الوصف
‏إظهار الرسائل ذات التسميات قصة قراءة الرسالة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات قصة قراءة الرسالة. إظهار كافة الرسائل

قراءة الرسالة (ج:6) الأخير


القصة منقولة من اللغة الأمازيغية. لقراءة الجزء: الأول - الثاني - الثالث - الرابع - الخامس

الجزء السادس والأخير

ثم ناداهما متسائلا:
- من فضلكما متى انهارَت هذه الدّار؟ 
استغربتا منهُ حين طرحَ سؤالهُ بالأمازيغية. ظنتاهُ أوروبيًا من هوّاة السياحة بين قرى سُوس. 
ردّت عليه "لالّة فاضمْ": 
- بالأمسِ يا سيدي... تهدّمت.. 
باندهاشٍ واستغرابٍ قال: 
- أمس؟!! 
وهل تعرفينَ يا سيدتي أين هما المرأتان اللتان كانتا تسكنان فيها؟ 
- إنهما نحن يا سي... 
وهل تعرفينَ يا سيدتي أين هما المرأتان اللتان كانتا تسكنان هذه الدّار؟ 
- إنهما نحن يا سي... 
لم تكمل "لالة فاضم" كلامها حتى انبعث صوت الرجل، حنونا: 
- أمي.. أمي.. أنا "همّو".. 
في دهشة، استقبلتاه بالنظرات، فأسفرتا عن وجهيهما... أهو حقا "همّو" بكامل صحّته وعافيّة؟! أهو "همّو" بثغرة الباسم؟!.. الذي تشتهي الأبصارُ أن تراه... 
في لحظةِ اللّقاء، نسيتا ما مرّ علهما من محن. الاستسلام لنشوة اللّقاء السامقة ألهاهما عن كلّ شيء. إنّها لحظة ولادةٍ جديدةٍ وانبعاثُ أملٍ من تحتِ أنقاضِ الموت... لحظةٌ عاشتا لأجلها فطال انتظارهما.. 
انتشر الخبرُ في القرية. وعلِم الجميع أن "همّو" هو صاحب السيرك الذي حطّ الرّحال وسط الساحة. عظم مقامُه عند الناس وقد صار أرفعهم مكانة... اجتمع الأهالي في نفس اليوم بمنزل "بيهي" يرتشفون كؤوس الشّاي الأخضر . ويلوكون حبّات اللوز، كان "همّو" يحكي لهم عن مغامراتِه بعد هجرته إلى فرنسا حيث ظل عاطلا عن العمل ردحًا من الزّمن، ولم تسمح له كرامته أن يعودَ إلى بلاده متأبطًا فقره. الْتَقى بصاحب أكبر سيرك فاشتغلَ عنده كصانعٍ للفُرجَة. رافقه إلى كلّ بلدان العالم، فما ترك أوروبا ولا أمريكا ولا اليابان... 
كما أخبرهم أنّه عندما طالَ به المقام في السّيرك، تعلّم تقنيات جديدة، واكتسب مهارات أهلته أن يتجاوز مرتبة عضو يؤدّي الحركات البهلوانية إلى أن صار مروّض أسود وفيلة... وتعلم فن اللّعب على الحبال وغيرها... فكسب مالا كثيرًا. ثم شرع في شراء أسهم شركاء السيرك، شيئا فشيئا حتى امتلكه. 
حدّثهم عن هذه الأشياء كلها، واحتفظ لنفسه بالجزء الذي حوى المعانات والتحديات التي واجهته... الجوع والمرض والبرد والوحدة والغربة... كلّها اتّحدت ضده قبل أن يجد عملا. كان يجلب قوته اليومي بالنقود الزهيدة التي يمدها له بعض زبناء المقاهي أجرَ ما يقدمه من فرجة على الأرصفة أو داخل الحانات، غير أنّ هذا العمل لم يلجأ إليه إلا مكرهًا، بعد أن كاد الجوعُ أن ينالَ منه. ما كانت ممارسة نشاطه في بعض الأماكن سهلة، فما تعرض له من المنع من أرباب الحانات والمقاهي حين ولوجها أشعره بغصة في حلقه، كان بمجرد أن يبدأ حركاته يرسلون إليه حرسا شدادًا ينهالون عليه بالضرب ثم يطرحونه إلى الخارج ككلب متشرد. 
كان يبيت في غرفة ضيقة متسخة تعود لمغاربيّ عجوز لا يهتم بغير الخمر والقمار لاهيا في دنيا الفساد... هاجر هو كذلك إلى فرنسا منذ أزيد من خمسين عامًا، ولم يزر وطنه أبدًا ولا بعث برسالة واحدة إلى أهله... 
ذات مرة اشتد مرض "همّو" فلازم الفراش عدة أيام. وهن جسمُه تحت سطوة الجوع والبرد وانعدام من يعتني به، ورفيقه العجوز - كالقطط المتشردة- لا يعود إلى غرفته إلا بعد منتصف الليل. 
وذات صباح أغمي عليه، فأتى له العجوز بالطبيب. بعد أن فحصه، نصحه أن يحمله إلى المستشفى بسرعة وإلا فهو هالكٌ لا محالة. 

عندما خرج الطبيب احتار العجوز في الأمر، فخشي على نفسه. فإنْ حمله إلى المستشفى سيكتشفون أمر تستره على مهاجر انتهت صلاحية وثائقه القانونية. وزاد ارتباكه حين فكر أنه إنْ لم يفعل قد يموت على فراشه، وسيزداد الأمر تعقيدًا، وستكتشف السلطة كلّ شيء ويجني أضعاف المصيبة. لجأ إلى بعض أصدقائه طالبًا استشارتهم، فاقترحوا عليه أن يحمله في منتصف الليل ويلقيه على باب المستشفى... قالوا له: سيأتي حتمًا من سيراه ويخبرُ الأطباء. سيُعالجونه بدون أن تتورّط في الأمر. 
اتّبع العجوز اقتراح أصدقائه، فنقل "همّو" على سيارة لصديق له. ثم أنزله أمام باب المستشفى وفرّ مرتعدًا... 
حُمل "همّو" على وجه السرعة إلى غرفة الإنعاش بعد أن وجدوه طريحَ رصيفِ بابِ المستشفى. 
أمضى بعض الأيّام في العلاج، ولمّا أحس بتحسن هرب مخافة أن تعيده السلطة الفرنسية إلى المغرب إن أكمل علاجه واكتشفوا أن وثائقه منتهية الصلاحية. ثم عاد إلى عمله كما العادة في المقاهي وجوارها... 
أبصره ذات يوم رجلٌ يمتلك سيركًا، فأعْجِب بحركاته الرياضية ورشاقته... فاقترح عليه العمل معه. 
كانوا يرشفُون من الكؤوسِ الشّايَ السّاخن ويستمتعون بمضغ حبّات اللوز... وحدها متعة أخرى كانوا يتذوقونها بأسماعهم. متعة التعجب والتأثر والاستغراب، فحديث "همّو" مولّد لهذه المتعة حين أسهبَ في ذِكر عجائب الدنيا التي شاهدها بأمّ عينيه، وأخبار البلدان التي سافر إليها... 
ظلوا ينصتون إلى أن روى لهم الحلم الذي كان السبب الرئيس في الرجوع إلى قريته. نسوا كل ما حدثهم عنه من الأخبار والعجائب، فانبهروا ما بين المسبّح لخالق السموات ومن سبقته عَبَارَاتُه فتلألأت بين أحداقه... 

