقناعهم بالرجوع إليها؟

رشيد أمديون

 

 


Join me on Facebook Follow me on Twitter Email me Email me Email me Email me

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | تعريب وتطوير : قوالب بلوجر معربة