الوصف
‏إظهار الرسائل ذات التسميات دمعة وابتسامة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات دمعة وابتسامة. إظهار كافة الرسائل

أَڭْـــنـاوْ

الرجلُ كان عملاقا قوي البنية، حاد النظر، مكتنز الأرداف ناصع الوجه...
ونحن كنا صغارًا في عمر البرعم، نخافه ونستلذ متعة الخوف النادرة بمشاكساته.
كانت تثير ضحكنا بقعة جلدية منتفخة على جانب جبينه العريض المتفصد عرقا على الدوام. نسخرُ منه، فيطاردنا وسط فضاء القرية ملوحا بذراعه القوية كمن يلاحق سرب طيور هارب. يركض خلفنا كثور هائج، ماسكا بطرف جلبابه كي لا يُعثره. يهتز جسده كله وركبه كأنها ترج الأرض رجا، أو هكذا كنا نحسب ونحن صغار. وبلغته البالية تدعسُ التراب وتقذف الحجر الذي يتعرض سبيلها، تزجه بعيدًا. كان جلدها الذي صُنعت منه أصفرا فاقع اللون قبل أن يُحوّلها القِدَمُ إلى نعل مرقع لا لون له. يُخيّل إلينا أنه اشتراها من سوق الأسبوع منذ زمن غابر قد يكون قبل ولادتنا بسنين. لكنه كان يجيد العدو بتلك البلغة الأثرية، فنفر كنمل انتبه إلى ناقوس الخطر فاستجاب له مكرهًا.
كفه تتوعدنا... صوته الجهوري يَصدر من بين شدقين واسعين. يتطاير اللعاب من فمه مع كلامه الغريب كطلاسم منطوقة تُحدث في نفوسنا رعدة يتولى خيالُنا الصغير ترجمتها إلى أن من يطاردنا ليس كالبشر، إنه مخلوق آخر... فإن أمسك بأحدنا سيبتلعه دون شفقة.
كان بإمكانه أن يمسك بنا، لكنه لم يفعل. إنه لا يريد.

قالت الجدّات وهن يلوكن الكلام بأفواه لم يبق فيها أثر لسِنٍّ: إن "أَڭْـــنـاوْ" -كما صار يطلق عليه الجميع- في سابق عهده كان إنسانا عاديا لا يختلفُ عن الناس في شيء، يُحدِّثُ الناس ويحدثونه. كان شابا قويا عملاقا، صاحب عضلات مفتولة كما ترونه الآن. حلق شعره الطويل كله ذات نهار ماعدا ضفيرة في قفاه، أرسلها خلفه في تباه، كي تميزه عن باقي الشباب. فانطلق راكبا بغلته التي حثَّها على الركض فأطلقت قوائمَها للريح تريد أن تسبق القدر إلى حيث يمَّم.. على ظهرها كان هو كفارس همام، يلاعبُ الريحُ ضفيرتَه المصقولة، فأصابته نظرة شاردة من عجوز كسهم مسموم، تمتمت كعادة كل العجائز... لم تكد ترد طرفها حتى تعثرت بغلة أَڭْـــنـاوْ طرحته أرضًا. من يومها صار اسمه أَڭْـــنـاوْ... الرجل الأبكم.. يُهمهم ولا أحد يفهم ما يقول، لا أحد يفهم صياحه إلا إن أسند إليه الإشارة بيديه.
قالت لنا النساء: لا تسخروا منه، إنه من يفعل ذلك يصبه ما أصابه.
ما كان يعنينا الأمر في شيء. شُغلنا الشاغل هو كيف تحوَّل إلى شخص يطاردنا حين نلعب تحت أغصان الشجرة العجوز التي تتوسط القرية. هذه القرية التي شهدت سقوطه الأليم كما تقول العجائز حين يحذرننا بمزاج العارفات. إنه يلاحقنا في كل الأماكن.. يبحث عنا كي يتوعدنا، فتنمو سخريتنا أكثر.
كلما زاد نفورنا منه زاد قربه منا.
يقف على مكان مرتفع جاعلا بيننا مسافة فاصلة فيحرك رأسه الكبير الأصلع. لم نر قط في قفاه ضفيرة، ربما كانت من أثر الشباب وتخلى عنها كما تخلت عنه قدرة النطق يوم وقع من دابته. تثيرنا طلاسمه حين يصرخ ببربرة لا يفهمها إلا هو. يستفزنا، فنشير إلى جبهته المتورمة.. يثور، ثم نفر بلا هدى.
هكذا.. وتمضي الأيام، ساحبة العمر معها...
تاركة أَڭْـــنـاوْ كوشم في ذاكرتنا.

ودعتُ القرية، وفارقت موطن الطفولة.
فارقت رفاق الصبا..
مضى كل إلى غايته، وابتلعتنا المدن كدوامة وسط بحر الحياة، وكبرنا.
حتى أَڭْـــنـاوْ كبر أيضا وصار شيخا هرما، ورحل من القرية إلى المدينة عند أبنائه ليحظى بالعناية والعلاج. اشتدَّ عليه المرض وفتُرَ جسده، فوجدتني يوما أزوره بعد سنوات وعقود فرت بي هاربة.. تغيرتُ فيها وتغيرت أفكاري و العالم حولي تغير...
الحياة أيضا تبدل طعمها، شكلها، ولونها... وانسابت كماءٍ يجرف معه كل شيء.
لم أحمل معي في جرابي ذاك الخوف الذي كان سببا في نفورنا من أَڭْـــنـاوْ، تركته هناك تحت أغصان الشجرة العجوز في تلك القرية الأطلسية العريقة. تركته يوم غادرتها، هو أيضا ترك كل شيء هناك، مرحه زعيقه، بطشه، حتى قوته وحياته.
نظرت إلى جسده النحيل المسجى. سلب منه المرض صلابته. لم أنس شكل العملاق الذي كان يرعبنا ويطاردنا... كنا نحبه! أكيد كان يحبنا أيضا وإلا لمَ لم يمسك بأحدنا يوما. لم يؤذنا جزاء سخريتنا...
نظرت إلى وجهه الغائر، الذابل. اختفت نضارته، امتصه المرض وتلا الزمان عليه آيات الختام. انحنيت فقبلت جبينه الصلدة، ورمقني بنظرة منطفئة على مشارف الوداع تُنازعُ الظلامَ حقها من النور في هذا الوجود. لا أدري هل عرفني أم أني حينئذ لست سوى بعض ضباب الماضي البعيد. قرأت النهاية في عينيه وسلامًا مطمئنا ووداعا ساريا كشمس تغادر مرافئ المدى إلى مستقرها. وكنت أبحث في وجهه عن شيء من الماضي، شيء يذكرني بأيام، وبي أنا الطفل الذي اشتاق لنفسه، وراح يبحث عن أثره..، فما وجدت غير بقعة الجلد المتورمة. إنها أبت أن تتلاشى. بقيت كما هي على جبهته وفية...
ما عادت تثير ضحكي!.
حينئذ قلت سرًا: إن الحياة أكبر مستفز اليوم واللحظة، إنَّها هي من تضحك علينا، يكفينا أننا نركض خلفها رغم خوفنا منها.. هي ليست كـأَڭْـــنـاوْ الذي كان يركض وراءنا ونهزأ منه، نسخر من شكله.
الحياة سمعتها وأنا أشيع جسده النحيل بنظرات الوداع، هامسة تقول: وبعد قوة ضعفا...
أي ضعف هذا الذي نفض الغبار عن وشم بالذاكرة!..
نزلت دمعتي باردة، فأشعرتني بغصة في حلقي.
قلت: ليتك يا أَڭْـــنـاوْ تقوم من سرير الوداع هذا لتطاردني الآن..
لتردد زعيقك العتيق!
ليتك تفعل...
ليتك
تـ فـ عـ ـل.


يدٌ، وعينٌ.. والكلام


هل كنتُ لأبكي لولا ذاك الدّفء الذي تركتهُ على رصيف المحطّة؟، إنّي تركتك واقفة قُبالته، كأنه مازال يحتويني، ورأيتك تضمينه كما كنت تضمين رسمي.
لم أحمل معي غير ملامح إشارة يدك المتعبة التي لوّحتِ بها ببطء. بدت مثقلة بحزن أنهكها، لم تكن إشارتك عادية. إنّها تشير للمستقبل، تشير بعييييدًا، ولم يخفَ عني ما تعنيه، لم يخفَ...
حركتُ يدي عن غير قصدٍ، أو ربما حركتها كي أردّ تحية الوداع. يدي ثقيلة، كأنها تأبى... حاولت، فاهتزت من كفّي بقايا عطرك، كان يغني لي أغنية فيروزية تنعش أنفاسي المتعبة من رائحة الوداع الخانقة.
كم هي أنسامك فردوسية!!.
فخطَفَـتني من نفسي. روحي اِنْتُـشِلَت من جسدي. من قاع سحيقٍ رفعتُ رأسي فرأيتُ عينك الذارفة، ووجهك الخجول كشمسٍ على أهبَة المغيب. وتلك الحمرة النازلة تشوب أفقي الضيّق...
وعندما تحركت عجلات القطار، التي بدأت بطيئة في البداية وسرعان ما انطلقَ عزفها السّريع، نظرتُ إليك هناك، على الرصيف. يدك كانت كحمامة برية ترفرف حول عشّ فراخها. كان الحنان يشع، يملأ المدى. وحدي أنا من فهم شفرة تأرجحها ورفرفتها، وحدي المعني لا غيري...
بقيتُ أسأل، هل كانت دمعتي تغادرُ مرافئ العين لتشق طريقها بين المآقي لأنها ضجرت بالمكان، أم لأنها حنّت لأهل المكان، أم لأن القدر أقوى من الإنسان، أم لأن موسم احتضارها قد حان؟
قلتُ لك يومًا: لا أعلم لمَ العينُ تُصَدِّقُ نبض القلب، فتستسلم له رغم أنّ أملَها يحدّثُها بأنَّ الوداع يقابله اللقاء، هما يتناوبان.
يومها حرّكتِ رأسكِ يمينا وشمالا. ولم أسألك لِمَ.
واليوم تأبى العينُ إلا أن تُصَدِّقَ القلب حين يقول:

- الوداعُ احتمال الفراق الأبدي، قد لا يُكتبُ لنا اللقاء.

رشيد أمديون

سقطت نجمةُ في الليل



معزوفةُ اللّيل... نباح كلابٍ، ونقيق ضفادع البركة المجاورة كفرقةٍ موسيقية راق لها العزف.
انسحبَ السكونُ الليلةَ من الدوّار بعدما تسلّلَ صوتٌ جديدٌ إلى هذا العزفِ الليليّ فغادر النّومُ عيونَ كل الأهالي.
دارُ "عبدِ السّلام ولْدْ رحمة"، مُتزيّنة بمصابيح ملوّنة، أخضر، أحمر، أصفر. باحتها الأمامية تحولت إلى معتركٍ تُثير فيها الأقدامُ النّقْعَ. فوق الرّؤوس تشكلت سحابة من بياضٍ مُغبرٍ تُرى من بعيدٍ، يعكسها ضوء المصابيح المتوهجة التي تحوم حولها حشرات طائرة وبعض خنافسِ الدوّار التائهة. خرجت من مخابئها باحثة عن مصادر الضوء المشع... خرجت مع من خرجوا لتلبية الدعوة.اشتدّ الرفس بالأرجل والضرب على الطّبل، والدفوف تتراقص في الهواء فرحةً سعيدة. والغايطة تنادي صارخة أنْ هلمّوا إلى "الْهَيتِ"*. فامتلأ سطح الدار وساحتها...
نسوة تسوق زغاريدًا حادة تركبُ أمواجَ الضجيج.
رجالٌ في ركن يتحلّقون حول صينية كبيرة ينتظرون امتلاءَ الكؤوس. وقنينة غازٍ صغيرة عليها مقراج نحاسي عملاق ينفخُ البخار بغضبٍ شديد كبدين أنهكه الركض.
العرْبي نشطٌ، كأنّ نجمة السّماءِ المضيئة الليلة في يده. همس إلى رفاقه، أنّه مستعدٌ لشرب برميل خمرٍ...
فهذه ليلتي التي انتظرتها...
دارتِ الكؤوس في زاويةٍ ما. مشى السّكارى واهتزت أجسادهم بلا استقرار...
الحشراتُ الوافدة من الظلام ترقص محتفلة بضوء المصابيح إلى أنْ تسكرَ فتسقط على الأرض وعلى رؤوسِ الضيوف.

