الوصف
‏إظهار الرسائل ذات التسميات قصص قصيرة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات قصص قصيرة. إظهار كافة الرسائل

أنظرْ إني أرى..

هي ذي الفقاعاتُ كأحلامٍ شاردة.. كعطرٍ تنفسَهُ الوجودُ فسارت ذراتُهُ على حِدَة. حياةٌ تتموسقُ على إيقاعٍ مُرتخِيِّ الصَّمتِ، عميقٍ لهُ بالجمال صِلَة..هي ذي يا صديقي، تطير من فوق سطح منزل. كم هي بديعة! دعنا نقتربُ قليلا لعلنا نستمتع بقدرٍ زائدٍ من الرؤية البريئة......أتَراها؟ إنها كثيرةٌ تملأ هذا الرّحب وكأنها آمالهُ الصغيرة الوديعة، يحاولُ أن يطلعنا عليها جهارا، نهارا.. أليس المنظر جميلا وممتعا يا صديقي؟ أحسُّ أنَّ الطفل يدخل في تجربة استمتاع يتوَحّد من خلال فقاعاته مع العالم كأنها تحمل روحه الطاهرة الصادقة، ويراقبها باهتمام بليغ، في محاولاته أن يغطي الهواءَ، أن يعيدَ رسم ملامحَ هذا العالم الكاذب بالفقاقيع الطائرة، والسلام المحلق معها.. أنظر يا رجل... لماذا تحدِّقُ فيَّ هكذا كالأبله. أغلق فمك الفاغر. أنظر ألا تراه؟- مَن؟- الطفلُ.. الطفل...

فاقد الذات..

قصة قصيرة الأحلام تطير من رأسي هاربة منسحبة إلى قدر مجهول. الأوهام والوساوس تسكن هذا الجسد المعتلّ، تستوطنني، تقيم عاصمتها بإكراهٍ وبإصرار...  قلبي الآن فارغ من أيّ إحساس قد يمدُّني بالأمل في الحياة.  الحياة!! لها وجهان، ونحن من يختار الوجه الذي يُلائمنا منذ البداية. وكل الوجوه المقابلة لي متشابهة، سوداءٌ ترشقني عيونها بنظرات مذمومة، مستوية على أسُوق الكبرياء.  وسحابة الندم تغشاني...  اه اه.. كيف أمضيت عمرا في وادي العبث واللامبالاة، أُطعِم نفسي من مزابل الحياة المَلأى بالرذيلة والخسَّة والنفاق. كنت أسبح في مستنقع المتع الرخيصة، وائدًا كلَّ القيم. وأتباهى بانتصارات وهمية حققتها في لياليّ الحمراء متحديا خصومي بعدد الكؤوس التي أفرغتها في جوفي دون أن أستجيب لسلطة السُّكر الحقيرة... يقولون أن الإنسان يستيقظ من غفلته...

أَڭْـــنـاوْ

الرجلُ كان عملاقا قوي البنية، حاد النظر، مكتنز الأرداف ناصع الوجه...ونحن كنا صغارًا في عمر البرعم، نخافه ونستلذ متعة الخوف النادرة بمشاكساته.كانت تثير ضحكنا بقعة جلدية منتفخة على جانب جبينه العريض المتفصد عرقا على الدوام. نسخرُ منه، فيطاردنا وسط فضاء القرية ملوحا بذراعه القوية كمن يلاحق سرب طيور هارب. يركض خلفنا كثور هائج، ماسكا بطرف جلبابه كي لا يُعثره. يهتز جسده كله وركبه كأنها ترج الأرض رجا، أو هكذا كنا نحسب ونحن صغار. وبلغته البالية تدعسُ التراب وتقذف الحجر الذي يتعرض سبيلها، تزجه بعيدًا. كان جلدها الذي صُنعت منه أصفرا فاقع اللون قبل أن يُحوّلها القِدَمُ إلى نعل مرقع لا لون له. يُخيّل إلينا أنه اشتراها من سوق الأسبوع منذ زمن غابر قد يكون قبل ولادتنا بسنين. لكنه كان يجيد العدو بتلك البلغة الأثرية، فنفر كنمل انتبه إلى ناقوس الخطر فاستجاب...

