يقدم كتاب «القبيلة، الإقطاع والمخزن مقاربة سوسيولوجية للمجتمع المغربي الحديث 1844-1934» للباحث الهادي الهروي، موضوعا يحاول من خلاله المؤلف الحسم في إشكالية الفيودالية والإقطاع، مختبرا العلاقات والتحالفات والتوافقات التي يمكن أن تكون مفتاحا لتفسير الحاضر، حيث لا يمكن فهم الحاضر إلا في علاقته بماض غير قابل للاختزال أو التحريف من حيث أنه ماض وطني مترسخ، بتراكماته الإيجابية والسلبية، في بنية اللاشعور الجمعي.. وسعيا إلى ذلك فقد عمق الكاتب بحثه لفهم وتفسير وتنظير مفهوم من المفاهيم المركزية المحلية كجهاز أدواتي إجرائي، إذ وظف مفاهيم الأرض والإخس والعظم وتاقبيلت والزاوية والعزيب وأجماعة وزوجة الحرث والأكّادير والكونفيدرالية والأكّرام والأمغار واللفوف.. والسلطان والحكم المركزي وأدواته كالقائد والشيخ والأمناء والأعيان والعسكر والوزراء، والمقدس والمدنس... كما ركز في فترة أخرى على أنماط الاستغلال التي عمت العلاقات بين الأسياد والفلاحين والفاعلين الحقيقين في الأرض مثل: خماسة، رباعة، عزابة، خبازة، خدامة.. وهي مفاهيم ذات بعد اقتصادي وأنتربولوجي. وتكمن أهمية هذه المفاهيم الإجرائية في كونها تمكن من فهم وضعية الشقاق والسيبة والصراع الذي احتدم بين القبيلة والجهاز المركزي وما آلت إليه الأمور نتيجة ذلك من حالة الاستقرار السياسي أو عدمه بالبلاد. وفي هذا السياق يمكن تفسير مشكلة ملكية الأراضي بالمغرب ونظام الملكية عموما، وممارسة السلطة وعلاقتها بمختلف مؤسسات المجتمع وبمختلف الهيئات السياسية من لفوف (أحزاب) وكونفيدراليات (نقابات) وأجماعة (برلما) وتضامنات تقليدية كالتويزة (جمعيات مدنية)... وكلها ألفاظ، وإن برزت اليوم في ثقافة مفاهيمية جديدة ومدنية فإنها متأصلة في البنية القبلية وفي العقلية البدوية الفلاحية التي تنكشف بصورة غير مباشرة في المدن وفي الكيفية التي تدبر بها الأمور العامة والخاصة.
كما استدعى التأمل في إشكالية الإقطاع في علاقته بالقبيلة والمخزن إلى العودة إلى بنيات المجتمع المغربي في الماضي واستنطاقها وتحليلها وتفسيرها خاصة البنية السياسية ومرتكزاتها الدينية والاجتماعية والثقافية والإثنية وأدواتها وامتداداتها في البوادي والقبائل وعلاقة تلك الأدوات والامتدادات "برعايا" السلطان ومدى طاعتهم إياه وولائهم له أو عصيانهم وتمردهم عليه. كما قام الباحث بتحليل البنية الاجتماعية للمغرب خلال منتصف القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، لكشف طبيعة العلاقات الاجتماعية وأنواع التضامن وروابط التآزر والتعاضد الذي يشكل النواة التي نسج عليها المجتمع المغربي وخاصة القبلي. فركز الباحث على القبيلة كمفهوم إجرائي وباعتبارها مفتاحا يمكن من فهم المجتمع المغربي سوسيولوجيا وأنتربولوجيا وسياسيا، بما تمخض عنه من مفاهيم كالسلطة والعنف والإكراه والنفوذ والصراع والتحالفات... إذ أن القبيلة ليست موضوعا جغرافيا فحسب بل هي معطى إثني وإيكولوجي واجتماعي واقتصادي وأخلاقي وعقائدي، ومن جهة أخرى فهمها كبنية لها علاقة بالأرض، إذ لا قبيلة من دون أرض، وكل الصراع والمواجهات الأكثر عنفا ودموية كانت تدور حول الأرض، وبالتالي تعد القبيلة عاملا محددا للأمن والاستقرار أو للتسيب والفوضى لهذا تناول الباحث علاقة القبيلة بالسياسة، باعتبارها (أي القبيلة) منطلقا لفهم المجتمع المغربي الحديث أو في تأويل معطيات الحاضر بأنماطه الثقافية وتشكيلاته الاجتماعية والاقتصادية وتفاوتات طبقاته وديناميكيته وحركية فاعليه السياسين والإداريين وتموقعهم في هرم السلطة والجاه. وحول الأرض كان يدور الصراع البطولي بين الفلاح الطموح نحو السيادة والاستقلال والجماعة التي تبحث عن المناسبة التي تكبو فيها الفلاحة الفردية لانتزاع ملكية الفلاح. ثم حاول الباحث اختبار فرضية مسألة الإقطاع بالمغرب، باعتباره مفهوما مرتبطا بعلمية تغير سوسيو اقتصادي، على مستوى السلوكات والمعتقدات وعلى مستوى العقليات ونمط الحياة الثقافية وطبيعة نظام الحكم وانتقال السلطة وتوزيع الأدوار فيها. كما أن روابط التبعية والعلاقات المتفاوتة حول الأرض والفلاحين قد خلقت علاقات إقطاعية، وحتى وإن كانت تبدو محلية، فإنها اعتبرت مؤشرا لمجتمع إقطاعي وتضمنت بوادره، غير أن المستفيدين من الأقطاع ظلوا خاضعين للسلطان وتابعين له باعتبارهم أصحاب سيدنا، وهذه الصحبة وظفوها في تكديس الثروة ومراكمة السلطة والنفوذ واحتكار وسائل الهيمنة والسيطرة كرأسمال رمزي. وبهذا ظل الإقطاع تجسيدا واقعيا لسلوك بعض الأشخاص وممارستهم الانتهازية والشاذة، فاعتبره الباحث بمثابة ظاهرة سوسيولوجية وتاريخية، ومعضلة لا يمكن حلها بالحيلة بل ينبغي قطعا بالسيف.
0 تعليقك حافز مهم على الإستمرار:
إرسال تعليق
كلماتكم هنا ماهي إلا إمتداد لما كتب، فلا يمكن الإستغناء عنها.
(التعليقات التي فيها دعاية لشركات أو منتوجات ما تحذف)