حكى لهم عن تلك الليلة. نائما، كان يحلم أنه رافق أمّه ليجمعا معا الحطب من الغابة، وبينما أمّه تجمع الأغصان التي قطعها، مضى نحو جدعٍ جاف، ثم شرع يكسره بفأسه ففوجئ بطير عظيم الجسم أمامه، له ريش رائع. انبهر "همّو" وظل ينظر إليه في استغراب، فانتفض الطائر من مكانه ممسكا بـ"همّو" بمخالب إحدى رجليه، ثم طار به في السماء... لم يرتبك "همّو" بل أعجبه الموقف الممتع. راق له أن يُحلّق في الهواء، وجد راحة لم يشعر بها من قبل... عرج به الطائر العملاق مُرفرفًا بجناحين طويلتين يمددهما، متجهًا نحوَ نورٍ عظيم... وعندما اقتربا من شعاعه، نظر "همّو" نحو الأرض فلمح والدته كأنّ بها جنون. تترنح بثياب متسخة ممزقة، وعليها غبرة. شعثاء الرأس تركض حافية بغيرِ هدى ولا رشد. الدم في قدميها اختلط بالأوساخ والتراب. زاعقة بكل قوتها: (همّو... ولدي أين أنت..) 
أبصرها من بعيدٍ في تلك الحالة، فألمّ به الحزن، اغتمّت نفسه... أعياه النداء بأعلى صوته كي تراه، فلما لم تسمعه، رفع بصره إلى الطائر يناديه كي يتوقف عن الطيران وينزله إلى الأرض. لكنّ الطائر تجاهل النداء غير آبه واجتهد في الصعود... حاول "همّو" بين قبضة الطائر أن يتحرر من مخالبه فلم يفلح. كان الفأس ما يزال في يده، فوجه ضرباته نحو ساق الطائر. فبدأ ينزف، وظل ممسكا بـ"همو" ولم يتركه، فلما أوشكا أن تبتلعهما تلك البؤرة المشعة تمكّن من قطع ساق الطائر، فهوى من السماء... وهنا استيقظ من نومه منفزعًا، وقلبه يخفق بشدة، وجسده يتصبب عرقًا. 
حين أكمل حكاية حلمه، قال له أحدهم: 
- إنه نداء "لالة فاضم" المسكينة. لم يكن يسيرًا ما مرّ عليها من محن... قد جئت في الوقت المناسب قبل أن تتشرد بعد أن تهدّم منزلها... 
كان عليّ بن "بيهي" يسمع حديث الرجل فتذكر ما حدث له، فقال لـ "همّو": 
- لماذا لم تكتب الرسالة بالأمازيغية؟ 
انفجر الجميع ضحكًا.. 
فأخرجت "لالة فاضم" رسالتها من صدرها، وأعطتها لعلي، قائلة: 
- خذ واقرأها علينا من جديد... الآن بيننا "همّو" الذي سيخبر الناس إن كنت تتقن القراءة... 
تعمّدت "لالّة فاضم" أن تقول ذلك، حيث أن عليا ذهب عندها يوما، وأقسم أنه قرأ رسالتها، فردت عليه ردًا طيبا: "أعرف يا ولدي أنك قرأتها". فاستغرب وسألها: "وكيف عرفت؟!" فردت عليه: "قرأت يا بني ذلك في عيونك الجميلة". 
وقف يقرأ ويتهجى الحروف بتمهل حتى أكملها، ثم التفت إلى "همّو" ينتظر ملاحظته. تبسم ضاحكا ملأ فمه وصفق له بحرارة، فقال: 
- أحسنت يا بني... قرأتها كلها، إنك بارع في القراءة. 
كان الاستغراب باديا على وجوه الحاضرين وهم يبادلون النظرات بينهم في دهشة، غير مصدقين أن عليّا استطاع قراءة هذه الرسالة... 
- "لكني وإن قرأتها لا أفهم ما كتبت فيها". قال عليّ. 
فرد عليه "همو" مبتسما: 
- لم أكتب فيها إلا أنّي بخير، وأبعث بسلامي إلى أمّي، وأهل بيتي، وسكان القرية كل واحد باسمه. وكتبت فيها أني وصلت إلى الرباط، وأنّي سأحضر إلى القرية في هذه الأيام... 
فقال عليّ بسذاجة: 
- لو أنك عدت إلى القرية قبل هذا الوقت، لعلم أهل القرية كلهم ما كتبت في الرسالة عندما قرأتُها عليهم دون أن يحملوا همها... 
فضحك الجميع من جديد. 
وانصرف "همّو" إلى المكان الشاسع الذي تم فيه تشيد خيمة السيرك. وأخبر جميع سكان القرية بالحضور إلى وجبة العشاءِ بمناسبة عودته. 
وفي المسَاء كانت القرية منيرة بأضواء مصابيح السيرك، لا أثر فيها للظلام... 
تناولوا وجبة العشاء واستمتعوا بفرجة باهرة مكنتهم من مشاهدة ما لم تره عيونهم من قبل. أقاموا ليلتها (فرقة أحواش)[1]. أنشدوا الأهازيج إلى مطلع الفجر، فكانت ليلة تشبه أكبر حفل زفاف أقيم في المنطقة كلها.

انتهت بحمد الله .
..............................
(1) أحواش هي مجموعة للغناء الجماعي يصطف فيها الرجال في صف واحد (أو النساء)، ويندمجون في حركة متناسقة ومتمايلة، على ايقاع الدفوف والطبل. الرقصة مستوحات من تمايل السنابل حين يداعبها الهواء.