كرامة الوطن

سامي الوطني، شابٌ تعرفتُ عليهِ عن طريق شلَّة من أصدقاء الأنس. لم تكن لي به علاقة قوية في بادئ الأمر. أما قبل، فكنت أسمع عنه أحاديثا على لسان أصدقائه، تصل إلى حد السخرية. إذ أنه كان شابا سريع الحركة والانفعال، له فلسفة خاصة في الحياة تلبسها بعض الغرابة... بعدها صرت ألتقيه كثيرًا في موعد جلستنا اليومية في مقهى المدينة. وغالب الظن -وهذا ما استنتجته- أن لقب الوطني أسندهُ إليه أصدقاؤه وزملاؤه في الجامعة حين بدأ يتفلسف عليهم بكلام يعتبرونه من الوهم المبالغ فيه، إذ أنه يربط كل ما يحدث له بالوطن، وحب الوطن، صغيرا كان أو كبيرا، عظيما أو حقيرًا. تراه حين يلعب المنتخب الوطني مباراة ضد فريق أجنبي يهرول إلى المقهى ليحجز أول كرسي في الأمام، قبالة التلفاز قبل بدء المباراة بساعة. ويكون أول الصارخين حين ينهزم فريقه الوطني: - كرامة الوطن تمرّغ في التراب. وحين...

يَنوءُ بحِملنَا

يَنُوءُ بِثقلِهَا وبجسْمِي الخَفيفِ والشّوارِي المُكَدَّسِ بالملابسِ المُتّسِخَةِ، فيُطأطِئُ رَأسَه الكبير، يَسيرُ في طَريقٍ غيرِ مُعبَّدٍ، تُعثِّر قَوائمَهُ الأمَامِيَّة بعضُ أحجَارٍ.كنتُ أركَبُ أمَامَهَا فَتَشُدُّ اللِّجامَ فَأختَفِي بينَ ذِرَاعيهَا المُكتَنِزَتَينِ. فَتَصِيحُ:- ارَّ.. ارَّ... كانت هَذِهِ أوَّلَ مَرّةٍ تأخذُني مَعهَا. قالت لي هيَّا مَعِي لِنغسِلَ المَلابسَ في الوَادِي. فَزَقزَقَت عَصَافِيرُ الفَرحَةِ حَولِي. أخِيرًا سَأمتطِيه. كانَ الحِمَارُ الـمُتْعَب يَنحتُ الـمَسِيرَ بِبُطْءٍ ُممِلٍّ، وابنَة عَمِّي تُحَاوِلُ كَسْرَ الرَّتَابَةِ بأُغنِيَّةٍ تَحفَظُهَا عن ظَهرِ قَلْبٍ، تَرفَعُ صَوتَها المَاتِع: - مِشْ حَ تنَازِلْ عنَّكْ أبدًا مَهْمَا يْكُونْ.. كُنتُ في عُمرِ البُرعمِ فأطربتني بالأغنية التي (كسَّرتِ الدُّنيا) زمنًا......

يدٌ، وعينٌ.. والكلام

هل كنتُ لأبكي لولا ذاك الدّفء الذي تركتهُ على رصيف المحطّة؟، إنّي تركتك واقفة قُبالته، كأنه مازال يحتويني، ورأيتك تضمينه كما كنت تضمين رسمي.لم أحمل معي غير ملامح إشارة يدك المتعبة التي لوّحتِ بها ببطء. بدت مثقلة بحزن أنهكها، لم تكن إشارتك عادية. إنّها تشير للمستقبل، تشير بعييييدًا، ولم يخفَ عني ما تعنيه، لم يخفَ...حركتُ يدي عن غير قصدٍ، أو ربما حركتها كي أردّ تحية الوداع. يدي ثقيلة، كأنها تأبى... حاولت، فاهتزت من كفّي بقايا عطرك، كان يغني لي أغنية فيروزية تنعش أنفاسي المتعبة من رائحة الوداع الخانقة.كم هي أنسامك فردوسية!!.فخطَفَـتني من نفسي. روحي اِنْتُـشِلَت من جسدي. من قاع سحيقٍ رفعتُ رأسي فرأيتُ عينك الذارفة، ووجهك الخجول كشمسٍ على أهبَة المغيب. وتلك الحمرة النازلة تشوب أفقي الضيّق... وعندما تحركت عجلات القطار، التي بدأت بطيئة في البداية...