 حضورُ طعامِ العَشاءِ أخرسَ ضجيجَ فرقة "الغايطة والطبّالة"*، وشلّ حركة المترنحين. وحده النباحُ  المتقطع، وصوت سرب الضفادع المستمر امتزج بسكون الليل الرتيب.
انفضّ الناس بعدما شبعوا. غادروا إلا بعضهم. أطفِئت المصابيح. فتلاشت الخنافس والحشرات ابتلعها مكانٌ ما. وبرز نور نجمة السماء، فاختفى العربي بمنكبيه العريضين داخل غرفة وأغلق عليه الباب. جمهور من عائلته وعائلة العروس في انتظاره.
كانت العجائز أمام الغرفة يجلسن على الأرض ينتظرن... اشتد لغطهن إلى أن دبّ المللُ في نفوسهن، فصاحت إحداهن بدا أنها جدة العربي:
- أوْلاد اليوم ما تيحمْروشْ الوجَهْ...*
ردّت عليها فاطْنة كأنها تنهرها:
- وانتِّ اصبري. مالكي على هاذ الزّرْبة*... الرجل يالله دْخل..
هزّت كتفيها الهزيلين، وأطبقت فمًا بلا أسنان، لتُحدثَ صوتا:
- أشمن راجل؟ الرجولة مشات مع جده... سوْليني أنا.
أصاب هذا الحديث آذان رفاق العربي، وكانوا في الخارج عاكفين، فهمس عليّ في أذن جاره مازحًا:
- موحالْ هاذ المسخوط واش اقضيها... لم يمنع عن نفسه خمرا ولا حشيشا.
قامت جدة العربي بعد صبرها المرير تطرق الباب من الضجر. كفها مخضّبة بالحناء حتى اسودّت راحتها. تتمتم: تأخر هذا المسخوط...

بدأ الليل يفقد سوادهُ تدريجيا ويستسلم لبعض ملامح الفجر حين انفرج الباب، فاستعدّ الجميع...
النساء تأهبن ليطلقن الزغاريد إعلانا عن تحقيق النصر المنتظر. أخيرًا سيرفعن العلم عاليا أمام أعين الحاسدين، المتربصة التي تتمنى لعائلة "عبد السلام ولد رحمة" الشماتة... وها هن الشابات يستبشرن، وعلى شفاههن أثر نشيدٍ ينتظر الانطلاقة. نشيدٌ يرد بالحجةِ الكيدَ والعار.
انفرجَ الباب، خرجت رائحة العرق، فظهر العربي يترنح. بقع الدم على قميصه بارزة الاحمرار. ينادي على والدته العجوز... أمي و... أمي.
اقتربت منه، سائلة:
- ماذا هناك، واش صافي؟
- لا لا، دخلي شوفي هذي مالها؟
تهمّ باقتحام الغرفة، فتسبقها أمّ العروس...
تطلق من داخل الغرفة صرخة هيّجت نباحَ الكلاب في الخارج، وأخرست غمغمات الحاضرين ووشوشاتهم القبيحة.

صباحًا أرْقَدوا العروسَ في قبرها، كانت كنجمة انطفأ نورها.
تحدّث ناسٌ لم يحضروا العرسَ، أنّ العربي البغل، مزّق رحم عروسه باحثا عن الشّرف.

رشيد أمديون
 21/05/2013
.............................

* رقصة شعبية يختص بها أهل غرب المغرب في البوادي.
* نوع من العزف الشعبي، يستخدم فيه آلة نفخ وطبلة. 
* لا يرفعون رأسك (كناية عن الافتخار بهم)
*الاستعجال

وجاءت سيارةٌ


تأرجحَ فقيهُ "الدوّار" الجديدِ ذات اليمين وذات الشمال. عدّل جلسته وتربّع من جديد. أرخى (قبّ جلابته) (1) على وجهه، ثم أسفر عنه بعد أن طوى طرفًا من قبه فوق رأسه الأصلع وثبته جيدًا. تبسم ضاحكًا من سؤال (عزوز) الذي ظلّ فاغرًا فاه، منتظرًا جواب الفقيه، وكرر قائلا:
    - إيوا أش قلتِ ألفقيه؟(2)
    - فاش ؟(3)
لم يترك (عزوز) شُعلة سؤاله تخمد، وقد شكّل له قلقًا، فترنح من الشوق لمعرفة الجواب. وما كان ليسمح وهو العنيدُ أن يتلاشى استفساره بهبة ريح التجاهل أثناء تلفت الفقيه وتأرجحه كأن السؤال لا يعنيه في شيء.

كان يحلو لعزوز أن ينصت للقرآن الذي لا يكاد يفهم منه إلا ارتفاع وانخفاض الأصوات المنبعثة من حناجر القراء وهم يتحلّقون لتلاوة ورد المساء بعد صلاة المغرب، أو ما يلتقط سمعه من الكلمات، يفهم منها القليل بفضل ما تعلمه في سن باكر قبل أن يودّعَ الكتّابَ وداعًا أخيرًا. ها وقد نيّف على الخمسين، يجد نفسه مضطرًا لسؤال فقيه الدّوار عن كل شاردة وواردة.
وبينما هو في مجلسه القريب من حلقة القرّاء التي تضم بعض حفظة القرآن، وبعض أبناء القرية، إذ سمع من سورة يوسف: (وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم..).

سيارةٌ؛ كلمة استقرت في ذهنه، وأنتجت قلقَ السؤال المزعج. شاردًا يفكًر. شعر بالاستفزاز فكاد أن يقطع تلاوة الفقيه ليسأله، فتراجع... وأسرّها في نفسه قائلا:
    - إلى أن يقولوا: صدق الله العظيم، (لا زربة على صلاح).(4)

كان ما يزال منتبهًا يقظًا، يُحملِق في وجه الفقيه، فرد:
    - (ايوا الفقيه أشنو هي سيارةٌ... لي جات؟!).(5)
كحّ الفقيه متعمدًا، واستعاد ثقته بنفسه بعد أن تأرجح ما فيه الكفاية. نظر في عيون عزوز التي لم يغادرها وهج السؤال. ثم هز يده اليمنى يشير بها نحوه كأنه يعاتبه على جهله:
- (السّي عزوز واش ما عرفتيش سيارةٌ..؟! وهـــــــــــــــــي الطموبيل).!..(6)
رشيد أمديون 
27/01/2013 
_________________________________________________________________

1- القب: هو طرف من الجلباب المغربي يوضع على الرأس كالغطاء أو يترك منسدلا خلف الظهر.
2- ماذا تقول أيها الفقيه، (كجواب على السؤال)؟
3-  يعني في ماذا؟
4- لا خير في الاستعجال
5-  ما معنى سيارة... التي جاءت؟
6- سيدي عزوز آلا تعرف سيارة؟! إنها العربة.

جدارُ العار وغيمٌ لم يمطر


   غائمة هي سماؤكِ منذ رحل تاركاً في أرض اشتياقكِ بذرة أملٍ لم تَنْمُ.
لم يمنعك كبرياؤك المارق من التّمسح بذات الجدار، تمرين بقربه وتسحبين الخطى مجهدة، كمن أنهكتها الهزيمة. النظرات منك تختلس ما يُمتِعُ شهوة الذكرى في عمقك. تمتزج ببعض الحنق. تمتحُ ما يَروي صحراء إحساسك العطشانة لضمته العتيقة الغابرة التي ولى عهدها...
   لم تُنسِكِ الأيّـّامُ دفأه رغم تنقلِك بين الأحضان كمحطات الحياة البائسة.
نعم؛ هو الجدار نفسه، ثابت مكانه. كان يُسندُ إليه ظهره عند كل لقاء مختلس، حين تقابلينه وتهبينه ما خبّأتِ بين جناحيك من ودٍ طافح بلغ مبلغ السّكر، وما طاب به سخاءُ شفاهك من بسمات حارقة لكيانه الصبور...
هو نفس الجدار، لم يتزحزح كما الزمن والحال. ولم يؤثر عليه البلى.

     كان يمجّـدك بقول يذيب فؤادك. كأنه يمنحك مركبة خيال تعرجين بها إلى السّماءِ، تلمسِين الثريّا، تخلصِين إلى المُثل الأفلاطونية... وهناك، ذاتَ يَومٍ نسيت ذاتك فانتزع التّمرةَ المشتهاة. انتزاعَ رِضى.

    ما كُنتِ تـفتحينَ عيونك حين كان يُرتّل حديثه الشّبيه بتغريد العندليب. يأخذك الانشغال بلحنه الماتِع بعيدًا. ما كان جسدُك يقوى على الوقوف لولا أنّكِ تصمدين وتقاومين في إصرار، فتستمدّين شحنة النّشوة من همسهِ المُفعَم الباذخ، كي تعودَ إليكِ لذّتها في خلوتكِ مساءً حين يصفو حولك المحيط وتسكنُ حركات الجميع، وتُـفتح لك عوالمَ الأحلام ذات البعد الآخر.


   هكذا أنت اليوم؛ بيتٌ مهجور بسقف آيل للسقوط.
هيكلٌ ما عاد فيه للإحساس أثر.
ذبل الزّهر من ربوتك حتى صار القفر أجمل وأمتع.
الخواء، والفراغ صار عنوانك في كل ميدان حتى خِلتك خشبة مسندة. لا حياة لك سوى بين الأحضان...
غادر قلبك النبض... غادر قلبكِ النبض.
تتعطرين بأغلى العطور، تُسْجفين خَنزك الباغي. تنتقمين من جمالك – مشرقًا بالنور كان- بأحمر شفاهٍ خسيس.
تبيعين الهوى تحت جناح السواد، في شارع حالك تُعمّدُه أعمدة من النور بضياء ميت.
تسلكين سُبُـل الهلاك بعد زلّـة قدم ما ثبتت على أرض صادقة. تلاحقك النّـظراتُ والإشاراتُ وأشباه رجال يسيل لعابهم، يستهويهم خنزُك المعطّر بذوق مفتعل. يبتلعكِ الطريقُ مانحاً إيّاك لعنة العُهر، تسخرُ منكِ أثناءَ انقضاء كل ليلة تافهة.