قراءة الرسالة (ج:5)


القصة منقولة من اللغة الأمازيغية. لقراءة الجزء: الأول - الثاني الثالث - الرابع

الجزء الخامس


بعد ثلاثة أيام انقطع المطر، وانخفض مستوى ماء الوادي قليلا... 
وفي ذات الليلة التي حددتا صبحها كموعد للسفر إلى الرباط... التفتت "عيشا" إلى وجه حماتها.. وبعد نظرة بدا لها شاحبا بملامحه الذابلة... فأشفقت عليها كثيرا. اقتربت منها بعين دامعة، فشرعت تفشي لها سرًا طالما أخفته عنها حتى اكتوت بناره ولم تعد تطيق كتمانه.
كانت هي و"همّو" و"لالة فاضم" يعيشون حياة هنيئة يتخللها بعض الرخاء، وإن لم يكن زوجها صاحب أموال ولا أملاك - فلم يكونوا أغنياء إلا بالقناعة وبما قسمه الله لهم- كانت مهنة "همّو" لاعبًا في فرقة (أولاد حماد أوموسى)[1]. ما يكسبه من حلقات الفرجة التي تقام في جامع "لفنا"[2] بمراكش، أو في مكان آخر يكفيه لينفق على زوجته وأمه. 
"عيشا" هي الوحيدة من بين نساء القرية التي لا يتأخر عنها زوجها في الزيارات. فمن النساء من يزورهن أزوجهن مرة واحدة في أكثر من السنة؛ لما تفرضه طبيعة عملهم. غير أن "عيشا" يعودها زوجها أكثر من خمس مرات (في السنة). كان كلما جمع شيئا من المال ابتاع لها ما يُفرحها، ولامه ما يسعدها، ويرجع إلى القرية ليقضي معهما بضعة أيام... 
انسابت الحياة بتلك الرتابة حتى مضى عامان...
ذات مرة ارتدت "عيشا" كما عادتها لباسًا جميلا أحضره لها زوجها هدية من أحد أسواق مراكش، فرأتها بعض النساء فتجرأت عليها إحدى الحاسدات، ملقية بكلام على سبيل المزاح الذي لا يخلو من الحقد والكراهية: (لم أكن أدري يوما أن المتسولين يستطيعون أن يمتلكوا مالا يقتنون به أشياء جميلة كهذه). 
"عيشا" تأثرت بكلامها فحزّ في صدرها ما وصفت به زوجها. منذ ذلك اليوم وهي تراود "همو" على أن يغير مهنته، تحاول إقناعه بأعذار غير التي تخفي ألمها في قلبها الكتوم، فلما نفدت مبرراتها وأيقنت أنه لن يقتنع إلا إذا أتته بالعذر الحقيقي. أخبرته بما يؤلمها وطلبت منه أن يترك مهنته تلك. حاول جاهدًا أن يوضح لها أن عمله ليس بالمحتقر، وما هو بتسول، بل عمل شريف يكسب منه قوته بعرق جبينه. لم تقتنع، وأصرت أن يجتنب مهنته وأن يبحث عن غيرها. ولمّا قابلها بالعناد غضبت منه أشدّ الغضب، حتى صاحت:
- من اليوم فصاعدًا لا تأتيني بشيء من كسب التسول. 
فخرجت وتركته في غرفته وحيدًا مستسلما لتفكيره. 
في البداية لم يهتم بكلام زوجته، فلم يتوقع يومًا أن يكون عمله ضربًا من التسول؛ فهو حين يمد يده يمدها ليأخذ أجر مجهوده العضلي ومهارته الرياضية وحركاته الفنية... 
وفي يوم أتى دوره في المجموعة كي يجمع النقود من المتفرجين المتحلّقين حولهم، من الذين يبتغون الفرجة والمتعة في (حلقة) مجموعة أبناء "حماد أو موسى"[3]. فتذكر ما قالته زوجته. وشعر بشيء في نفسه حرك مشاعر الخجل، فأحسّ أنّ الأمر يمس كرامته، ففقد الرغبة على مدّ يده إلى الناس... وقف بجسد يتعرّق وذهن شارد، خافضا بصره إلى الأرض. عندما شاهده زملاؤه ظنوا أنه أصيب بمكروه، فاقتربوا منه، بسرعة تحلقوا حوله وفضوا جموع الناس. 
من ساعتها اعتزل المجموعة، واستخرج لنفسه جواز سفر ببعض المال الذي كان يدّخره، ثم سافر إلى فرنسا باحثا عن عمل هناك، فانقطعت أخباره واختفى. 
عندما أكملت "عيشا" حديثها لـ"لالة فاضم" عضت شفتها السفلى ندمًا، ثم قالت وهي تجهش بالبكاء:
- سامحيني... سامحيني كثيرًا، أنا السبب في كل ما حدث... ولو لا أنا لما سافر إلى فرنسا...
كان رد "لالة فاضم" حنونا:
- لا تحملي همًا يا بنيتي، أنت لم تقومي إلا بما رأيت فيه الخير لزوجك.. 
صمتت قليلا، فتصاعدت من أعماقها تنهيدة حرى، منبعثة من كبدها المحترق على ابنها، تابعت قائلة:
- قد قُـدّر عليّ أن لا تجمعني الأيام مع ولدي العزيز... 
فهمت "عيشا" من كلام حماتها ما تقصده. فقليلة هي الأيام التي قضتها مع ولدها ولم يخلُ الدهر من مفاجآت وأحداث فرقت بينهما... نظرت في ذكرياتها البعيدة... عندما مات زوجها الأوّل الذي شعرت معه بمعاني الحب المتبادل، مات بمرض انتشر زمنها في المنطقة. ترك لها ثلاثة أطفال صغار، "همّو" وشقيقتيه "تودا" و"زاينا". لم يمض زمن طويل حتى زوّجها والدها للمرة الثانية برجل كبير في السن أخذها معه إلى قريته "تازرولت". حينها كان عُمر"همّو" ثلاثة أعوام. ولمّا أتمّ ربيعه الخامس، أيقظها زوجها في منتصف إحدى الليالي ليخبرها أن "سيدي حماد أو موسى" جاءه في المنام يطلب منه "همّو".. 
خفق فؤادها بشدة وتوثر... فهمت قصد زوجها حيث أراد أن يبعدها عن ولدها ويذهب به إلى شيخ زاوية "حماد أو موسى" ليدفعه إلى أحد المعلمين المختصين في "رما" كي يصير واحدًا من مجموعة "أولاد سيدي حماد أوموسى"... 
رفضت أن تعطيه طفلها، فنشب خلاف بينهما لعدة أيام متتالية... ثم خافت ففرت بأبنائها الثلاثة، لاجئة إلى والدها ليحميها. غير أن والدها لم ينصفها... بل نصحها بأن تستجيب لما طلبه منها زوجها، بل أثّر عليها بكلامه حين أكد لها بما لا يجعلها تشك، أن لعنة "سيدي حماد أوموسى" قد تلاحقها إن لم تستجب لطلبه. فردها إلى زوجها. 
مرت أيام، ولم يذكر لها زوجها شيئا بعد ذلك. ظنت أنه تراجع عن قراره مما بعث في نفسها بعض الارتياح... 
وذات صباح باكر استيقظت لتكتشف أن زوجها و"همّو" والحمار لا وجود لهم في الدار. اشتعل صدرها نيرانا حارقة، حين أيقنت أنه غدرها فسرق ولدها على حين غفلة ليذهب به إلى قرية بعيدة عند أحد معلمي "الرما"[4]. فقدت صوابها فأسرعت تركض كالمجنونة وسط الطريق علها تلحق به... قطعت مسافة طويلة آملة أن تقتفي أثرهم. وبلا جدوى... جلست تحت شجرة أركان على جانب الطريق تنتحب بشدة... 
وصل زوجها إلى "تازروالت" وسلّم "همّو" إلى أحد معلمي "الرما"... عندما عاد إلى القرية، وجد زوجته هزلت وبلغ منها الحزن مبلغًا شديدًا. 
أما "همّو" فمن حظه العاثر أنه وقع بين يد معلم لا يعرف قلبه الرحمة، كان يُشبعه ضربًا على أي شيء ولو كان تافها، وعلمه تقنيات فن "الرما". وكاد أن يقتله بكثرة التمارين. 
بعد ذلك ندم زوج "لالة فاضم" على ما فعل، فذهب ليعيده إلى والدته، غير أنه لما بلغ "تازروالت"[5] أبصره أحدهم، فعرف سبب قدومه وهرع ليخبر المعلم بذلك... فاختبأ عنه وأخفى الولد، ثم أرسل إليه من يخبره أن" المعلم و"همّو" ذهبا مع مجموعة الفرجة إلى مراكش. 
عاد الرجل إلى القرية خائبا. وظل يزور "تازروالت" أكثر من ثلاث سنوات بدون نتيجة، وكلما سأل، كذبوا عليه، فما كان يجني إلا عناء السفر ووعتائه... لمّا مات الزوج استبدّ اليأس بنفس "لالة فاضم" فبدا لها أنها لن ترى ولدها أبدًا. وهي لا تعرف حتى المعلم الذي يحتضنه. فاسودّ الأفق في عينيها وفقدت الأمل. 
مرت ستة عشر سنة، لم تره ولا أتاها الخبر عنه، إلى أن جاءها ذات يوم شاب وسيم له بنية قويّة، فطرق باب دارها... 
فرحا، أن جمعهما القدر بعد سنوات من الفراق... ولم يمض الكثير على يوم عودته إليها فزوّجته من "عيشا" وهي بنت إحدى النساء التي تعرفها جيدًا، فعاش الثلاثة لحظات من زمن عذب. وبعدها بعامين سافر "همّو" إلى فرنسا باحثا عن عمل، فغاب عن أهله فأقبل زمن الفراق من جديد. 