سقطت نجمةُ في الليل

معزوفةُ اللّيل... نباح كلابٍ، ونقيق ضفادع البركة المجاورة كفرقةٍ موسيقية راق لها العزف. انسحبَ السكونُ الليلةَ من الدوّار بعدما تسلّلَ صوتٌ جديدٌ إلى هذا العزفِ الليليّ فغادر النّومُ عيونَ كل الأهالي. دارُ "عبدِ السّلام ولْدْ رحمة"، مُتزيّنة بمصابيح ملوّنة، أخضر، أحمر، أصفر. باحتها الأمامية تحولت إلى معتركٍ تُثير فيها الأقدامُ النّقْعَ. فوق الرّؤوس تشكلت سحابة من بياضٍ مُغبرٍ تُرى من بعيدٍ، يعكسها ضوء المصابيح المتوهجة التي تحوم حولها حشرات طائرة وبعض خنافسِ الدوّار التائهة. خرجت من مخابئها باحثة عن مصادر الضوء المشع... خرجت مع من خرجوا لتلبية الدعوة.اشتدّ الرفس بالأرجل والضرب على الطّبل، والدفوف تتراقص في الهواء فرحةً سعيدة. والغايطة تنادي صارخة أنْ هلمّوا إلى "الْهَيتِ"*. فامتلأ سطح الدار وساحتها... نسوة تسوق زغاريدًا حادة تركبُ...

بطالة

أعيد نشرها بعد أن شاركت بها في إحدى المسابقات.     كلّ الأرصفةِ المُهترئةِ تعرفني... وكراسي المقهى الشّعبيِّ، الذي ينفثُ دخانَ التّبغِ والحشيشِ..، وأشياءٍ أخرى أتعبت أنفاسنا إلى حدِّ السّآمة. تعرفني الوجوهُ المألوفة، فاستحالت صورتي في الأعينِ إلى جزءٍ من تفاصيلِ هذا المقهى العتيق. أمْلأُ كلّ يومٍ كرسيًا بجسدي النحيلِ، وأنتظرُ الغيبَ في اصطبارٍ مُتكلّف. الأزقة الضيقة المزدحمة بالعابرين تعرفني، والحارات الممتلئة بضجيج أطفالٍ يلعبونَ في مرحٍ قبل أن تبتلع أحلامهم البريئة وحشية المستقبل الذي يترصدهم من وراءِ حاراتهم المنهوكة، هناك على شارعٍ ببقايا الإسفلتِ على أرضه، بحفرهِ المُمتلئةِ بماءِ المطر، هناك يقفُ لهم كافرَ المَلامحِ، عبوسًا قمطريرًا. كلاب الشّارعِ المتشردة بنباحها الشبيه بثرثرة فارغة في هواء المكان، تشمئزّ حين تراني جالسًا......

امرأة وأنثى

كانت الضّاوية مشمرة عن ساعديها تحلبُ بقرتها الوحيدة وسط الإسطبل المبني بالطين. بينما كان عزّوز في الخارج يفترش التّبن، سابحا في اختلاجات نفسه، مستمتعا بنشوة دخان (السبسيّ)(1)، بعدما تعب من اللّف والدوران حاملا يديه خلف ظهره حيث كان يتجول بجوار البيت والزريبة... استلقى على ظهره فوق كومة التّبن مانحًا لجسده الراحة. تبسّم ملْء شِدقيْه...فجمع المطويّ (2)، ثم أخفاه في جيب سرواله الفضفاض. تذكّر أن صديقه علال رَكّبَ البارحة على سطح منزله صحنا هوائيًا يأتي بالعجائب والجمال. استدعاه عشية أمسٍ وأراه كيف ترقص سوسو!!. عدل طاقيته البيضاء على رأسه الأشيب، ثم جمع كفيه الواسعتين خلفَ قفاه مدّ رجليه، وردّد في نفسه: - سيستمتع علال، ما أسعده!! فأرخى العنان لناظريه... لمحَ قُبالته قدّا مياسا. أنثى ذات شعر متهدّل بلونه الفحميّ مقبلة نحوه... تتغنّجُ...