قراءة الرسالة (ج:6) الأخير


القصة منقولة من اللغة الأمازيغية. لقراءة الجزء: الأول - الثاني - الثالث - الرابع - الخامس

الجزء السادس والأخير

ثم ناداهما متسائلا:
- من فضلكما متى انهارَت هذه الدّار؟ 
استغربتا منهُ حين طرحَ سؤالهُ بالأمازيغية. ظنتاهُ أوروبيًا من هوّاة السياحة بين قرى سُوس. 
ردّت عليه "لالّة فاضمْ": 
- بالأمسِ يا سيدي... تهدّمت.. 
باندهاشٍ واستغرابٍ قال: 
- أمس؟!! 
وهل تعرفينَ يا سيدتي أين هما المرأتان اللتان كانتا تسكنان فيها؟ 
- إنهما نحن يا سي... 
وهل تعرفينَ يا سيدتي أين هما المرأتان اللتان كانتا تسكنان هذه الدّار؟ 
- إنهما نحن يا سي... 
لم تكمل "لالة فاضم" كلامها حتى انبعث صوت الرجل، حنونا: 
- أمي.. أمي.. أنا "همّو".. 
في دهشة، استقبلتاه بالنظرات، فأسفرتا عن وجهيهما... أهو حقا "همّو" بكامل صحّته وعافيّة؟! أهو "همّو" بثغرة الباسم؟!.. الذي تشتهي الأبصارُ أن تراه... 
في لحظةِ اللّقاء، نسيتا ما مرّ علهما من محن. الاستسلام لنشوة اللّقاء السامقة ألهاهما عن كلّ شيء. إنّها لحظة ولادةٍ جديدةٍ وانبعاثُ أملٍ من تحتِ أنقاضِ الموت... لحظةٌ عاشتا لأجلها فطال انتظارهما.. 
انتشر الخبرُ في القرية. وعلِم الجميع أن "همّو" هو صاحب السيرك الذي حطّ الرّحال وسط الساحة. عظم مقامُه عند الناس وقد صار أرفعهم مكانة... اجتمع الأهالي في نفس اليوم بمنزل "بيهي" يرتشفون كؤوس الشّاي الأخضر . ويلوكون حبّات اللوز، كان "همّو" يحكي لهم عن مغامراتِه بعد هجرته إلى فرنسا حيث ظل عاطلا عن العمل ردحًا من الزّمن، ولم تسمح له كرامته أن يعودَ إلى بلاده متأبطًا فقره. الْتَقى بصاحب أكبر سيرك فاشتغلَ عنده كصانعٍ للفُرجَة. رافقه إلى كلّ بلدان العالم، فما ترك أوروبا ولا أمريكا ولا اليابان... 
كما أخبرهم أنّه عندما طالَ به المقام في السّيرك، تعلّم تقنيات جديدة، واكتسب مهارات أهلته أن يتجاوز مرتبة عضو يؤدّي الحركات البهلوانية إلى أن صار مروّض أسود وفيلة... وتعلم فن اللّعب على الحبال وغيرها... فكسب مالا كثيرًا. ثم شرع في شراء أسهم شركاء السيرك، شيئا فشيئا حتى امتلكه. 
حدّثهم عن هذه الأشياء كلها، واحتفظ لنفسه بالجزء الذي حوى المعانات والتحديات التي واجهته... الجوع والمرض والبرد والوحدة والغربة... كلّها اتّحدت ضده قبل أن يجد عملا. كان يجلب قوته اليومي بالنقود الزهيدة التي يمدها له بعض زبناء المقاهي أجرَ ما يقدمه من فرجة على الأرصفة أو داخل الحانات، غير أنّ هذا العمل لم يلجأ إليه إلا مكرهًا، بعد أن كاد الجوعُ أن ينالَ منه. ما كانت ممارسة نشاطه في بعض الأماكن سهلة، فما تعرض له من المنع من أرباب الحانات والمقاهي حين ولوجها أشعره بغصة في حلقه، كان بمجرد أن يبدأ حركاته يرسلون إليه حرسا شدادًا ينهالون عليه بالضرب ثم يطرحونه إلى الخارج ككلب متشرد. 
كان يبيت في غرفة ضيقة متسخة تعود لمغاربيّ عجوز لا يهتم بغير الخمر والقمار لاهيا في دنيا الفساد... هاجر هو كذلك إلى فرنسا منذ أزيد من خمسين عامًا، ولم يزر وطنه أبدًا ولا بعث برسالة واحدة إلى أهله... 
ذات مرة اشتد مرض "همّو" فلازم الفراش عدة أيام. وهن جسمُه تحت سطوة الجوع والبرد وانعدام من يعتني به، ورفيقه العجوز - كالقطط المتشردة- لا يعود إلى غرفته إلا بعد منتصف الليل. 
وذات صباح أغمي عليه، فأتى له العجوز بالطبيب. بعد أن فحصه، نصحه أن يحمله إلى المستشفى بسرعة وإلا فهو هالكٌ لا محالة. 

عندما خرج الطبيب احتار العجوز في الأمر، فخشي على نفسه. فإنْ حمله إلى المستشفى سيكتشفون أمر تستره على مهاجر انتهت صلاحية وثائقه القانونية. وزاد ارتباكه حين فكر أنه إنْ لم يفعل قد يموت على فراشه، وسيزداد الأمر تعقيدًا، وستكتشف السلطة كلّ شيء ويجني أضعاف المصيبة. لجأ إلى بعض أصدقائه طالبًا استشارتهم، فاقترحوا عليه أن يحمله في منتصف الليل ويلقيه على باب المستشفى... قالوا له: سيأتي حتمًا من سيراه ويخبرُ الأطباء. سيُعالجونه بدون أن تتورّط في الأمر. 
اتّبع العجوز اقتراح أصدقائه، فنقل "همّو" على سيارة لصديق له. ثم أنزله أمام باب المستشفى وفرّ مرتعدًا... 
حُمل "همّو" على وجه السرعة إلى غرفة الإنعاش بعد أن وجدوه طريحَ رصيفِ بابِ المستشفى. 
أمضى بعض الأيّام في العلاج، ولمّا أحس بتحسن هرب مخافة أن تعيده السلطة الفرنسية إلى المغرب إن أكمل علاجه واكتشفوا أن وثائقه منتهية الصلاحية. ثم عاد إلى عمله كما العادة في المقاهي وجوارها... 
أبصره ذات يوم رجلٌ يمتلك سيركًا، فأعْجِب بحركاته الرياضية ورشاقته... فاقترح عليه العمل معه. 
كانوا يرشفُون من الكؤوسِ الشّايَ السّاخن ويستمتعون بمضغ حبّات اللوز... وحدها متعة أخرى كانوا يتذوقونها بأسماعهم. متعة التعجب والتأثر والاستغراب، فحديث "همّو" مولّد لهذه المتعة حين أسهبَ في ذِكر عجائب الدنيا التي شاهدها بأمّ عينيه، وأخبار البلدان التي سافر إليها... 
ظلوا ينصتون إلى أن روى لهم الحلم الذي كان السبب الرئيس في الرجوع إلى قريته. نسوا كل ما حدثهم عنه من الأخبار والعجائب، فانبهروا ما بين المسبّح لخالق السموات ومن سبقته عَبَارَاتُه فتلألأت بين أحداقه... 

حكى لهم عن تلك الليلة. نائما، كان يحلم أنه رافق أمّه ليجمعا معا الحطب من الغابة، وبينما أمّه تجمع الأغصان التي قطعها، مضى نحو جدعٍ جاف، ثم شرع يكسره بفأسه ففوجئ بطير عظيم الجسم أمامه، له ريش رائع. انبهر "همّو" وظل ينظر إليه في استغراب، فانتفض الطائر من مكانه ممسكا بـ"همّو" بمخالب إحدى رجليه، ثم طار به في السماء... لم يرتبك "همّو" بل أعجبه الموقف الممتع. راق له أن يُحلّق في الهواء، وجد راحة لم يشعر بها من قبل... عرج به الطائر العملاق مُرفرفًا بجناحين طويلتين يمددهما، متجهًا نحوَ نورٍ عظيم... وعندما اقتربا من شعاعه، نظر "همّو" نحو الأرض فلمح والدته كأنّ بها جنون. تترنح بثياب متسخة ممزقة، وعليها غبرة. شعثاء الرأس تركض حافية بغيرِ هدى ولا رشد. الدم في قدميها اختلط بالأوساخ والتراب. زاعقة بكل قوتها: (همّو... ولدي أين أنت..) 
أبصرها من بعيدٍ في تلك الحالة، فألمّ به الحزن، اغتمّت نفسه... أعياه النداء بأعلى صوته كي تراه، فلما لم تسمعه، رفع بصره إلى الطائر يناديه كي يتوقف عن الطيران وينزله إلى الأرض. لكنّ الطائر تجاهل النداء غير آبه واجتهد في الصعود... حاول "همّو" بين قبضة الطائر أن يتحرر من مخالبه فلم يفلح. كان الفأس ما يزال في يده، فوجه ضرباته نحو ساق الطائر. فبدأ ينزف، وظل ممسكا بـ"همو" ولم يتركه، فلما أوشكا أن تبتلعهما تلك البؤرة المشعة تمكّن من قطع ساق الطائر، فهوى من السماء... وهنا استيقظ من نومه منفزعًا، وقلبه يخفق بشدة، وجسده يتصبب عرقًا. 
حين أكمل حكاية حلمه، قال له أحدهم: 
- إنه نداء "لالة فاضم" المسكينة. لم يكن يسيرًا ما مرّ عليها من محن... قد جئت في الوقت المناسب قبل أن تتشرد بعد أن تهدّم منزلها... 
كان عليّ بن "بيهي" يسمع حديث الرجل فتذكر ما حدث له، فقال لـ "همّو": 
- لماذا لم تكتب الرسالة بالأمازيغية؟ 
انفجر الجميع ضحكًا.. 
فأخرجت "لالة فاضم" رسالتها من صدرها، وأعطتها لعلي، قائلة: 
- خذ واقرأها علينا من جديد... الآن بيننا "همّو" الذي سيخبر الناس إن كنت تتقن القراءة... 
تعمّدت "لالّة فاضم" أن تقول ذلك، حيث أن عليا ذهب عندها يوما، وأقسم أنه قرأ رسالتها، فردت عليه ردًا طيبا: "أعرف يا ولدي أنك قرأتها". فاستغرب وسألها: "وكيف عرفت؟!" فردت عليه: "قرأت يا بني ذلك في عيونك الجميلة". 
وقف يقرأ ويتهجى الحروف بتمهل حتى أكملها، ثم التفت إلى "همّو" ينتظر ملاحظته. تبسم ضاحكا ملأ فمه وصفق له بحرارة، فقال: 
- أحسنت يا بني... قرأتها كلها، إنك بارع في القراءة. 
كان الاستغراب باديا على وجوه الحاضرين وهم يبادلون النظرات بينهم في دهشة، غير مصدقين أن عليّا استطاع قراءة هذه الرسالة... 
- "لكني وإن قرأتها لا أفهم ما كتبت فيها". قال عليّ. 
فرد عليه "همو" مبتسما: 
- لم أكتب فيها إلا أنّي بخير، وأبعث بسلامي إلى أمّي، وأهل بيتي، وسكان القرية كل واحد باسمه. وكتبت فيها أني وصلت إلى الرباط، وأنّي سأحضر إلى القرية في هذه الأيام... 
فقال عليّ بسذاجة: 
- لو أنك عدت إلى القرية قبل هذا الوقت، لعلم أهل القرية كلهم ما كتبت في الرسالة عندما قرأتُها عليهم دون أن يحملوا همها... 
فضحك الجميع من جديد. 
وانصرف "همّو" إلى المكان الشاسع الذي تم فيه تشيد خيمة السيرك. وأخبر جميع سكان القرية بالحضور إلى وجبة العشاءِ بمناسبة عودته. 
وفي المسَاء كانت القرية منيرة بأضواء مصابيح السيرك، لا أثر فيها للظلام... 
تناولوا وجبة العشاء واستمتعوا بفرجة باهرة مكنتهم من مشاهدة ما لم تره عيونهم من قبل. أقاموا ليلتها (فرقة أحواش)[1]. أنشدوا الأهازيج إلى مطلع الفجر، فكانت ليلة تشبه أكبر حفل زفاف أقيم في المنطقة كلها.

انتهت بحمد الله .
..............................
(1) أحواش هي مجموعة للغناء الجماعي يصطف فيها الرجال في صف واحد (أو النساء)، ويندمجون في حركة متناسقة ومتمايلة، على ايقاع الدفوف والطبل. الرقصة مستوحات من تمايل السنابل حين يداعبها الهواء.