انسابت الذكريات ومرت أمام عين المرأتين صور الماضي وما تحمله من ثقل. لم تذق تلك العيون طعم النوم ليلتها، ظلتا تنتظران الصباح كي تسافرا إلى مدينة الرباط. 
سمعتا صوت المطر في الخارج يحدث إيقاعًا متباطئا كأنه يتساقط باستحياء. خشيتا أن يعود الوادي إلى نشاطه فيحبسهما عن السفر... تكوّمت كل واحدة منهما في فراشها، تضم الدفء إليها... استسلمتا للتفكير على إيقاع قطرات الماء التي تتسرب من شقوق السقف فتتساقط وسط الأواني المعدنية التي تقي أرض الغرفة من البلل. 
بعد برهة نهضت "عيشا" وحملت إناءً امتلأ بالماء، ثم أفرغته في المجاري... 

انفرج الفجر عن نور الصباح، فاستيقظت المرأتان. أزمعتا على السفر. وبينما هما تتجهزان إذا بصوت عنيفٍ أحدث رجة، فهز أرجاء البيت. بفزع، اكتشفتا أن نصف الدار العلوي تهدّم منه جزء، وقد نجتا بأعجوبة حيت أنهما كانتا في الجانب الذي لم ينهار. ارتعدت "عيشا" حينها وخشيت أن يسقط عليهما الجزء المتبقي، فأمسكتها "لالة فاضم" " لتثبت، وسحبتها... ثم جاهدتا حتى مرتا عبر السلم المتكسّر ومن بين الأعمدة الخشبية المتساقطة، إلى أن تجاوزتا الباب. فجأة، تحولت الدار إلى ركام من الأحجار بعد أن هوى الجزء الآخر بأكمله... وقفتا تنظران بدهشة عارمة وهما تحاولان رد البرد القارس ببعض لباسهما. ومن هول ما حدث فقدتا القدرة على التفكير والكلام والفعل أيضا. 

أشفق عليهما كل سكان القرية... ورافقهما "بيهي" إلى منزله فاستضافهما إلى أن جاء صبح اليوم التالي. فحاول أن يقنعهما بتأجيل أمر السفر إلى يوم آخر، غير أن إصرارهما في البحث عن "همو" كان أقوى.. فودعتاه وأهله، ثم انصرفتا. 
مرتا على منزل أحد الأقارب كي تودعا أهله. ولم تجدا أحدًا، حيث أن السكان جميعهم خرجوا إلى ساحة القرية كي يشاهدوا قافلة السيّرك -العجيب- التي حطت رحالها هناك، قبل أن تستأنف السفر من جديد. الناس كانوا يتوقون لمشاهدة ما تحمله تلك الشاحنات الكبيرة من سباع وفيلة، وحيوانات أخرى... وما لم تره عيونهم من قبل. 
عندما بلغتا ركام دارهما، وقفتا تنظران بعيون تفيض دمعا. تقدمتا بخطوات إلى وسط الخراب تبحثان... عسى أن تجدا شيئا لهما قد ضاع بين هذه المخلفات والأحجار والأتربة... بينما هما كذلك إذ وقف قريبا منهما رجل يرتدي لباسًا غربيًا يبدو من هندامه أنه من أصحاب السّيرك. استوقفه مشهد الدار المهدمة، وفي نظراته أثر حزن. فلما رأته المرأتان أخفتا[6] وجههما (عنه استحياءً). وأمسكتا عن الحركة، تنتظران أن انصرافه... بيدا أن الرجل لم يغادر، وظل مسمرا، تفحص عينه المكان.
ثم ناداهما متسائلا:
- من فضلكما متى انهارَت هذه الدّار؟
تابع الجزء القادم والأخير...