البياض والسواد

زمن الأسطورة انتهى. أنا لست ابن الأحلام... هذا الذي قد يراود مخيلتك أو يشغل بالك والتفكر، لا أملكه. أنا من أولئك الذين لا يأتون في الأحلام... أنا من الواقع المحض، الواقع المرّ الذي لا تزول مرارته برش ماء السّكر. أنا ابن هذا البلد!! لعقت العلقم من ذات الصّحن، وجُلِدت لأكون... نحن قوم لا تثبت هويتنا إن لم نجلد فإياك أن تتصوري أني يوما بردائي الأبيض سأركب فرسا أبيض، أو أني سأمر تحت شرفتك لأشاهد تحية المنديل الأبيض وهو ينثر عبقك المدلل في الهواء... تلك طقوس بعيدة عني كالقمر في السماء، ممتعة، ولكن... حاولت أن أمارسها فسجنني الواقع، بل نفّذ في حقي حكم النفي. أنا لست ابن الأحلام... لأنني أخشى إن نسبت نفسي يوما لها أن يضعوني في خانة الممنوعين، أو أن أكون حلما مزعجا يقظ مضجعك فتنكرينني قبل الفرار. دعكِ...

سواسية

ولو أنه بُعث؛ سأخبره أنّ الحياة ذاقَ من شهدها الكثير. لكنّه لم يستطعمه، بل بصق بكل وقاحة في وجوه من كان يملك أمرهم.سأجد فسحة أمارس فيها حرية الكلام دون أن أخشى يداً تمتد نحوي لتصفع رقبتي، أو ترميني خلف المدار... فقد انتهت مهمته لم يعد بيده الأمر والنهي، وإن بعث.لو أنه من النعش نهض وعانق أذلّ شخص في قريتنا، بل وقبّل يده، أو رجله... ولمَ لا؟؟فقد عاش يدوس ويدوس، فلماذا لا يُداس بقدمين موحلتين في يوم يكون أخر زمنه وعهده؟ضحكت كالمجنون وأنا أنظر إلى أولئك الأشخاص ذوي الرفعة في الصفوف الأمامية، بدا عليهم التملق، والتظاهر بالحزن والأسى..كدت أصرخ: (كذبٌ ونفاق، عشتم في حياته تراباً لرجليه، وبقيتم بعد رحيله كما أنتم...). أدرت رأسي إلى الخلف، كانت هناك صفوف أخرى. رمقت وجوها ذابلة عليها غبرة المهانة، كأنها تصيح صامتة: (لقد قهرنا حياً... ويقهرنا ميتا)....

رؤيا اليقظة

رؤيا اليقظة لَم يكن مثلها يتقن الإدلاج والسّفر إلى القمر المُشع، ليأتي بالنّور، ليُضيء ما بينهُما من مَسافات بوحٍ هَادِر... صَمتهُ يُقيّد جِماح حُبّه المُخضرّ في بَساتين الوِجدان، يُكفّر شَوقَه الهَائج بِشُعلة الخجل الماكثِ أمَامه زمناً من ولَهٍ مُملّ. تَرَاهُ ذات يقظة مَاسكاً ذِراعَها وقد تحوّلا عن بُعدٍ إلى طيفين رَاق لهما العُروج، فتبسّمت من عِشق حطّ على مُحيّاها حَسبته طيراً أخضَر ففتحَت بالأشواق لهُ طريقاً حفّته الأزاهير. عادت فمَدّت نظرات مرتعدة نحو السّماء تبحثُ عنه في زُرقتها، فصاحت بفزعٍ مُرعد كسحابةٍ في مخاض الإمطار: - أين اختفيت؟ أين.. أحسّت بدفء يلمسُ كفّها. - ما بك عزيزتي؟ أنا هنا لم أفارقك لحظة.  15/02/2012 لحظة عناق جاءَ من بَعيد يَركض مزهواً بمِيعادٍ أشرقَ أمامهُ كالشّمس. قدمان صّغيرتان تتعرّجان ذات اليَمين...

