يقوم الكاتب رياض عِصمت في هذا الكتاب «البطل التراجيدي في المسرح العالمي» بدراسة مجموعة من الشوامخ في تاريخ المسرح العالمي، قديمه وحديثه، من خلال البطل التراجيدي باعتباره شخصية وجودية، متمردة، ثورية وكأنها تجابه قوى ميتافيزيقية عابثة أو قوى اجتماعية جائرة. والتراجيدية أو المأساة، في تعريفها هي شكل من أشكال التعبير في الفن، تعكس استفحال التناقضات غير القابلة للحل في زمن معين، التناقضات بين متطلبات الفرد وصبواته والاستحالة العملية لتحقيقها، بما يؤدي إلى انفعالات ومعاناة أليمة قد تفضي إلى موت البطل، رغم ما يبذله من قدرة هائلة على مواجهة مصيره بشجاعة في التصدي للعبث الكوني والاجتماعي، ورفضه الحلول الوسطى ولو كان ذلك على حساب حياته وحياة الأخرين.
قسم الكاتب الكتاب إلى قسمين، قسم بعنوان «البطل التراجيدي في المسرح الإغريقي والإلزابيثي والكلاسيكي الجديد» يحلل ضمن هذا القسم مجموعة من الأبطال بداية من:
-"سوفوكليس" من خلال مسرحيته "الكترا" حيث أن أبطاله يحملون مسؤوليتهم على ظهورهم في نفس الوقت الذي هم فيه مرغمون على قبول ضغوط القدر، فهم يملكون قدرة على مواجهة مصيرهم بشجاعة، ولكن ليس في قدرتهم الهرب منه. واللعنة هي منشأ الصراع، لكن نقاط العنف تكمن في أعماق الإنسان نفسه.
- ويحلل أبطال كريستوفر مارلو، من خلال مسرحيته "فاوست"، وقد يبين أن المسرح الإليزابيثي عرف خلالها تطورا واضحا، فالقدر الميتافيزيقي لم يعد هو المسؤول(كما عند الإغريق) بل الإنسان. والمأساة ليست نابعة من صراع بين المحتوم وبين الحرية، بل بين نوازع الإنسان الخيرة والشريرة (مجسدة أو غير مجسدة)، أما كل ما هو ميتافيزيقي فهو إما عبارة عن رموز، أو عبارة عن تأثيرات فنية وشعبية من الأنماط السابقة.
- وأبطال شكسبير من خلال مسرحيته "ماكبث"، فيحلل الكاتب هذه المسرحية التي تعد إدانة للفردانية في الحكم، ورفض لأن تكون السلطة تسليطا: فالبطل الذي يعزل نفسه عن مسيرة شعبه، ويوغل في تأكيد ذاته عن طريق القسوة، يتحول إلى ديكتاتور، ويحفر بالتالي قبره بيده.
- وأبطال راسين في المسرح الكلاسيكي من خلال مسرحيته "فيدر"، وقد عمل راسين على تحقيق أقصى مثالية ممكنة بالنسبة لصفاء النمط المسرحي، فخلت مآسيه من أي لمسة كوميدية، متعمدة على الوصول إلى ذروة العاطفة عن طريق الحوار الشعوري الذي يعكس بصدق كبير ودون حذلقة أسلوب الإحساسات الداخلية للشخصيات، وذلك عبر حوارات ثنائية غالبا تصل بالصراع الخارجي والداخلي معا إلى ذرى عالية من القوة والشفافية، لا يضاهيه في ذلك شكسبير في المسرح ودوستويفسكي في الرواية. ولمسرح راسين سمة يختلف بها عن المسرح الإغريقي أن مسرحياته باستثناء "مأساة طيبة" و"برريتانيكس" تنتهي بنهاية غير دامية جدا، على الأقل بالمقارنة مع شكسبير، والقسوة فيها لا تعني الموت بل الحياة، والنهايات تحمل الحل الأخلاقي العقلاني للتأقلم مع الحياة.
والقسم الثاني من الكتاب، عنونه الكاتب بـ«البطل التراجيدي في المسرح الحديث والمعاصر». وفي هذا القسم يتناول أبطال:
- هنريك أبسن، الذي يعد أب المسرح الحديث. ومسرحه له طابع فلسفي، مسرح صراع أفكار باطنية ونفسية، وصراع الإنسان مع الأقدار العاتية. ومن ناحية بناء الشخصيات، فالصفة الإنسانية تقوم على مدى ارتباط الفكر بالواقع، وفي مدى تعبيره عن أزمة إنسانية ما بصدق. ومسرح أبسن ليس إلا نبوءة بمأساة الإنسان المعاصر، وليس إلا الأساس الحقيقي الذي تفرع عنه بعد سنين عديدة كل من المسرح السياسي الاشتراكي ومسرح اللامعقول.