..................... الهامش ......................
* مصدر الصورة المرفقة: هنا
(1) مجموعة أبناء -أو أولاد- حماد أوموسى: هي فرق تقوم بألعاب رياضية وبهلوانية كالتي تستعرض في السرك، تسمى هذه الفرق بـ (الرما)(4)، وسبب انتسابها إلى الوالي حماد أوموسى هو تبني أتباع طريقة هذا الشيخ لهذا الفن، وربما يعود ذلك إلى اتخاذه كأسلوب حربي خاصة في الإمارة السملالية التي كانت تمتلك جيشا تحارب به وتجاهد به ضد الأطماع البرتغالية آنذاك، خاصة وأن الفترة تزامن سقوط الأندلس. لكن هذا الفن القتالي تحول مع الزمن إلى نوع من الفرجة والمتعة فقط، مثله مثل التبوريدة أو الخيّالة.
(2) جامع لفنا هي ساحة شعبية للفرجة تضم أشكالا من الفنون المختلفة، موجودة بمراكش، كأحد المزارات السياحية.
(3) حماد أوموسى، أو بالعربية: أحمد بن موسى الجزولي السملالي أحد أقطاب التصوف بجنوب المغرب، ورّث من أولاده وأحفاده 12 عالما، وأربعة أمراء. له مكانة في نفوس أهل سوس لعلمه وتقواه وجهاده الحربي. عاش ما بين (1450 و1564م). دفن بـ"تازرولت"(5) وهي قبيلة في منطقة سوس، تقع في الجنوب الشرقي لمدينة تزنيت، كانت إمارة للسملاليين، وعاصمتها إليغ، إبان أواخر حكم السعديين في القرن 17م، تحت قيادة أبو الحسن السملالي، المعروف بـأبي حسون، وهو حفيد الوالي أحمد بن موسى - الذي سبق ذكره - وكانت القبيلة موطن هذا الشيخ وبها دفن.
(6) هذه من عادات المرأة الأمازيغية بسوس، أنها تخفي وجهها - بغطاء رأسها المنسدل- عن الغرباء أو الأشخاص الذين تحمل لهم احتراما وتقديرًا كبيرًا. هذه العادة انقرضت مع جيل الحضارة والمعاصرة، العجائز هن فقط من بقين أوفياء لها :)

قراءة الرسالة (ج:4)

القصة منقولة من اللغة الأمازيغية. لقراءة الجزء: الأول - الثاني - الثالث

الجزء الرابع 

كان "عليّ" قد فرّ من القرية بعد أن تعرض للسخرية، قاصدًا منزل خالته. وكي لا يلحق به والده فيعيده، فقد سلك طريقا غير مألوف وسط الغابة... ولكنه تاه. 
في الصباح الباكر استيقظ وتناول الفطور مع السياح. وكان ضمن هذه المجموعة رجل له دراية بالمسالك والطرقات والقرى. رافقه كي يوصله إلى قرية "تمجلوشت" التي أخبره أنه يقصدها لزيارة خالته...
مضيا معا يشقان الطريق في الغابة، والأوروبي يحكي له عن تلك المناطق التي مرّ منها في بلاد "سوس" الكبيرة، والمشقات التي تعرّض لها، وما حدث له في جولاته من مغامرات مع الذئاب والعقارب والأفاعي السامة، ووحوش الغابة المفترسة...
تأثر علي كثيرًا بكلامه، فقال:
- أراك أجنبيا وتتقن لغتنا... أين تعلمتها؟
ضحك الرجل وقال:
- في فرنسا... بلادي.
اندهش عليّ فبادر قائلا:
- فرنسا؟!!! وهل أهل فرنسا أمازيغ؟
 - كلا.. ليسو كذلك.
- وكيف تعلمتها إذن؟
- درستها 
رد "عليّ" مندهشا:
- درستها؟!!!.. وهل لغتنا الأمازيغية تدرس؟!!!
- أجل، في بعض المدرس.. 
زاد تعجبه مما قاله الرجل الأجنبي، فقال:
- لم أتوقع يومًا ذلك... لم أتوقع يوما أنّ الأمازيغية تُكتب!! 
صمت قليلا وأطرق يفكر، ثم عاد يسأل الرجل من جديد كأنه لم يكتف بما أخبره به، فعاد يطلب المزيد:
- هل نستطيع أن نكتبها على لوح الحفظ؟!![1]
فتبسم ضاحكا من طيبته وسذاجته فأجاب قائلا:
- طبعا... الجميع يستطيع... 
- وحتى أنا؟؟
- وحتى أنت.
قام الرجل من قعوده، ثم انحنى ليحمل عودًا صغيرًا من الأرض، فمده إلى "عليّ" قائلا:
- هل تتقن الكتابة؟ 
- نعم، أتقنها.
- إذن أكتب على التراب - بهذا العود- ما سأمليه عليك... ابدأ:
(غزال.. أبيض.. صغير.. اضغط جيدا... لا تنظر.. إلى الخلاء... هناك ذئب.)
عندما أكمل "عليّ" الكتابة نظر إليه الرجل وقال:
- الآن اقرأ كل ما كتبت... 
اجتهد في التهجّي حتى فرغ، فسأله الرجل:
- هل تعلم ما قرأت؟ 
- أجل... أعلمه. 
فأخبره الرجل مازحًا:
لقد كتبت بالأمازيغية، وقرأت بها أيضا أيها الغزال الأبيض الصغير. 
خجل "عليّ" وطأطأ رأسه لأنه فهم دلالة كلامه حين وصفه بالغزال الأبيض الصغير التائه... وواصلا طريقهما. 
وحده "عليّ" كان يفكر ويسأل نفسه: لو كنت أفهم ما جاء في الرسالة بالأمازيغية لعرفت ما كُتب فيها ولن يسخر مني الناس. 
في الطريق التقيا بجماعة من الرجال، بينهم والد "علي"، كانوا قد خرجوا لاستئناف البحث عنه... 
في الغد رجعت "لالّة فاضم" إلى المسجد آملة أن تجد الفقيه. لكنها تأكدت أنه لم يعد بعد، فعادت أدراجها خائبة الرجاء مهمومة القلب، لحق بها أحدهم ممن فرغوا من الصلاة حينها، فخاطبها قائلا: 
- غدًا هو يوم السوق... وإن شاء الله سيأتي ولدك "همّو" ويخبرك بنفسه عمّا كتبه لك في هذه الرسالة، من دون أن تحتاجي للفقيه أن يقرأها عليك... 