قراءة الرسالة (ج:5)


القصة منقولة من اللغة الأمازيغية. لقراءة الجزء: الأول - الثاني الثالث - الرابع

الجزء الخامس


بعد ثلاثة أيام انقطع المطر، وانخفض مستوى ماء الوادي قليلا... 
وفي ذات الليلة التي حددتا صبحها كموعد للسفر إلى الرباط... التفتت "عيشا" إلى وجه حماتها.. وبعد نظرة بدا لها شاحبا بملامحه الذابلة... فأشفقت عليها كثيرا. اقتربت منها بعين دامعة، فشرعت تفشي لها سرًا طالما أخفته عنها حتى اكتوت بناره ولم تعد تطيق كتمانه.
كانت هي و"همّو" و"لالة فاضم" يعيشون حياة هنيئة يتخللها بعض الرخاء، وإن لم يكن زوجها صاحب أموال ولا أملاك - فلم يكونوا أغنياء إلا بالقناعة وبما قسمه الله لهم- كانت مهنة "همّو" لاعبًا في فرقة (أولاد حماد أوموسى)[1]. ما يكسبه من حلقات الفرجة التي تقام في جامع "لفنا"[2] بمراكش، أو في مكان آخر يكفيه لينفق على زوجته وأمه. 
"عيشا" هي الوحيدة من بين نساء القرية التي لا يتأخر عنها زوجها في الزيارات. فمن النساء من يزورهن أزوجهن مرة واحدة في أكثر من السنة؛ لما تفرضه طبيعة عملهم. غير أن "عيشا" يعودها زوجها أكثر من خمس مرات (في السنة). كان كلما جمع شيئا من المال ابتاع لها ما يُفرحها، ولامه ما يسعدها، ويرجع إلى القرية ليقضي معهما بضعة أيام... 
انسابت الحياة بتلك الرتابة حتى مضى عامان...
ذات مرة ارتدت "عيشا" كما عادتها لباسًا جميلا أحضره لها زوجها هدية من أحد أسواق مراكش، فرأتها بعض النساء فتجرأت عليها إحدى الحاسدات، ملقية بكلام على سبيل المزاح الذي لا يخلو من الحقد والكراهية: (لم أكن أدري يوما أن المتسولين يستطيعون أن يمتلكوا مالا يقتنون به أشياء جميلة كهذه). 
"عيشا" تأثرت بكلامها فحزّ في صدرها ما وصفت به زوجها. منذ ذلك اليوم وهي تراود "همو" على أن يغير مهنته، تحاول إقناعه بأعذار غير التي تخفي ألمها في قلبها الكتوم، فلما نفدت مبرراتها وأيقنت أنه لن يقتنع إلا إذا أتته بالعذر الحقيقي. أخبرته بما يؤلمها وطلبت منه أن يترك مهنته تلك. حاول جاهدًا أن يوضح لها أن عمله ليس بالمحتقر، وما هو بتسول، بل عمل شريف يكسب منه قوته بعرق جبينه. لم تقتنع، وأصرت أن يجتنب مهنته وأن يبحث عن غيرها. ولمّا قابلها بالعناد غضبت منه أشدّ الغضب، حتى صاحت:
- من اليوم فصاعدًا لا تأتيني بشيء من كسب التسول. 
فخرجت وتركته في غرفته وحيدًا مستسلما لتفكيره. 
في البداية لم يهتم بكلام زوجته، فلم يتوقع يومًا أن يكون عمله ضربًا من التسول؛ فهو حين يمد يده يمدها ليأخذ أجر مجهوده العضلي ومهارته الرياضية وحركاته الفنية... 
وفي يوم أتى دوره في المجموعة كي يجمع النقود من المتفرجين المتحلّقين حولهم، من الذين يبتغون الفرجة والمتعة في (حلقة) مجموعة أبناء "حماد أو موسى"[3]. فتذكر ما قالته زوجته. وشعر بشيء في نفسه حرك مشاعر الخجل، فأحسّ أنّ الأمر يمس كرامته، ففقد الرغبة على مدّ يده إلى الناس... وقف بجسد يتعرّق وذهن شارد، خافضا بصره إلى الأرض. عندما شاهده زملاؤه ظنوا أنه أصيب بمكروه، فاقتربوا منه، بسرعة تحلقوا حوله وفضوا جموع الناس. 
من ساعتها اعتزل المجموعة، واستخرج لنفسه جواز سفر ببعض المال الذي كان يدّخره، ثم سافر إلى فرنسا باحثا عن عمل هناك، فانقطعت أخباره واختفى. 
عندما أكملت "عيشا" حديثها لـ"لالة فاضم" عضت شفتها السفلى ندمًا، ثم قالت وهي تجهش بالبكاء:
- سامحيني... سامحيني كثيرًا، أنا السبب في كل ما حدث... ولو لا أنا لما سافر إلى فرنسا...
كان رد "لالة فاضم" حنونا:
- لا تحملي همًا يا بنيتي، أنت لم تقومي إلا بما رأيت فيه الخير لزوجك.. 
صمتت قليلا، فتصاعدت من أعماقها تنهيدة حرى، منبعثة من كبدها المحترق على ابنها، تابعت قائلة:
- قد قُـدّر عليّ أن لا تجمعني الأيام مع ولدي العزيز... 
فهمت "عيشا" من كلام حماتها ما تقصده. فقليلة هي الأيام التي قضتها مع ولدها ولم يخلُ الدهر من مفاجآت وأحداث فرقت بينهما... نظرت في ذكرياتها البعيدة... عندما مات زوجها الأوّل الذي شعرت معه بمعاني الحب المتبادل، مات بمرض انتشر زمنها في المنطقة. ترك لها ثلاثة أطفال صغار، "همّو" وشقيقتيه "تودا" و"زاينا". لم يمض زمن طويل حتى زوّجها والدها للمرة الثانية برجل كبير في السن أخذها معه إلى قريته "تازرولت". حينها كان عُمر"همّو" ثلاثة أعوام. ولمّا أتمّ ربيعه الخامس، أيقظها زوجها في منتصف إحدى الليالي ليخبرها أن "سيدي حماد أو موسى" جاءه في المنام يطلب منه "همّو".. 
خفق فؤادها بشدة وتوثر... فهمت قصد زوجها حيث أراد أن يبعدها عن ولدها ويذهب به إلى شيخ زاوية "حماد أو موسى" ليدفعه إلى أحد المعلمين المختصين في "رما" كي يصير واحدًا من مجموعة "أولاد سيدي حماد أوموسى"... 
رفضت أن تعطيه طفلها، فنشب خلاف بينهما لعدة أيام متتالية... ثم خافت ففرت بأبنائها الثلاثة، لاجئة إلى والدها ليحميها. غير أن والدها لم ينصفها... بل نصحها بأن تستجيب لما طلبه منها زوجها، بل أثّر عليها بكلامه حين أكد لها بما لا يجعلها تشك، أن لعنة "سيدي حماد أوموسى" قد تلاحقها إن لم تستجب لطلبه. فردها إلى زوجها. 
مرت أيام، ولم يذكر لها زوجها شيئا بعد ذلك. ظنت أنه تراجع عن قراره مما بعث في نفسها بعض الارتياح... 
وذات صباح باكر استيقظت لتكتشف أن زوجها و"همّو" والحمار لا وجود لهم في الدار. اشتعل صدرها نيرانا حارقة، حين أيقنت أنه غدرها فسرق ولدها على حين غفلة ليذهب به إلى قرية بعيدة عند أحد معلمي "الرما"[4]. فقدت صوابها فأسرعت تركض كالمجنونة وسط الطريق علها تلحق به... قطعت مسافة طويلة آملة أن تقتفي أثرهم. وبلا جدوى... جلست تحت شجرة أركان على جانب الطريق تنتحب بشدة... 
وصل زوجها إلى "تازروالت" وسلّم "همّو" إلى أحد معلمي "الرما"... عندما عاد إلى القرية، وجد زوجته هزلت وبلغ منها الحزن مبلغًا شديدًا. 
أما "همّو" فمن حظه العاثر أنه وقع بين يد معلم لا يعرف قلبه الرحمة، كان يُشبعه ضربًا على أي شيء ولو كان تافها، وعلمه تقنيات فن "الرما". وكاد أن يقتله بكثرة التمارين. 
بعد ذلك ندم زوج "لالة فاضم" على ما فعل، فذهب ليعيده إلى والدته، غير أنه لما بلغ "تازروالت"[5] أبصره أحدهم، فعرف سبب قدومه وهرع ليخبر المعلم بذلك... فاختبأ عنه وأخفى الولد، ثم أرسل إليه من يخبره أن" المعلم و"همّو" ذهبا مع مجموعة الفرجة إلى مراكش. 
عاد الرجل إلى القرية خائبا. وظل يزور "تازروالت" أكثر من ثلاث سنوات بدون نتيجة، وكلما سأل، كذبوا عليه، فما كان يجني إلا عناء السفر ووعتائه... لمّا مات الزوج استبدّ اليأس بنفس "لالة فاضم" فبدا لها أنها لن ترى ولدها أبدًا. وهي لا تعرف حتى المعلم الذي يحتضنه. فاسودّ الأفق في عينيها وفقدت الأمل. 
مرت ستة عشر سنة، لم تره ولا أتاها الخبر عنه، إلى أن جاءها ذات يوم شاب وسيم له بنية قويّة، فطرق باب دارها... 
فرحا، أن جمعهما القدر بعد سنوات من الفراق... ولم يمض الكثير على يوم عودته إليها فزوّجته من "عيشا" وهي بنت إحدى النساء التي تعرفها جيدًا، فعاش الثلاثة لحظات من زمن عذب. وبعدها بعامين سافر "همّو" إلى فرنسا باحثا عن عمل، فغاب عن أهله فأقبل زمن الفراق من جديد. 

انسابت الذكريات ومرت أمام عين المرأتين صور الماضي وما تحمله من ثقل. لم تذق تلك العيون طعم النوم ليلتها، ظلتا تنتظران الصباح كي تسافرا إلى مدينة الرباط. 
سمعتا صوت المطر في الخارج يحدث إيقاعًا متباطئا كأنه يتساقط باستحياء. خشيتا أن يعود الوادي إلى نشاطه فيحبسهما عن السفر... تكوّمت كل واحدة منهما في فراشها، تضم الدفء إليها... استسلمتا للتفكير على إيقاع قطرات الماء التي تتسرب من شقوق السقف فتتساقط وسط الأواني المعدنية التي تقي أرض الغرفة من البلل. 
بعد برهة نهضت "عيشا" وحملت إناءً امتلأ بالماء، ثم أفرغته في المجاري... 

انفرج الفجر عن نور الصباح، فاستيقظت المرأتان. أزمعتا على السفر. وبينما هما تتجهزان إذا بصوت عنيفٍ أحدث رجة، فهز أرجاء البيت. بفزع، اكتشفتا أن نصف الدار العلوي تهدّم منه جزء، وقد نجتا بأعجوبة حيت أنهما كانتا في الجانب الذي لم ينهار. ارتعدت "عيشا" حينها وخشيت أن يسقط عليهما الجزء المتبقي، فأمسكتها "لالة فاضم" " لتثبت، وسحبتها... ثم جاهدتا حتى مرتا عبر السلم المتكسّر ومن بين الأعمدة الخشبية المتساقطة، إلى أن تجاوزتا الباب. فجأة، تحولت الدار إلى ركام من الأحجار بعد أن هوى الجزء الآخر بأكمله... وقفتا تنظران بدهشة عارمة وهما تحاولان رد البرد القارس ببعض لباسهما. ومن هول ما حدث فقدتا القدرة على التفكير والكلام والفعل أيضا. 