يوم الثلاثاء

يوم الثلاثاء، لا تشبهه الأيام؛ شمسه ذهبية، رافقت صبحا نفض عن ردائه بقايا كسل ليل ثقيل. باسمة للحياة، ناشرة نورها من أفقها العالي..  في المنزل فرحة مشعة كنور شمس هذا اليوم. أثر بهجة على جدرانه، وعلى كل تفاصيله. حتى رصيف الباب مختلفٌ يوم الثلاثاء. الفرحة لها مظاهرها تبرز في الحركة الغير عادية لصباح يوم الثلاثاء البهيج. الأب لم يذهب إلى العمل هذا الصباح، ظل مستلقيا على فراشه إلى الساعة التاسعة.. لم توقظه إلا زوجته بإصرار، وهي تلح عليه بنداءات متكررة، تدعوه... غمغم من تحت الغطاء قبل أن يجيب:      - ألم أحضِر كل الحاجيات أمس..؟      - قم.. مازلت بعض الأغراض تنقص!. يقوم مطيعا، ينفد الأوامر الصادرة من ربة بيت تحب كل شيء متقن. لا مجال لديه ليناقشها، تلك معركة خاسرة، أكيد أنها خاسرة. يحضر ما طُلب منه. يسلمه إلى...

لا شيء من أجلها

كانت هناك، بجانب الطريق، تمتحُ نضارتَها من طبيعة الريف الخلابة.   في البكور. يمر بجانبها الأول. يتوقف هنيهة، فيلتفت حوله خلسة،. يمد يده، يقطف قطفة، ثم ينصرف...  يمر الثاني على عجل... لم يتوقف!.. يرسل اليد بشكل معتاد.. قطفتان.  يكرر الثالث فعل أسلافه. ثم الرابع والخامس...  غرسها الحاج محمد في بستانه الصغير. قريبا من باب داره. كان مولعا بغرس شجيرات التين في زمن الشباب... تلك أيام مضت قبل أن يثقل كاهله بأعباء الدنيا وهمومها. رعاها بعناية قلّ نظيرها. نمت وبرزت أفنانها. ثمارها إن أينعت، يسيل لها لعاب الناظرين. تفرعت أغصانها وامتدت خارج البستان. قطوفها الدانية، قريبة للرائح والغادي.. تمتد إليها الأيادي... يحلو للحاج محمد وقت العصر أن يستظل بظلها، يضطجع على جنبه الأيمن، مفترشا حصيرا منسوجا من الدوم، تآكلت أطرافه....

خبايا الليل

سكون الليل يحف المكان. عمود النور يرسل بعض ضوء خجول يكسر العتمة برفق وعلى استحياء. البيت الكبير الواسع يقبع في مكان منعزل عن باقي منازل الحي. رَكن إلى عزلة، يناجي الليل في خلوته... في أسفل البيت مرآب واسع بباب حديدي عملاق، تعلو ظهره طبقة من الصدأ، مع بعض بقايا طلاء قديم أوشك أن يزول. أحدث الباب صريرا مزعجا وأنا أجر دفته العالية إلى الخارج. تقدمنا بخطوات واثقة تشق ظلمة المكان، شجعنا ضوء خافت منبعث من إحدى زوايا المرآب، يشير لنا ببصيصه المتعب إلى أن نتقدم نحوه بتؤدة. في الركن كان هناك حيز معزول بحائطين شكلا غرفة صغيرة. وجدنا محمد قد افترش أرض الغرفة الفارغة بحصيريين، وغرس شمعتين على مائدة صغيرة واطئة. الشمعتان تقاومان الظلام بإصرار حارق لحد الذوبان..  على محمد ومن معه ألقينا التحية والسلام. ركن البعض منا ظهره إلى الحائط، وربع الآخرون...

صمت عنيد

كل الأصوات اختلطت في أذنيه ببقايا صوت هدير الحافلة بعد أن توقفت. صراخ بائع البيض المسلوق... بائع السجائر... ماسح الأحذية... المتسولون بكلامهم المِلحاح... صياح من هنا وهناك: - الرباط، الدار البيضاء... طنجة، تطوان.. يغادر مسرعا، هاربا من ضجيج المكان المتعب، وقد أشعره بدوار. شيء واحد ظل ملازما مخيلته، بل إنه صوت زاعق لا يملك القدرة على الانفكاك منه ولا الهرب مهما فعل. ضجة أحاديث زوجته العالية التي تشبه الصاعقة، تهز مخيلته التائهة في دروب هذه المدينة التي حلّ بها اليوم... - أين أنت ذاهب يا رجل؟ سألته ويديها فوق خصرها. قابلها بصمت عنيد. لم ينظر نحوها وهو يجمع أغراضه في حقيبته الصغيرة. - سأرحل عنك يا وجه الغراب. قالها في نفسه وغادر. كان حر الظهيرة يلفح جبينه ومقدمة رأسه الأصلع، فما كاد يصل إلى سيارات الأجرة حتى تصبب وجهه عرقا. اندس بجانب...