في اليوم التالي، حجّ الرجال إلى السوق... كانت هناك حركة غير عادية في دار "لالة فاضم"، كانت تستعد مع نساء القرية أن تستقبل ولدها الغائب... 
مضى النهار سريعًا كله انتظار. عاد الرجال من التسوق، ولم يظهر لـ"همّو" أثر. كانت "لالة فاضم" واقفة وسط القرية تسأل كل عائد... ولم يُرح فؤادها الملتاع أحد برد يحمل لها البشرى أو أملا ضئيلا. ( لم نره ولم نسمع عنه خبرًا)، وكأنهم اتفقوا على رد واحد. اهتزّ قلبها وشعرت بحزن عميق، وبإحساس ينخر كبدها الحنون. وجلست هي و"عيشا" تنتظران... وتنتظران... 
مرّ وقت صلاة العِشاء بكثير ومازال الأمل في قلب المرأتين لم يخمد لهيبه هذا اليوم، غير أنه لا أثر لـ"همّو". بعدها قامت "عيشا" واخترقت عتبة باب غرفتها الكئيبة فانبعثت منها رائحة البخور ممتزجة بعبق العطر الذي رشته على فراشٍ كان سيضمها هذه الليلة مع زوجها العائد من غيبته الطويلة. 
نظرت في المرآة على الحائط المتآكل، فبدا لها وجهها عابسًا، وقد زاد قبحًا من فرط الحزن الذي تنزل أستاره تَترى... خرجت من غرفتها وقد حملت جبلا من همّ أثقلَ كاهلها، بل ازداد ثقلا هذه الليلة... وعادت إلى غرفة حماتها. 
لم تذوقا طعم العَشاء، ولا تشاركتا الحديث كما عدتهما. وخيّم الوجوم عليهما فاستغرقتا في تفكير عميق. كان الجوّ في الخارج مضطربًا، فقد هبت موجة عاصفة. والريح القوية يُسمع صفيرها الحاد من بين شقوق النوافذ... 
مضى من الليل الكثير، انطفأ القنديل الزيتي الصغير، فبقيتا في الظلام لم تتزحزحا من مكانهما... إلى أن انتفضت "عيشا" من مجلسها فصاحت:
- سمعت هدير سيارة ما..
قالت لها "لالة فاضم":
- وأنا أيضا سمعت صوتًا وقلت في نفسي ربما هي الرياح من تحدثه... 
صعدت "عيشا" مسرعة إلى سطح الدار. وجّهت نظرها نحو الطريق الآتية من جهة السوق، فأبصرت ضوء سيارة قادمة نحو القرية... 
لحقت بها "لالة فاضم" بعد برهة، فوقفتا تراقبان القادم. بمشاعر متأججة ومضطربة... 
واصلت السيارة تقدمها فصارت قاب قوسين أو أدنا، ثم مرت عابرة دون أن تتوقف... حينها تملكهما الحزن من جديد، فنزلتا تجران الخيبة، بأرجلٍ لا تقوى على حملهما من فرط ما ألمّ بهما من القنوط. 

في الصباح كانت الشمس محجوبة بستار الغيوم... الرياح، لم تتوقف من عصفها، مهددة الطبيعة بعبثها وهبوبها الماجن. 
بعد صلاة العصر تبين (من جديد) أن الفقيه لم يعد. "لالة فاضم" نفذ صبرها العاتيّ... كانت "عيشا" في الغرفة تصلي حين أخبرتها -سريعًا- أنها ستذهب إلى قرية "تمجلوشت"، عند إمام مسجدها كي يقرأ لها رسالتها. 
نزلت إلى الإسطبل، وحاولت بقوتها الهزيلة أن تضع على ظهر الحمار الحلس الثقيل، ثم بصعوبة ركبته، وانطلقت... 
"عيشا" عندما أكملت صلاتها تبعتها راكضة، ولم تدركها إلا خارج القرية وقد أوشك الغبار المتطاير أن يحجب رؤيتها. حاولت أن تعيدها مشيرةً بيدها إلى الرياح التي ما تزداد إلا قوة وعصفًا. غير أن محاولتها وإقناعها بالرجوع لم تنفع. لم تهتم بكلام "عيشا" ولا بالرياح، فضربت حمارها من الخلف فاستجاب لها وتابع الطريق. 
عدمت عيشا حيلة، وظلت تراقبها بعين مليئة بالخوف حتى اختفت وراء الغبار المتطاير. لما ابتعدت قليلا عن القرية أمطرت السماء وابلا تبعه البرق اللامع... وبعد برهة بدا المطر كخيوط معلقة من السماء... غسل الماء التلال والأرض، جاريا من بين فجاج الجبال وعبر المسايل. 
كانت "لالة فاضم" تتقدم دون أن يفزعها الأمر... تنكز مؤخرة الحمار كي يسرع في السير. 
قلقت "عيشا" عليها وخشيت أن يصيبها مكروه ما، فأسرعت إلى "بيهي" في منزله لتخبره بما حدث. فركب بغلته وأسرع ليعيدها... 
كان الوادي قد عادت إليه الحياة وامتلأ ماءً جاريا تكاد سرعته تقلع الصخور المستقرة في قاعه... عندما بلغت "لالة فاضم" ضفته وقفت تتأمله. مضى زمن طويل لم يمتلئ، ففي السنوات الأخيرة أصابه الجفاف، ولم تجُد السماء بمثل هذه الأمطار إلا اليوم. 
اختلطت الدموع بماء المطر في وجهها بعدما تأكد لها أن العبور مستحيل إلى الضفة الأخرى... لحق بها "بيهي"، فوجدها ما تزال متسمِّرة جانب الوادي، فترفَّق في الحديث إليها، وطيّب خاطرها حتى أعادها إلى القرية بعد أن أرْكَبها بغلته، وركب هو الحمار. 

ما بين المغرب والعِشاء تحلّق رجال القرية حول الموقد وسط غرفة مخصصة لطهي الطعام (تابعة للمسجد)، يستمدون الدفء من النار أمامهم، ويديرون حديثهم حول قضية "لالة فاضم"... أشفقوا عليها كثيرًا، ولا يملكون وسيلة لمساعدتها. بعد برهة صمت قام أحدهم، كأنه ثائر انتفض، فصاح: 
- بماذا نحن رجال إن كنا لا نستطيع قراءة رسالة صغيرة؟ 
حرّك أحد آخر رأسه خجلا، وقال:
- والله إنه العار والشماتة... المنطق أن كل واحد منا لابد أن يقرأ رسالته بنفسه. حتى الفقيه لا يجب أن يقرأها، الذي من حقه وحده أن يعرف محتواها هو صاحبها... 
فتكلم "بيهي" قائلا:
- صدق السّالفون حين قالوا: من لم يُعِد طعامه، ولم يخط ثوبه، ويقرأ رسالته، موته خير من حياته. 