أشفق عليهما كل سكان القرية... ورافقهما "بيهي" إلى منزله فاستضافهما إلى أن جاء صبح اليوم التالي. فحاول أن يقنعهما بتأجيل أمر السفر إلى يوم آخر، غير أن إصرارهما في البحث عن "همو" كان أقوى.. فودعتاه وأهله، ثم انصرفتا. 
مرتا على منزل أحد الأقارب كي تودعا أهله. ولم تجدا أحدًا، حيث أن السكان جميعهم خرجوا إلى ساحة القرية كي يشاهدوا قافلة السيّرك -العجيب- التي حطت رحالها هناك، قبل أن تستأنف السفر من جديد. الناس كانوا يتوقون لمشاهدة ما تحمله تلك الشاحنات الكبيرة من سباع وفيلة، وحيوانات أخرى... وما لم تره عيونهم من قبل. 
عندما بلغتا ركام دارهما، وقفتا تنظران بعيون تفيض دمعا. تقدمتا بخطوات إلى وسط الخراب تبحثان... عسى أن تجدا شيئا لهما قد ضاع بين هذه المخلفات والأحجار والأتربة... بينما هما كذلك إذ وقف قريبا منهما رجل يرتدي لباسًا غربيًا يبدو من هندامه أنه من أصحاب السّيرك. استوقفه مشهد الدار المهدمة، وفي نظراته أثر حزن. فلما رأته المرأتان أخفتا[6] وجههما (عنه استحياءً). وأمسكتا عن الحركة، تنتظران أن انصرافه... بيدا أن الرجل لم يغادر، وظل مسمرا، تفحص عينه المكان.
ثم ناداهما متسائلا:
- من فضلكما متى انهارَت هذه الدّار؟
تابع الجزء القادم والأخير...

..................... الهامش ......................
* مصدر الصورة المرفقة: هنا
(1) مجموعة أبناء -أو أولاد- حماد أوموسى: هي فرق تقوم بألعاب رياضية وبهلوانية كالتي تستعرض في السرك، تسمى هذه الفرق بـ (الرما)(4)، وسبب انتسابها إلى الوالي حماد أوموسى هو تبني أتباع طريقة هذا الشيخ لهذا الفن، وربما يعود ذلك إلى اتخاذه كأسلوب حربي خاصة في الإمارة السملالية التي كانت تمتلك جيشا تحارب به وتجاهد به ضد الأطماع البرتغالية آنذاك، خاصة وأن الفترة تزامن سقوط الأندلس. لكن هذا الفن القتالي تحول مع الزمن إلى نوع من الفرجة والمتعة فقط، مثله مثل التبوريدة أو الخيّالة.
(2) جامع لفنا هي ساحة شعبية للفرجة تضم أشكالا من الفنون المختلفة، موجودة بمراكش، كأحد المزارات السياحية.
(3) حماد أوموسى، أو بالعربية: أحمد بن موسى الجزولي السملالي أحد أقطاب التصوف بجنوب المغرب، ورّث من أولاده وأحفاده 12 عالما، وأربعة أمراء. له مكانة في نفوس أهل سوس لعلمه وتقواه وجهاده الحربي. عاش ما بين (1450 و1564م). دفن بـ"تازرولت"(5) وهي قبيلة في منطقة سوس، تقع في الجنوب الشرقي لمدينة تزنيت، كانت إمارة للسملاليين، وعاصمتها إليغ، إبان أواخر حكم السعديين في القرن 17م، تحت قيادة أبو الحسن السملالي، المعروف بـأبي حسون، وهو حفيد الوالي أحمد بن موسى - الذي سبق ذكره - وكانت القبيلة موطن هذا الشيخ وبها دفن.
(6) هذه من عادات المرأة الأمازيغية بسوس، أنها تخفي وجهها - بغطاء رأسها المنسدل- عن الغرباء أو الأشخاص الذين تحمل لهم احتراما وتقديرًا كبيرًا. هذه العادة انقرضت مع جيل الحضارة والمعاصرة، العجائز هن فقط من بقين أوفياء لها :)

قراءة الرسالة (ج:4)

القصة منقولة من اللغة الأمازيغية. لقراءة الجزء: الأول - الثاني - الثالث

الجزء الرابع 

كان "عليّ" قد فرّ من القرية بعد أن تعرض للسخرية، قاصدًا منزل خالته. وكي لا يلحق به والده فيعيده، فقد سلك طريقا غير مألوف وسط الغابة... ولكنه تاه. 
في الصباح الباكر استيقظ وتناول الفطور مع السياح. وكان ضمن هذه المجموعة رجل له دراية بالمسالك والطرقات والقرى. رافقه كي يوصله إلى قرية "تمجلوشت" التي أخبره أنه يقصدها لزيارة خالته...
مضيا معا يشقان الطريق في الغابة، والأوروبي يحكي له عن تلك المناطق التي مرّ منها في بلاد "سوس" الكبيرة، والمشقات التي تعرّض لها، وما حدث له في جولاته من مغامرات مع الذئاب والعقارب والأفاعي السامة، ووحوش الغابة المفترسة...
تأثر علي كثيرًا بكلامه، فقال:
- أراك أجنبيا وتتقن لغتنا... أين تعلمتها؟
ضحك الرجل وقال:
- في فرنسا... بلادي.
اندهش عليّ فبادر قائلا:
- فرنسا؟!!! وهل أهل فرنسا أمازيغ؟
 - كلا.. ليسو كذلك.
- وكيف تعلمتها إذن؟
- درستها 
رد "عليّ" مندهشا:
- درستها؟!!!.. وهل لغتنا الأمازيغية تدرس؟!!!
- أجل، في بعض المدرس.. 
زاد تعجبه مما قاله الرجل الأجنبي، فقال:
- لم أتوقع يومًا ذلك... لم أتوقع يوما أنّ الأمازيغية تُكتب!! 
صمت قليلا وأطرق يفكر، ثم عاد يسأل الرجل من جديد كأنه لم يكتف بما أخبره به، فعاد يطلب المزيد:
- هل نستطيع أن نكتبها على لوح الحفظ؟!![1]
فتبسم ضاحكا من طيبته وسذاجته فأجاب قائلا:
- طبعا... الجميع يستطيع... 
- وحتى أنا؟؟
- وحتى أنت.
قام الرجل من قعوده، ثم انحنى ليحمل عودًا صغيرًا من الأرض، فمده إلى "عليّ" قائلا:
- هل تتقن الكتابة؟ 
- نعم، أتقنها.
- إذن أكتب على التراب - بهذا العود- ما سأمليه عليك... ابدأ:
(غزال.. أبيض.. صغير.. اضغط جيدا... لا تنظر.. إلى الخلاء... هناك ذئب.)
عندما أكمل "عليّ" الكتابة نظر إليه الرجل وقال:
- الآن اقرأ كل ما كتبت... 
اجتهد في التهجّي حتى فرغ، فسأله الرجل:
- هل تعلم ما قرأت؟ 
- أجل... أعلمه. 
فأخبره الرجل مازحًا:
لقد كتبت بالأمازيغية، وقرأت بها أيضا أيها الغزال الأبيض الصغير. 
خجل "عليّ" وطأطأ رأسه لأنه فهم دلالة كلامه حين وصفه بالغزال الأبيض الصغير التائه... وواصلا طريقهما. 
وحده "عليّ" كان يفكر ويسأل نفسه: لو كنت أفهم ما جاء في الرسالة بالأمازيغية لعرفت ما كُتب فيها ولن يسخر مني الناس. 
في الطريق التقيا بجماعة من الرجال، بينهم والد "علي"، كانوا قد خرجوا لاستئناف البحث عنه... 
في الغد رجعت "لالّة فاضم" إلى المسجد آملة أن تجد الفقيه. لكنها تأكدت أنه لم يعد بعد، فعادت أدراجها خائبة الرجاء مهمومة القلب، لحق بها أحدهم ممن فرغوا من الصلاة حينها، فخاطبها قائلا: 
- غدًا هو يوم السوق... وإن شاء الله سيأتي ولدك "همّو" ويخبرك بنفسه عمّا كتبه لك في هذه الرسالة، من دون أن تحتاجي للفقيه أن يقرأها عليك... 

في اليوم التالي، حجّ الرجال إلى السوق... كانت هناك حركة غير عادية في دار "لالة فاضم"، كانت تستعد مع نساء القرية أن تستقبل ولدها الغائب... 
مضى النهار سريعًا كله انتظار. عاد الرجال من التسوق، ولم يظهر لـ"همّو" أثر. كانت "لالة فاضم" واقفة وسط القرية تسأل كل عائد... ولم يُرح فؤادها الملتاع أحد برد يحمل لها البشرى أو أملا ضئيلا. ( لم نره ولم نسمع عنه خبرًا)، وكأنهم اتفقوا على رد واحد. اهتزّ قلبها وشعرت بحزن عميق، وبإحساس ينخر كبدها الحنون. وجلست هي و"عيشا" تنتظران... وتنتظران... 
مرّ وقت صلاة العِشاء بكثير ومازال الأمل في قلب المرأتين لم يخمد لهيبه هذا اليوم، غير أنه لا أثر لـ"همّو". بعدها قامت "عيشا" واخترقت عتبة باب غرفتها الكئيبة فانبعثت منها رائحة البخور ممتزجة بعبق العطر الذي رشته على فراشٍ كان سيضمها هذه الليلة مع زوجها العائد من غيبته الطويلة. 
نظرت في المرآة على الحائط المتآكل، فبدا لها وجهها عابسًا، وقد زاد قبحًا من فرط الحزن الذي تنزل أستاره تَترى... خرجت من غرفتها وقد حملت جبلا من همّ أثقلَ كاهلها، بل ازداد ثقلا هذه الليلة... وعادت إلى غرفة حماتها. 
لم تذوقا طعم العَشاء، ولا تشاركتا الحديث كما عدتهما. وخيّم الوجوم عليهما فاستغرقتا في تفكير عميق. كان الجوّ في الخارج مضطربًا، فقد هبت موجة عاصفة. والريح القوية يُسمع صفيرها الحاد من بين شقوق النوافذ... 
مضى من الليل الكثير، انطفأ القنديل الزيتي الصغير، فبقيتا في الظلام لم تتزحزحا من مكانهما... إلى أن انتفضت "عيشا" من مجلسها فصاحت:
- سمعت هدير سيارة ما..
قالت لها "لالة فاضم":
- وأنا أيضا سمعت صوتًا وقلت في نفسي ربما هي الرياح من تحدثه... 
صعدت "عيشا" مسرعة إلى سطح الدار. وجّهت نظرها نحو الطريق الآتية من جهة السوق، فأبصرت ضوء سيارة قادمة نحو القرية... 
لحقت بها "لالة فاضم" بعد برهة، فوقفتا تراقبان القادم. بمشاعر متأججة ومضطربة... 
واصلت السيارة تقدمها فصارت قاب قوسين أو أدنا، ثم مرت عابرة دون أن تتوقف... حينها تملكهما الحزن من جديد، فنزلتا تجران الخيبة، بأرجلٍ لا تقوى على حملهما من فرط ما ألمّ بهما من القنوط. 