لقد عبر

ذات صباح تمخضه فجر يوم من أيام فصل ماطر، بدأت السماء تصفو وتكشف حجابها الساتر، فأطلت الشمس خجولة كوجه عروس، تحاول بما أوتيت من أشعتها أن ترش الدفء وتنشر على قتامة الحارة قبسا من نور. على رأس شارع الحي جمهرة قادمة وهتاف وضجيج ، شباب على رؤوسهم قبعات بيضاء، حركات أيديهم توحي بشيء، كأنهم ينثرون الحَب ، فتتبعثر الأوراق البيضاء في الهواء قبل أن تسقط ليمتصها البلل على قارعة الشارع وتدعسها أقدام المارين.. كان يتوسطهم. يحوم حوله الجميع. شعره الكثيف المشتعل بالبياض ككومة ثلج ناصع، يرتدي بذلة سوداء مع ربطة عنق وقميص شديد البياض، حطت على هندامه الأناقة ، على الثغر ابتسامة عريضة لا تبرح مكانها منذ ولج بها حارتنا المنهوكة، تبدو صفراء اللون شاحبة... ترى كم ستزرع من التأويلات والاستفسارات في عقول أولئك الواقفين خلف نوافذهم يطاردون بعيونهم في خلسة الموكب...

عجوز القرية

تستيقظ القرية كما المألوف على ضجيجها، تتناقل مجالس النساء حديث ليلها ويرتعب البعض وتنال من الآخرين الدهشة. هي لا تنام ، هي بالليل سامرة، ولا يغمض لها جفن في جحرها الواسع.  تعود منها الناس عند اقتراب خطوات المساء أن تجمع الأحجار في شِوال، متتحسسة الأرض بكفين تعربان عن سن الشيخوخة، لا فرق عندها بين النهار والليل، فالظلمة في عينيها رغم شمس النهار، فقد انطفأ نور حبيبتيها.. تتناول الحجر وتتوعد أسماءً محددة يعرفها أهل القرية: لن تسلموا الليلة من رجمي، عليكم اللعنة. تقول النساء عندما تبلغ العبارة آذانهن: حفظنا الله منهم، أولئك الذين ننزه ألسنتا عن ذكرهم.. تقف وسط القرية تدعو عليهم رافعة كفيها إلى السماء… وأنفاسها لا تنقطع هي لا تفتر.. تلك عادتها، آلفها الصغير والكبير. يحل الظلام فيطوي السكون كل أرجاء القرية، زاوية فقط لا تنام ، يعلو منها...

تحت ظل شجرة الخرّوب

     يذكرها جيدا؛ كيف له أن ينسى جدعها العريض، أغصانها ذات الأوراق الكثيفة، قطوفها الدانية ولكنها ممنوعة.. حتى حركة التسلق لم تُمسح من ذاكرته. لم يكن يفهم وهو في عمر البرعم أن الشجرة رغم عطائها وانتاجها الوافر فهي في سن الشيخوخة، كعجوز تتوسط القرية. ذاكرته تحتفظ بكل أنواع الأنشطة التي مارسها تحت ظلها، ومجلس رجال القرية وهم يتجاذبون أطراف الحديث، يقتلون الوقت بسهام الكسل فيعاندهم بخطوات بطيئة... مضى الزمان. قال لنفسه: ليتني أسترجع  ذلك الوقت المقتول الذي سحقوا هامته بإصرارهم في الجلوس ساعات طويلة  يمارسون حشو الرؤس بأخبار الناس والأحوال والقرية..  تذكر ما كان يقول له أهله: إياك أن تأكل من ثمار الشجرة فهي وقف على المسجد! لا يفهم كثيرا مما يقولون! لكنه يدرك  أن للشجرة قداسة  مادام الأمر يتعلق بالمسجد،...

Join me on Facebook Follow me on Twitter Email me Email me Email me Email me

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | تعريب وتطوير : قوالب بلوجر معربة