مرّ أسبوع لم تمسك السماء وابلها، كانت تمطر بالليل والنهار بلا انقطاع... 
منزل "لالا فاضم" هو الآخر كان سقفه يقطر ماءً كأنه ينزف. وحاولت المرأتان منع تسرب الماء إلى داخل الدار. كانتا تقضيان النهار على السطح تضعان الطين بين الشقوق، لكن الدار صارت كلها تقطر كقِربة ماء. 
فاض الوادي في نفس الأسبوع ولم يستطع أحد أن يعبره، وحُرم رجال القرية من الذهاب للتسوق لجلب حاجياتهم التي نفدت. 
وفي ليلة رأت "لالة فاضم" أن "همّو" أصابه مرض بغربته في فرنسا فدخل المستشفى للعلاج... وخشي أن يطرحه الموت بعيدا، فعاد مسرعا إلى وطنه. ولما وصل إلى الرباط اشتد به المرض فأغمِيّ عليه ونُقل إلى المستشفى، وعندما أفاق من غيبوبته طلب من الممرضة أن تكتب له رسالة لوالدته لكي تأتي لزيارته، ويريها شيئا... فإن رفضت، تسلَّمه الموت!!... 
استيقظت "لالة فاضم" من نومها منزعجة مما رأت في الحلم، فغادر النوم أجفانها وقضت ما تبقى من الليل تفكر في ابنها. 
ولما قصّت حلمها على "عيشا" اسودت الحياة في وجهها. كانت تخشى أن يكون الحلم حقيقة، فيموت "همّو" دون أن تنعما نظراتهما برؤيته ولا أن تعرفا منه سر الشيء الذي يرغب في أن يريه لهما دون أن يعلم به أحد غيرهما. لم ينقضِ اليوم حتى قررتا السّفر إلى الرباط بحثا عن المستشفى الذي يعالج فيه "همّو" كما جاء في الحلم...

يتابع...
..................................
(1) لوح الحفظ: اللوح الذي يحفظ عليه الطلابة القرآن في الكتاب.

قراءة الرسالة (ج:3)

القصة منقولة من اللّغة الأمازيغية- لقراءة:  الجزء الأول -  الجزء الثاني 

الجزء الثالث

أمسكَ "عليّ" الرسالة من يد والده بيدين مرتجفتين. اختلط خجله بخوفه وقد صوّب الجميع نظراتهم إليه، كانوا ينتظرون بأمل، ما سيقرأُه على مسامعهم المصغية. تهجّى الحروف والكلمات.. تتعتع شيئا فشيئا حتى أتمَّ قراءتها... رفع بصره عنها ليجد والده والحاضرين ما تزال عيونهم جاحظة مستقرة. قال له والده مستدركًا وآمرًا:

- إيوا.. تابع، اقرأ...
- صافي [1].. انتهيت من قراءتها... كاملة.
نظر إليه والده بنظرة عميقة لا تخلو من القسوة وهو يقول:
- إنك تكذب، لم تكمل قراءتها لأنّي لم أسمعك تقول "والسّلام"... جميع الرسائل تنتهي بـ " والسّلام".
- أقسِم بالله أني أتممت قراءَتها... وهذه الرسالة لم يردْ فيها (والسّلام)..
سمع الجميع كلامه، فاهتزت أجسامهم من الضحك على خيبتهم... كيف يأملون ممن لا يجيد القراءة أن يخبرهم بمحتوى رسالة؟...
أراد "بيهي" أن يضيف إلى الموقف مزيدًا من المرح والفكاهة، فصاح ضاحكًا في وجه ابنه: 
- حسنا... قلت يا بني أنّك قرأتها كاملة... إذن، قل لنا ما مضمونها... اشرح ما قرأت فيها!!
رد الولد بحزن:
- لا أعرف!
- لماذا؟ ألم تقرأها كما قلت!
- بلى، لكني لا أستطيع أن أشرح وأبين محتواها، لأني لا أفهم العربية..!
امتلأ المكان بضجيج ضحكهم مرة أخرى، فغضب "عليّ" وتغير وجهه... لم يرض أن يكون عرضة للضّحك فبكى وهو يسرع نحو الباب...

عندما أرخى الليل سدوله متوشّحاً بالظلام، نزل معه شعورُ الحزن على كل أهل القرية، إذ أن غياب "عليّ" عن أهله وعدم عودته إلى الدّار منذ أن خرج من المسجد باكيًا أثار تساؤلَ القلقِ لدى الجميع.
اهتزت القرية بعد اختفائه، فخرج الناس للبحث عنه، حملوا القناديل والفنارات، بحثوا في كل إسطبلات القرية وغرف المؤونة، ثم غرفة المسجد الخاصة بالمواسم والاحتفالات الدينية ومرافقه الأخرى. وفي كل أنحاء القرية، وحتى بجوار البئر لم يجدوه هناك. فلما انتصف الليل ويئسوا من احتمال أن يكون في مخبإٍ داخل القرية... خرج والده مع بضعة رجال قاصدين دار خالة "عليّ" في قرية "تمجلوشت" وراء الوادي. توقعوا أن يكون قد قصدها غاضبا بعدما سخروا منه في المسجد. لكنهم عادوا كما ذهبوا بلا نتيجة...
سكن الفزع قلوبهم، وخشي الجميع أن يكون مكروه ما مسّه حين تأكدوا من عدم ذهابه إلى دار خالته، بل لم يره أحد في تلك القرية... أما "لالّة فاضم" فقد اعتراها حزن شديد حين فكرت أن رسالتها هي السبب في كل ما حدث...
كان الناس يحملون في قرارة أنفسهم خوفًا توجّسته قلوبهم من خبرتهم بالغابة ومخاطرها وما تخفيه من الوحوش... ولم يخطئوا الظن... فقد كاد عليّ أن يكون وجبة للافتراس وسط الغابة حين تربص به الذئب من مكان قريب لولا أنّه فرّ حين أبصر جماعة من الناس تقترب منه. كانوا سياحًا أوروبيين يخرجون مرة في السنة يسيحون بين جبال الأطلس في "سوس"، يكتشفون فجاجها وتضاريسها، ودواويرها الجميلة بطبيعتها الخلابة وكل أماكنها البعيدة والقريبة... 
وكأنّ القدر بعثهم لينقذوا "عليّا" من موت محقق، إذ لم يكن هناك أدنى شكّ أنه كان سيتحوّل إلى وجبة تنعم بها بطن الذئب الجائع. وكما أنهم أنقذوه أيضًا من الجوع والبرد، فهما لا يرحمان في غابة مهجورة إلا من المخاطر... 
شاركهم الطعام ثم المبيت في خيمتهم إلى أن أقبل عليهم الصبح...


يتابع...
(1) كلمة عامية مغربية، تعني خلاص.