في الصباح كانت الشمس محجوبة بستار الغيوم... الرياح، لم تتوقف من عصفها، مهددة الطبيعة بعبثها وهبوبها الماجن. 
بعد صلاة العصر تبين (من جديد) أن الفقيه لم يعد. "لالة فاضم" نفذ صبرها العاتيّ... كانت "عيشا" في الغرفة تصلي حين أخبرتها -سريعًا- أنها ستذهب إلى قرية "تمجلوشت"، عند إمام مسجدها كي يقرأ لها رسالتها. 
نزلت إلى الإسطبل، وحاولت بقوتها الهزيلة أن تضع على ظهر الحمار الحلس الثقيل، ثم بصعوبة ركبته، وانطلقت... 
"عيشا" عندما أكملت صلاتها تبعتها راكضة، ولم تدركها إلا خارج القرية وقد أوشك الغبار المتطاير أن يحجب رؤيتها. حاولت أن تعيدها مشيرةً بيدها إلى الرياح التي ما تزداد إلا قوة وعصفًا. غير أن محاولتها وإقناعها بالرجوع لم تنفع. لم تهتم بكلام "عيشا" ولا بالرياح، فضربت حمارها من الخلف فاستجاب لها وتابع الطريق. 
عدمت عيشا حيلة، وظلت تراقبها بعين مليئة بالخوف حتى اختفت وراء الغبار المتطاير. لما ابتعدت قليلا عن القرية أمطرت السماء وابلا تبعه البرق اللامع... وبعد برهة بدا المطر كخيوط معلقة من السماء... غسل الماء التلال والأرض، جاريا من بين فجاج الجبال وعبر المسايل. 
كانت "لالة فاضم" تتقدم دون أن يفزعها الأمر... تنكز مؤخرة الحمار كي يسرع في السير. 
قلقت "عيشا" عليها وخشيت أن يصيبها مكروه ما، فأسرعت إلى "بيهي" في منزله لتخبره بما حدث. فركب بغلته وأسرع ليعيدها... 
كان الوادي قد عادت إليه الحياة وامتلأ ماءً جاريا تكاد سرعته تقلع الصخور المستقرة في قاعه... عندما بلغت "لالة فاضم" ضفته وقفت تتأمله. مضى زمن طويل لم يمتلئ، ففي السنوات الأخيرة أصابه الجفاف، ولم تجُد السماء بمثل هذه الأمطار إلا اليوم. 
اختلطت الدموع بماء المطر في وجهها بعدما تأكد لها أن العبور مستحيل إلى الضفة الأخرى... لحق بها "بيهي"، فوجدها ما تزال متسمِّرة جانب الوادي، فترفَّق في الحديث إليها، وطيّب خاطرها حتى أعادها إلى القرية بعد أن أرْكَبها بغلته، وركب هو الحمار. 

ما بين المغرب والعِشاء تحلّق رجال القرية حول الموقد وسط غرفة مخصصة لطهي الطعام (تابعة للمسجد)، يستمدون الدفء من النار أمامهم، ويديرون حديثهم حول قضية "لالة فاضم"... أشفقوا عليها كثيرًا، ولا يملكون وسيلة لمساعدتها. بعد برهة صمت قام أحدهم، كأنه ثائر انتفض، فصاح: 
- بماذا نحن رجال إن كنا لا نستطيع قراءة رسالة صغيرة؟ 
حرّك أحد آخر رأسه خجلا، وقال:
- والله إنه العار والشماتة... المنطق أن كل واحد منا لابد أن يقرأ رسالته بنفسه. حتى الفقيه لا يجب أن يقرأها، الذي من حقه وحده أن يعرف محتواها هو صاحبها... 
فتكلم "بيهي" قائلا:
- صدق السّالفون حين قالوا: من لم يُعِد طعامه، ولم يخط ثوبه، ويقرأ رسالته، موته خير من حياته. 

مرّ أسبوع لم تمسك السماء وابلها، كانت تمطر بالليل والنهار بلا انقطاع... 
منزل "لالا فاضم" هو الآخر كان سقفه يقطر ماءً كأنه ينزف. وحاولت المرأتان منع تسرب الماء إلى داخل الدار. كانتا تقضيان النهار على السطح تضعان الطين بين الشقوق، لكن الدار صارت كلها تقطر كقِربة ماء. 
فاض الوادي في نفس الأسبوع ولم يستطع أحد أن يعبره، وحُرم رجال القرية من الذهاب للتسوق لجلب حاجياتهم التي نفدت. 
وفي ليلة رأت "لالة فاضم" أن "همّو" أصابه مرض بغربته في فرنسا فدخل المستشفى للعلاج... وخشي أن يطرحه الموت بعيدا، فعاد مسرعا إلى وطنه. ولما وصل إلى الرباط اشتد به المرض فأغمِيّ عليه ونُقل إلى المستشفى، وعندما أفاق من غيبوبته طلب من الممرضة أن تكتب له رسالة لوالدته لكي تأتي لزيارته، ويريها شيئا... فإن رفضت، تسلَّمه الموت!!... 
استيقظت "لالة فاضم" من نومها منزعجة مما رأت في الحلم، فغادر النوم أجفانها وقضت ما تبقى من الليل تفكر في ابنها. 
ولما قصّت حلمها على "عيشا" اسودت الحياة في وجهها. كانت تخشى أن يكون الحلم حقيقة، فيموت "همّو" دون أن تنعما نظراتهما برؤيته ولا أن تعرفا منه سر الشيء الذي يرغب في أن يريه لهما دون أن يعلم به أحد غيرهما. لم ينقضِ اليوم حتى قررتا السّفر إلى الرباط بحثا عن المستشفى الذي يعالج فيه "همّو" كما جاء في الحلم...

يتابع...
..................................
(1) لوح الحفظ: اللوح الذي يحفظ عليه الطلابة القرآن في الكتاب.

قراءة الرسالة (ج:3)

القصة منقولة من اللّغة الأمازيغية- لقراءة:  الجزء الأول -  الجزء الثاني 

الجزء الثالث

أمسكَ "عليّ" الرسالة من يد والده بيدين مرتجفتين. اختلط خجله بخوفه وقد صوّب الجميع نظراتهم إليه، كانوا ينتظرون بأمل، ما سيقرأُه على مسامعهم المصغية. تهجّى الحروف والكلمات.. تتعتع شيئا فشيئا حتى أتمَّ قراءتها... رفع بصره عنها ليجد والده والحاضرين ما تزال عيونهم جاحظة مستقرة. قال له والده مستدركًا وآمرًا:

- إيوا.. تابع، اقرأ...
- صافي [1].. انتهيت من قراءتها... كاملة.
نظر إليه والده بنظرة عميقة لا تخلو من القسوة وهو يقول:
- إنك تكذب، لم تكمل قراءتها لأنّي لم أسمعك تقول "والسّلام"... جميع الرسائل تنتهي بـ " والسّلام".
- أقسِم بالله أني أتممت قراءَتها... وهذه الرسالة لم يردْ فيها (والسّلام)..
سمع الجميع كلامه، فاهتزت أجسامهم من الضحك على خيبتهم... كيف يأملون ممن لا يجيد القراءة أن يخبرهم بمحتوى رسالة؟...
أراد "بيهي" أن يضيف إلى الموقف مزيدًا من المرح والفكاهة، فصاح ضاحكًا في وجه ابنه: 
- حسنا... قلت يا بني أنّك قرأتها كاملة... إذن، قل لنا ما مضمونها... اشرح ما قرأت فيها!!
رد الولد بحزن:
- لا أعرف!
- لماذا؟ ألم تقرأها كما قلت!
- بلى، لكني لا أستطيع أن أشرح وأبين محتواها، لأني لا أفهم العربية..!
امتلأ المكان بضجيج ضحكهم مرة أخرى، فغضب "عليّ" وتغير وجهه... لم يرض أن يكون عرضة للضّحك فبكى وهو يسرع نحو الباب...

عندما أرخى الليل سدوله متوشّحاً بالظلام، نزل معه شعورُ الحزن على كل أهل القرية، إذ أن غياب "عليّ" عن أهله وعدم عودته إلى الدّار منذ أن خرج من المسجد باكيًا أثار تساؤلَ القلقِ لدى الجميع.
اهتزت القرية بعد اختفائه، فخرج الناس للبحث عنه، حملوا القناديل والفنارات، بحثوا في كل إسطبلات القرية وغرف المؤونة، ثم غرفة المسجد الخاصة بالمواسم والاحتفالات الدينية ومرافقه الأخرى. وفي كل أنحاء القرية، وحتى بجوار البئر لم يجدوه هناك. فلما انتصف الليل ويئسوا من احتمال أن يكون في مخبإٍ داخل القرية... خرج والده مع بضعة رجال قاصدين دار خالة "عليّ" في قرية "تمجلوشت" وراء الوادي. توقعوا أن يكون قد قصدها غاضبا بعدما سخروا منه في المسجد. لكنهم عادوا كما ذهبوا بلا نتيجة...
سكن الفزع قلوبهم، وخشي الجميع أن يكون مكروه ما مسّه حين تأكدوا من عدم ذهابه إلى دار خالته، بل لم يره أحد في تلك القرية... أما "لالّة فاضم" فقد اعتراها حزن شديد حين فكرت أن رسالتها هي السبب في كل ما حدث...
كان الناس يحملون في قرارة أنفسهم خوفًا توجّسته قلوبهم من خبرتهم بالغابة ومخاطرها وما تخفيه من الوحوش... ولم يخطئوا الظن... فقد كاد عليّ أن يكون وجبة للافتراس وسط الغابة حين تربص به الذئب من مكان قريب لولا أنّه فرّ حين أبصر جماعة من الناس تقترب منه. كانوا سياحًا أوروبيين يخرجون مرة في السنة يسيحون بين جبال الأطلس في "سوس"، يكتشفون فجاجها وتضاريسها، ودواويرها الجميلة بطبيعتها الخلابة وكل أماكنها البعيدة والقريبة... 
وكأنّ القدر بعثهم لينقذوا "عليّا" من موت محقق، إذ لم يكن هناك أدنى شكّ أنه كان سيتحوّل إلى وجبة تنعم بها بطن الذئب الجائع. وكما أنهم أنقذوه أيضًا من الجوع والبرد، فهما لا يرحمان في غابة مهجورة إلا من المخاطر... 
شاركهم الطعام ثم المبيت في خيمتهم إلى أن أقبل عليهم الصبح...


يتابع...
(1) كلمة عامية مغربية، تعني خلاص.

قراءة الرسالة (ج: 2)

القصة منقولة من الأمازيغية. لقراءة: الجزء السابق

الجزء الثاني

مرّ من اللّيلة الكثير من الوقت. أبت عين "عيشا" أن تذوق طعم النوم. نهضت خارجة من غرفة "لالّة فاضم" التي تبيت فيها منذ أن غاب عنها زوجها. اتجهت نحو غرفتها التي هجرتها زمنا طويلا. فأشعلت شمعة تهتدي بها في الظلام... ثم استقرت نظراتها على وجهٍ أطلّ من مرآة معلقة بالحائط... فكانت كمن تسترق النظرات، شيئا فشيئا... كما لو أنها تخشى التأكد... وتخشى رؤية أمر مفزع... فتحتاط.
قد مضت سنوات تفوق العقدين وما اهتمت بالنظر إلى المرآة بتمعن، نادرا ما كانت تفعل. منذ أن غاب عنها زوجها وانقطعت أخباره صار لا يهمها جمالها. وهبت جهدها للعمل والحرث والزراعة والحصاد... كانت تأتي بالأعشاب من الغابة لتطعم بقرتها الوحيدة والحمار... وتسقي جِنان الخضروات بيديها، مشمرة عن ساعد الجد... تطحن الحبوب... تجاهد من أجل أن تحافظ هي وحماتها على كرامتهما وتصونا عرضهما، وأن لا تمدّا اليد للغير...
أفجعها ما رأت في المرآة التعيسة، لا أثر في وجهها لبسمة الشباب المتلألئ. لمسته بكفها المرتعشة، فإذا ببشرتها التي كانت غضّة قد جفّت، صارت صلبة كما الأرض التي انقطع عنها الماء... لفحتها أشعة الشمس وشقّها البرد القارس. غادرت وجهها تلك النضارة المغرية. تحسست وجهها الذابل فإذا دمعة ترتخي على خدها... إحساس الفجيعة بعث بمعاول الخوف تنهش في خاطرها: هل سيهجرها زوجها حين يعود؟
هل حقا سينظر في وجهها المنفر الفاقد للجمال والنضارة؟...