- وحلل في هذا القسم أبطال لويجي بيرانديللو، الذي يعد من أقطاب الدراما الذين طوروا تاريخ الأدب المسرحي وأثروا في كثير من كتاب المسرح بعده، ويرى بيرانيللو أن الشخصية تصبح حرة على الفور، حتى من مؤلفها، بحيث أنه من الممكن لكل شخص أن يتخيلها في مواقف عديدة أخرى لم يحلم المؤلف نفسه بوضعها فيها. وبهذا يؤكد بيرانديللو أن للحقيقة أوجها متعددة، ولكنه عجز (كما يقول الكاتب) عن تجاوز ضبابية الوضع الكائن نحو كشف رؤيا مبررة للوجود، إنسانية، وصادقة.
- كما حلل الكاتب أبطال لوركا من خلال مسرحية "بيت برناردا آلبا"، وأبطال الألماني برتولد برشت من خلال مسرحية "حياة غاليليو"، وقد تضافرت في أدب برشت المسرحي عناصر الوعي الاجتماعي والسياسي مع نظرية جديدة في فن المسرح. وبريشت كان ينطلق من السلبيات إلى ما يجب أن يكون، وتلك هي سمات البطل التراجيدي المعاصر: فالمأساة لا تتعلق به وحده، بل بالمجتمع كله.
- وأبطال جان آنوى، انطلاقا من مسرحية "أنتيغون"، وهي مسرحية وجودية ذات إسقاطات سياسية. وبيّن الكاتب أن الصراع عند آنوي هو بين السياسة بشكلها الانتهازي المعهود وبين النبل المطلق، وهذا الصراع تكتسب فيه الشخصيات ما يثري الفعل التراجيدي بتفاصيل إنسانية مرهفة وصغيرة.
- أما تحليله لأبطال آرثر ميلر في مسرح الحديث والمعاصر، فكان من خلال مسرحية "موت بائع جوال"، وهي عمل تعبيري أمريكي ينطلق من بنية واقعية بحثة، وعمل يتسم بالبساطة والذكاء والعمق النفسي للأبطال، كما يتسم بالوعي الاجتماعي والسياسي لواقع المجتمع الأمريكي. والمأساة في هذه المسرحية لم تعد شكلا ثابتا مستقر الملامح، كما كانت في الماضي، بل هي مجموعة من السبل (ربما اختلفت أو تناقضت من ناحيتي الدافع والمعالجة) لكن تأثيرها الحاصل في النتيجة يخلق إحساسا قاتما حزينا، بيد أنه لا يخلو من إيمان الهدم والبناء: هو إحساس يتساءل عن مصير الإنسان في صراعه مع قوى عاتية، ربما كانت قوى ما وراء الطبيعة (كما عند الإغريق)، أو قوى لا معقولة، أو قوى عدم الفهم الذي يقف حاجزا بيننا وبين الآخرين (كما في مسرح العبث)، وربما كانت قوى اجتماعية مستغلة أو ظالمة (كما في المسرح الاشتراكي)، أو قوى نفسية أو عقلية مدمرة تنبعث من باطن الإنسان (كما في المسرح النفسي).
- ثم تناول الكاتب مسرح العبث من خلال مسرحية "في انتظار غودو" لصموئيل بيكيت، والتي تعد مسرحية أثارت من النقاش ما لم تثره مسرحية أخرى معاصرة تقريبا. وأكد الكاتب أن مسرح العبث ليس مسرحا جماليا محضا بلا مضمون، وأن كتَّابه لا يكتبون لأنفسهم فقط بل للناس. ورغم غرابته وتهريجه وبؤسه وعربدته فهو مسرح مأساوي روحا رغم رداء الكوميديا الصارخ. والمأساة فيه لا تقل فجيعة عن المأساة اليونانية، فهو مأساوي بسبب الإحساس بفراغ الكون وغياب العدالة والمجد في رحلة تهدد الإنسان فيها أنياب الذئاب الشرسة خلف منعطف المجهول.
وقد جمع الكاتب رياض عصمت في هذا الكتاب مجموعة متباينة ومتضاربة من الأبطال التراجيديين الذين يتراوحون بين أشباه الآلهة (أوديب مثلا) وأشباه المهرجين. والاهتمام بالبطل التراجيدي هو ما طور بعض من أهم اتجاهات المسرح الحديث في الإخراج والتمثيل، وهذا الكتاب قام فيه الكاتب باختيار نماذج فقط من الكتاب العالميين الذين أعجب بهم، وإن كان لأسباب موضوعية أو اعتبارية، فإنه قد أغفل بعضا ممن برعوا في رسم صورة البطل التراجيدي في المسرح الحديث خاصة، مثل يوجين أونيل، وأنطون تشيخوف، وتينسي، ويليامز، شون أوكيسي، وغيرهم.
0 تعليقك حافز مهم على الإستمرار:
إرسال تعليق
كلماتكم هنا ماهي إلا إمتداد لما كتب، فلا يمكن الإستغناء عنها.
(التعليقات التي فيها دعاية لشركات أو منتوجات ما تحذف)