عَشيّة اليوم الموالي اجتمعت نساءُ القرية في دار "لالّة فاضم"؛ جئن لمساعدتها في الاستعداد لموعد لقاء ولدها. جلسن في باحة الدار... بعضهن يعصرن أركان[1] بأيدهن... والأخريات يقمن بتحميص اللّوز على النار قبل طحنه في الرحى كي يستخلصن منه "أملو"[2].
فجأة دخل عليهن "بيهي" يرافقه رجلان... يحملون كيسًا كبيرًا من القمح، أحضروه - بعد طحنه- من المطحنة الموجودة على مقربة من الوادي.
ثم لم يمض وقت طويل حين استعددت "لالّة فاضم" للخروج. استندت على "علِي" الابن الأصغر لـ"بيهي"، فتوجهت صوب المسجد قاصدة الفقيه...
قالت حين بلغت المكان:
- ألم يعد الفقيه بعد؟... لقد مرّ العصر... محال أن يعود اليوم أيضًا..!
كانت تعلم أن من عادته العودة قبل العصر من زيارة أهله.
لم يَرد عليها أحد من الحاضرين، وقد لمحوا في عينيها ذات الشوق الذي يمتلك كل من استلم رسالة فغدا أسير لوعته وفضوله لمعرفة ما تخفيه من أخبار. كانوا ينظرون إليها بعيون مشفقة... عدموا الرد كما عدموا الحيلة...
ثم قام "بيهي" مكسرًا الصمت الثقيل الذي أخرس الألسنة. نادى على ولده... ثم قال لـ"لالة فاضم":
- هاتي تلك الرسالة... لماذا لا يقرأُها "عليّ"؟ أليس تلميذا في المسجد؟.. إنه يتهجى الحروف...

يتابع...
..........................................................
(1) أركّان/ أرجان: هو زيت مستخلص من شجرة أركّان (لا توجد إلا في منطقة سوس جنوب المغرب)، بحيث تطحن ثمار هذه الشجرة وتتحول إلى عجين يُعصر منه زيت حلو المذاق شهيّ الرائحة. يُتخذ كذلك لتجميل البشرة. (أنظر)
(2) أملو: هو غذاء مستخرج من اللوز بعد طحنه، مع اضافة قليل من زيت أركّان. (أنظر الصورة)
- يعتبر زيت أركان وأملو من ضمن الوجبات المهمة في مائدة أمازيغ منطقة سوس.

قراءة الرسالة (ج:1)

مقدمة

(قراءة الرسالة) أو كما هو عنوانها الأصلي (تيغري نتبرات)؛ قصة أمازيغية لكاتبها الصافي مومن علي. تعود أحداثها حسب تقديري إلى سبعينيات القرن الماضي، حين كان المجتمع الأمازيغي المنعزل في جبال الأطلس يعاني من الأمية والهجرة والإهمال...
وأنا هنا لا أدعي لنفسي البارعة الكبيرة حين اجتهدت محاولا نقل القصة من لغتها الأصلية إلى العربية بما أمتلكه من بعض قدرات فهم تلك اللغة، بل إني قد أقول أن النص الأصلي لكاتبه يبقى الأجمل بطريقة سرده وبنائه والتوظيف اللغوي والدلالي، وتوظيف الثقافة الأمازيغية البسيطة بشكل مميز ومتقن خاصة وأن الكاتب مختص في هذا المجال. 
سأنشر هذه القصة المنقولة من اللغة الأمازيغية عبر حلقات على همسات الروح والخاطر... فأرجو أن تتابعوها إلى النهاية، وكلي أمل أنها ستحظى بإعجابكم.
قراءة ممتعة...
رشيد أمديون 

الجزء (1)

نزلَ "بيهي" من فوق ظهرِ بغلته المحمّلةِ بالأثقال... دقّ بابًا خشبيًّا -مشقوقًا- لبيت صغير، ونادى بصوته الأجش:
- "لالّة فاضم"..وا "لالّة فاضم"(1) ...
انتظر قليلا...ثم انفرج مصراعُ الباب فأطلَّت عجوز. مد لها حاجياتِها القليلة التي جلبها معه من السّوق الأسبوعي، وأعطاها من جديد ظرف رسالة...
"بيهي" واحد من أولئك الرجال القلائل الذين ظلّوا في قرية "تازولت"(2) التي توجد على جبل من سلسلة جبال الأطلس الصغير... فلم يبق في القرية إلا الشيوخ والعجائز وبعض الصّغار من الأطفال...
كثيرة هي المنازل المغلقة بعد هجرة أصحابها إلى المدن حيث يعملون ويتابعون أشغالهم هناك...
من عوائد "بيهي" حين يقصد السّوق أن يقتني أغراضه الضرورية ويأتي بحاجيات نساء القرية اللواتي لا أزواج لهنّ ولا أولاد كبار... كما أنّه من أعراف القرية عدم خروج المرأة إلى السّوق؛ فتلك مهمة الرجال فحسب.
أخذت "لالّة فاضم" حاجياتها والمظروفَ، ودَعت بالخير لـ"بيهي"، ثمّ استفسرت:
- هل يا سيدي... هذه الرسالة من طرف "تودا" أم "زاينا"؟
تعوّدت على أن جميع الرّسائل التي تستلمها تأتي من طرف إحدى ابنتيها: "تودا" أو "زاينا". الأولى تزوّجت وسكنت في الرباط، أما الثانية فمُتزوِّجة في الدار البيضاء... وهما من تبعثان لها بعض المال للمعيشة وقضاء مآربها...
ضحك "بيهي" مجيبًا على سؤالها:
- هذه الرّسالة ليست من طرفهما.
- من الذي بعثها إذن سيدي!!؟
كان "بيهي" يضحك وهو يقول:
- لن تصدقي لو قلت لك من أرسلها... إنه ولدك "همّو"..!، هكذا أخبرني "لمقدم"(3) في السّوق عندما سلّمها لي كي أوصلها إليك.
ارتجفت "لالة فاضم" حين سمعت ما قاله "بيهي". لم تتوقع أن تكون الرّسالة من ولدها، فمنذ خمس وعشرين سنة وأكثر لم يراسلها، من يوم سافر إلى فرنسا لم يعرف أحد -بعدها- عنه شيئًا... أمات أم مازال على قيد الحياة... مضى على العجوز المسكينة زمن بل سنوات وهي تطوف القرى... تسأل كل الوافدين من فرنسا لعلها تجد عندهم خبرًا عن ولدها... بيد أنّ أحدًا لم يره أو كان له علم بمكانه...
بسرعة ولهفة فضّت المظروف مخرجة الرّسالة بشغفِ شوقٍ مُلتاع. بسطتها ناظرة إليها، ومِلء عينيها شوقٌ وحنين وأمل... كأنّها ترغب في أن ترى ولدها بين السّطور... سبقتها دموع ساخنة ذرفتها، ثم استغرقت في نحيبٍ مرير.
أشفق عليها "بيهي"، فاستدرك، محاولا إخراجها من كآبتها... قال مرغِما نفسه على الابتسام:
- عليكِ يا "لالّة فاضم" أن تضحكي وتبتهجي، لا أن تستسلمي للبكاء والنّحيب... احمدي الله أنه أعاد إليكِ ابنك بعد أن انقطعت أخباره.
بعد كلمات "بيهي" التي رفعت معنوياتها، انفرجت أساريرها وانبسطت، فردّت:
- أحمد الله تعالى وأشكره... أحمده وأشكره أنّ ابني لم يمت...
كانت تجيبه بهذه العبارة وهي تستحضر أحاديث الناس:
(لا تأملي أبدًا عودته، ربما مات... قتله أحدٌ ما، ودفنه في أحد الوديان...)
أخفت الرسالة في جيب صدرها... ومضت مسرعة إلى المسجد، وهي تقول:
- حالا سأقصد إمام المسجد...
كانت تعلم أنّ "بيهي" أميّ مثلها، وما من أحد في القرية من الرجال والنساء يُجيد القراءة.. نادى عليها "بيهي" كاشفًا عن أسنانه متبسما:
- إنّ الفقيه لم يعد بعد...
الفقيه من غرباء القرية، حلّ بمسجدها ليتولّى إمامة الصلاة وتعليم الأطفال القراءة والقرآن. يغيب عن أهله مدة طويلة تفوق الشهور، فكان يأخذ عطلا قصيرة وسط السنة لزيارة أولاده في قريته البعيدة... وغدًا هو موعد عودته بعدما انتهى الأسبوع الذي مُنِحَهُ لزيارة أهله...
أحزنَ "لالّة فاضم" غياب الفقيه، فأخرجت الرسالة من بين صدرها، وشرعت تنظر إليها متمنية أن تعرف في الحال فحواها وما الذي تخفيه سطورها... انتشلها"بيهي" من تأملها ضاحكًا كالعادة، وقال:
- لا تشغلي بالكِ، فليس خفيّا عنا ما قد يكون ولدك سطره هنا... أكيد أنّه يُقرئك السّلام، ويقول لك أنه بصحة جيدة... وعلى خير... ولا ينقصه إلا النظر في وجهك العزيز... ويرجو أن تكوني أنت وزوجته في راحة وهناء...
كانت تدرك جيدًا أنّ "بيهي" يواسيها ويخفّف عنها آلامها وحزنها. فردت عليه بشجن:
- كم أتمنى أن يكون الحال كما قلت.
تبين لـ"بيهي" من خلال ردها أنها لم تصدق كلامه، فأردف يؤكد لها صدق ما ذهب إليه:
- الأمر كما قلتُ... بل إنّي مستعدٌ أن أحلف لك أنّه يخبرك بوصوله إلى القرية في هذه الأيّام بالتحديد... أو في الأسبوع المقبل.
منذ أن تسلّم "بيهي" المظروفَ من يد "لمقدم" وهو يبادر كل من قابلهم في السوق قائلا:
"همّو آيت لشكر" بعث رسالة... سيعود إلى القرية في هذه الأيام.
لم يكن رجال القرية وحدهم من سمع هذا الكلام، بل أهالي تلك القرى المجاورة للسّوق والمنازل المنتشرة على سفح الجبل، وكذا المستقرة على جانب الطريق المؤدية إلى ساحة السوق. كانت الأصداء تتناقل الخبر، وحتى الرجال الذين أدركوه في طريق عودتهم أخبرهم...
أكثرَ الحديث وبالغ فيه إلى أن صارت عنده تلك التوقعات صريحة ومؤكدة، بل وحقيقية يستطيع أن يُقسِم بأغلظ الأيمان عليها...
حدّقت "لالّة فاضم" في وجهه فقالت:
- كيف علمت أنّ "همّو" سيأتي هذه الأيّام... من أخبرك؟!!!
فرد عليها بكل ثقته:
- قال لي "لمقدم": هذا الظرف مُرسل من الرباط...
قاطعته بلهفة قائلة:
- ومن أخبره؟!!
قاطعته بلهفة قائلة:
- من أخبره؟!!!
ضحك "بيهي" وهو يشير إلى المظروف، قائلا:
- هذا الطابع الخاص ببريد الرباط يؤكد أنّ "همّو" خرج من فرنسا، ووصل إلى الرباط، ومن هناك بعث بهذه الرسالة.
لم تستطع "لالة فاضم" أن تبحث وتفكر في كلامه هل يحتمل الصواب أم العكس...
كانت عيونها مفتوحة تقلّب بصرها التعِبِ في صمت... تنصت بعناية إلى كلامه المتواصل:
- وقال لي "لمقدم" كذلك: أن الرسالة جاءت على البريد العاجل.
استغربت، فخرجت من صمتها:
- ما معنى البريد العاجل؟...
- أن تأتيَ الرسالة في يومها كي لا تتأخر...
وأردف قائلا:
- وهذا يؤكد لنا أمرًا في غاية الأهمية... أنّ إرسال "همّو" لرسالته من الرباط هو إعلام بدنو ميعاد وصوله حتى تستعدّا للقائه...
حينئذٍ اقتنعت بكلامه بناءً على المعطيات التي ساقها، فلم تجد بُداً من تصديق توقعاته. فهرعت مسرعة في مشيها بكل ما لها من قوة... دلفت إلى منزلها صاعدة أدراج سلم مظلم وضيق، عبرته إلى "أَنْوَالْ" (مطبخ تقليديّ)...

أمام موقد النار كانت "عِيشَا" زوجة "هَمّو" تعدّ خبز العَشاء بخفّة ومهارة... ورائحة الخبز تملأ المكان المتستر بلونِ السّواد من أثر الدخان المتصاعد من الموقد يوميّا. بادرت بإخبارها بالبشرى، فانزاح ما كان بنفسهما من الهمّ الجاثم منذ خمس وعشرين سنة... سنوات العذاب القاهر، والحزن الدائم المتواصل...
يتابع...
............................................
(1) لالّة: كلمة تضاف لاسم المرأة تقديرا واحتراما لها
(2) الصورة أعلى  تظهر قرية تازولت  (التعريف)
(3) أحد أعوان السلطة في المغرب. وهو في بعض القرى يقوم بدور ساعي البريد بحكم معرفته بالسكان.
-  أشكر الأخت التي ساعدتني في ترجمة بعض الكلمات التي استعصت عليّ (الأخت خديجة أبو القاسم)..

يوم الثلاثاء


يوم الثلاثاء، لا تشبهه الأيام؛ شمسه ذهبية، رافقت صبحا نفض عن ردائه بقايا كسل ليل ثقيل. باسمة للحياة، ناشرة نورها من أفقها العالي.. 
في المنزل فرحة مشعة كنور شمس هذا اليوم. أثر بهجة على جدرانه، وعلى كل تفاصيله. حتى رصيف الباب مختلفٌ يوم الثلاثاء.
الفرحة لها مظاهرها تبرز في الحركة الغير عادية لصباح يوم الثلاثاء البهيج.
الأب لم يذهب إلى العمل هذا الصباح، ظل مستلقيا على فراشه إلى الساعة التاسعة.. لم توقظه إلا زوجته بإصرار، وهي تلح عليه بنداءات متكررة، تدعوه...
غمغم من تحت الغطاء قبل أن يجيب:
     - ألم أحضِر كل الحاجيات أمس..؟
     - قم.. مازلت بعض الأغراض تنقص!.
يقوم مطيعا، ينفد الأوامر الصادرة من ربة بيت تحب كل شيء متقن. لا مجال لديه ليناقشها، تلك معركة خاسرة، أكيد أنها خاسرة.
يحضر ما طُلب منه. يسلمه إلى زوجته التي وضعت له وجبة الفطور. يجلس على الأريكة، ثم يفتح جريدة ابتاعها أتناء خروجه إلى السوق، يتصفح ويقرأ.. أخبار يوم الثلاثاء!.
¤    ¤     ¤     ¤

الأم وابنتها كما العادة تعدان ما لذ وطاب، بل تبالغان اليوم في تحضير كل شيء، تسكنان عالمهما المطبخي، ومختبر تجارب الوصفات الغذائية المتنوعة التي تقصم بعناصرها (المكونة) ظهر الوالد بتكاليفها الباهظة.
سوسن زهرة الدار المدللة، شبت لا يُرفض لها طلب. في ربيعها الثامن عشر. حسناء، شهد الجمال منها يقطر عسلا. وحيدة والديها بعد شقيقها الأكبر. مهوسة كأمها بشؤون الطبخ، حلويات وكعكات، وأشياء أخرى تجعل كل من يدفع ثمنها هو رب الأسرة المسكين.
باكرا استيقظت اليوم، وبنشاط زائد ليس كعادتها، راحت منهمكة تعد الفطور قبل أن تستيقظ أمها، أرادت أن تثبت لها أنها اكتسبت المهارة الكافية، فكان يوم الثلاثاء خير يوم تحدِث فيه أمرا.
بجدٍ كانت تعمل قبل أن تعاودها دوخة خفيفة، لكنها هذه المرة أشد، كادت أن تُسْقطها أرضا لولا أنها اتكأت وأسندت جسمها الرخو إلى الجدار، سحبت كرسيا من جانبها فهوت عليه بكل ثقلها.. يدها اليمنى كانت تتحسس مكانا في جسدها، تلمس ببطءٍ بطنها الصغير، كمن تتفقد شيئا.. يتصاعد نفسها العميق محدثا زفرة حارة.. شاردة الفكر تذكرت ما قالته لأمها قبل أيام:
     - يوم الثلاثاء سيأتي مع أهله.. ليكلمكم!.
صوتها كان متهدجا حين قالتها، وحمرة على الوجنتين استقرت كأثر الغروب.. أترى كانت تخجل من أمها كما يخجل الليل من النهار حين يودعه؟
لم تستمد من الغروب حمرة الخجل وحدها بل إنها استعارت رداء الغروب بكل معانيه..
تذكرت جيدا ابتسامة أمها المبهمة المخيفة، ابتسامة رمقتها بلحظ عينها اليسرى.
     - عن ماذا سيكلمنا؟
لم تنتظر الأم من ابنتها جوابا، بل ردت وبثغرها ابتسامة مستقرة، منحت سوسن شيئا من الطمأنينة:
     - من هو؟.. متى تعرفت عليه؟.. أين وكيف؟..
ومساء ذاك اليوم أسرت لها بكل التفاصيل المملة.
¤    ¤    ¤    ¤

كان يوما ربيعيا مشمسا وجميلا.. سوسن في المكتبة تبحث عن كتاب.. استدارت بخفة، فاصطدمت (دون أن تنتبه) بشخص..
وقع منها الكتاب، وقع أرضا. كقلبها الرقيق وقع...
ابتسم الشخص واعتذر...
انسجمت النظرات.. وأخذهما الطريق معا، (ابتلعهما كالدوامة)...
حديثهما انسجم...
تقارب الزمن حاملا معه لقاءات بمتعة الشوق، تقارب الإحساس أكثر..!.
وسيم، فارع الطول، منسق العضلات، مغري الشعر، عذب الملامح.. هكذا كانت وبمتعة تصفه لصديقتها يوم سألتها باهتمام.
أمها تحذرها ليلتها، قائلة:
     - إياك أن تكوني...
     - لا، لا.. لم أخرج معه إلى مكان آخر، لم تتجاوز أقدامنا ساحة الثانوية..
أدارت وجهها عنها متظاهرة بالانشغال في تجهيز لباسها.. لا تملك النظرات أن تخفي الحقيقة وإن زيفتها الكلمات، هي ليست بارعة لحد أن توفّق بين ما ينطق به لسانها وما تخفيه عيونها العسلية الجميلة. ما وراء هاتين الحدقتين هو الحقيقة. أكيد أن أمها إن نظرت فيهما ستقرأ الشفرة، وتفهم المعنى. هي لم تنظر، هي تثق بزهرتها الجميلة. لطالما كانت تفتخر بها بين صديقاتها، وتعتز بخلقها الحسن وبثقتها في فلذة كبدها.. يحلو لها أن تقول أن أبنتها لا تشبه باقي فتيات هذا العصر.. "جمال وأخلاق ما شاء الله".
¤    ¤     ¤    ¤

متفوقة كانت في دراستها قبل أن تعرفه وتحبه.. وقبل أن يأخذها شراع الهوى ليمخر عباب بحر العاشقين. أو قبل أن يتحول فؤادها إلى درة تدور إلكتروناتها في فلك الشغف والصبابة. أخذها الشرود في دوامته فزج بها في التيه..
مر شهر على أول لقاء، صارت لا تستطيع أن يمر يوم دون أن لا تراه، كل يوم لابد أن تنعم أحداقها بنظرة إليه، وتتفرس في الوجوه إن غاب عنها لعلها تعثر على ملامحه صدفة بين المارين..
بدأت تخفي عن والدتها بعض تصرفاتها، ما لم تكن تفعله سابقا.. كانت تنطلق بعفوية وبطلاقة، ما كان لها أسرار تخشى عليها أن تشاع...
شيء ما تغير محدثا الشك بقوة...
بعد أيام معدودة تطور شكها إلى يقين، كان الأمر صدمة عنيفة هزت كيانها.
     - لابد أن تأتي لتطلبني من... لابد... أنت تحبني؟ أكيد؟!
كان يطيب قلبها بكلمات بذوق الشهد. يريحها ببعض البسمات، وتنصرف وفي قلبها جزء من راحة غير مكتملة، كمولود لم يكتمل خلقه.
بين نزر من الراحة وقوة الهواجس أحست سوسن بخوف وندم.
تمر أيام كأنها هاربة، حسبتها سوسن تركض بها نحو قدر مخيف. كانت تتحسس مكانا في جسدها فيزداد شعورها المخيف، فتواريه..
تتصل به باكية:
     - لابد أن تأتي.. لم أعد أستحمل، ليس عندي حل.
     - لا عليك، يوم الثلاثاء سآتي مع والداي. اطمئني!
قالها أخيرا فانبسطت روحها وتوهجت ملامحها.. كزهرة بلّلها قطر الندى..
عادت لمحياها النضارة التي كانت قد انطفأت من كثرة تفكيرها، بالرغم من محاولاتها في عدم إظهار وجومها.
¤    ¤     ¤    ¤

يوم الثلاثاء والدار ترفرف فيها البهجة. الساعة الواحدة بعد الظهر.
سوسن تتزين بعدما أعدت كل متطلبات الضيافة..
موعدهم الآن.. لقد تأخر.. لقد تأخروا..
الساعة في الحائط، تحدث صوتا غريبا يثير أعصاب سوسن، ويغرقها في قاع سحيق مرعب، ثم ينتشلها بقوة.
     - ماذا لو..؟ ماذا أفعل؟ الموت أكيد..
في نفسها حديث حارق لا يكاد يخمد لهبه.
يرن جرس الباب فتنتفض (في غرفة الجلوس)، تضطرب تحتار ما بين اليمين والشمال، تجهل الوجهة، تركض سريعا إلى غرفتها.
دخل شقيقها الأصغر محدثا ضجيجا في المنزل، يريد أن يأكل.
هوى قلبها كأنه سقط في مكان عميق جدا..
ليس هو.. حسبته...
لساعة الجدار كلام لا يفهمه إلا سوسن. حديث يوم الثلاثاء، والميعاد قد فات بكثير. والناس تتنقل الخبر بين المتحسر والشامت. من قال أن الأخبار تخفيها الحيطان؟
غدا تسمع سوسن نساء الحي يلكن حديث الثلاثاء..
تتفحص ساعة يدها لتتأكد من الوقت محدثة شهيقا قويا، ثم تتناول المحمول، تعبث بأزراره. المحمول على أذنها، منتظرة تقلب بصرها في الحجرة وما تحتويه من أثاث، يكاد كل شيء يأخذ لون السواد، حتى الضوء المنبعث من زجاج النافذة الشفاف لونه اليوم أسود. تسمع صوتا عبر الهاتف أعاد لها حقيقة قد تاهت منها، حين كانت ترخي أشرعة الحب مبحرة، فاتحة صدرها للهواء والهوى، مرسلة ذراعيها في الفضاء مانحة روحها فرصة التحليق دون قيود، مؤمنة أن الحياة متعة لا تقيد أبدا.
طرق الصوت أذنها من سماعة الهاتف:
     - (.. يتعذر الآن الاتصال بمخاطبكم، المرجو إعادة النداء لاحقا..)!.
                                           تمت.

بقلم: رشيد أمديون

Join me on Facebook Follow me on Twitter Email me Email me Email me Email me

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | تعريب وتطوير : قوالب بلوجر معربة