قراءة الرسالة (ج: 2)

القصة منقولة من الأمازيغية. لقراءة: الجزء السابق

الجزء الثاني

مرّ من اللّيلة الكثير من الوقت. أبت عين "عيشا" أن تذوق طعم النوم. نهضت خارجة من غرفة "لالّة فاضم" التي تبيت فيها منذ أن غاب عنها زوجها. اتجهت نحو غرفتها التي هجرتها زمنا طويلا. فأشعلت شمعة تهتدي بها في الظلام... ثم استقرت نظراتها على وجهٍ أطلّ من مرآة معلقة بالحائط... فكانت كمن تسترق النظرات، شيئا فشيئا... كما لو أنها تخشى التأكد... وتخشى رؤية أمر مفزع... فتحتاط.
قد مضت سنوات تفوق العقدين وما اهتمت بالنظر إلى المرآة بتمعن، نادرا ما كانت تفعل. منذ أن غاب عنها زوجها وانقطعت أخباره صار لا يهمها جمالها. وهبت جهدها للعمل والحرث والزراعة والحصاد... كانت تأتي بالأعشاب من الغابة لتطعم بقرتها الوحيدة والحمار... وتسقي جِنان الخضروات بيديها، مشمرة عن ساعد الجد... تطحن الحبوب... تجاهد من أجل أن تحافظ هي وحماتها على كرامتهما وتصونا عرضهما، وأن لا تمدّا اليد للغير...
أفجعها ما رأت في المرآة التعيسة، لا أثر في وجهها لبسمة الشباب المتلألئ. لمسته بكفها المرتعشة، فإذا ببشرتها التي كانت غضّة قد جفّت، صارت صلبة كما الأرض التي انقطع عنها الماء... لفحتها أشعة الشمس وشقّها البرد القارس. غادرت وجهها تلك النضارة المغرية. تحسست وجهها الذابل فإذا دمعة ترتخي على خدها... إحساس الفجيعة بعث بمعاول الخوف تنهش في خاطرها: هل سيهجرها زوجها حين يعود؟
هل حقا سينظر في وجهها المنفر الفاقد للجمال والنضارة؟...

عَشيّة اليوم الموالي اجتمعت نساءُ القرية في دار "لالّة فاضم"؛ جئن لمساعدتها في الاستعداد لموعد لقاء ولدها. جلسن في باحة الدار... بعضهن يعصرن أركان[1] بأيدهن... والأخريات يقمن بتحميص اللّوز على النار قبل طحنه في الرحى كي يستخلصن منه "أملو"[2].
فجأة دخل عليهن "بيهي" يرافقه رجلان... يحملون كيسًا كبيرًا من القمح، أحضروه - بعد طحنه- من المطحنة الموجودة على مقربة من الوادي.
ثم لم يمض وقت طويل حين استعددت "لالّة فاضم" للخروج. استندت على "علِي" الابن الأصغر لـ"بيهي"، فتوجهت صوب المسجد قاصدة الفقيه...
قالت حين بلغت المكان:
- ألم يعد الفقيه بعد؟... لقد مرّ العصر... محال أن يعود اليوم أيضًا..!
كانت تعلم أن من عادته العودة قبل العصر من زيارة أهله.
لم يَرد عليها أحد من الحاضرين، وقد لمحوا في عينيها ذات الشوق الذي يمتلك كل من استلم رسالة فغدا أسير لوعته وفضوله لمعرفة ما تخفيه من أخبار. كانوا ينظرون إليها بعيون مشفقة... عدموا الرد كما عدموا الحيلة...
ثم قام "بيهي" مكسرًا الصمت الثقيل الذي أخرس الألسنة. نادى على ولده... ثم قال لـ"لالة فاضم":
- هاتي تلك الرسالة... لماذا لا يقرأُها "عليّ"؟ أليس تلميذا في المسجد؟.. إنه يتهجى الحروف...

يتابع...
..........................................................
(1) أركّان/ أرجان: هو زيت مستخلص من شجرة أركّان (لا توجد إلا في منطقة سوس جنوب المغرب)، بحيث تطحن ثمار هذه الشجرة وتتحول إلى عجين يُعصر منه زيت حلو المذاق شهيّ الرائحة. يُتخذ كذلك لتجميل البشرة. (أنظر)
(2) أملو: هو غذاء مستخرج من اللوز بعد طحنه، مع اضافة قليل من زيت أركّان. (أنظر الصورة)
- يعتبر زيت أركان وأملو من ضمن الوجبات المهمة في مائدة أمازيغ منطقة سوس.

قراءة الرسالة (ج:1)

مقدمة

(قراءة الرسالة) أو كما هو عنوانها الأصلي (تيغري نتبرات)؛ قصة أمازيغية لكاتبها الصافي مومن علي. تعود أحداثها حسب تقديري إلى سبعينيات القرن الماضي، حين كان المجتمع الأمازيغي المنعزل في جبال الأطلس يعاني من الأمية والهجرة والإهمال...
وأنا هنا لا أدعي لنفسي البارعة الكبيرة حين اجتهدت محاولا نقل القصة من لغتها الأصلية إلى العربية بما أمتلكه من بعض قدرات فهم تلك اللغة، بل إني قد أقول أن النص الأصلي لكاتبه يبقى الأجمل بطريقة سرده وبنائه والتوظيف اللغوي والدلالي، وتوظيف الثقافة الأمازيغية البسيطة بشكل مميز ومتقن خاصة وأن الكاتب مختص في هذا المجال. 
سأنشر هذه القصة المنقولة من اللغة الأمازيغية عبر حلقات على همسات الروح والخاطر... فأرجو أن تتابعوها إلى النهاية، وكلي أمل أنها ستحظى بإعجابكم.
قراءة ممتعة...
رشيد أمديون 

الجزء (1)

نزلَ "بيهي" من فوق ظهرِ بغلته المحمّلةِ بالأثقال... دقّ بابًا خشبيًّا -مشقوقًا- لبيت صغير، ونادى بصوته الأجش:
- "لالّة فاضم"..وا "لالّة فاضم"(1) ...
انتظر قليلا...ثم انفرج مصراعُ الباب فأطلَّت عجوز. مد لها حاجياتِها القليلة التي جلبها معه من السّوق الأسبوعي، وأعطاها من جديد ظرف رسالة...
"بيهي" واحد من أولئك الرجال القلائل الذين ظلّوا في قرية "تازولت"(2) التي توجد على جبل من سلسلة جبال الأطلس الصغير... فلم يبق في القرية إلا الشيوخ والعجائز وبعض الصّغار من الأطفال...
كثيرة هي المنازل المغلقة بعد هجرة أصحابها إلى المدن حيث يعملون ويتابعون أشغالهم هناك...
من عوائد "بيهي" حين يقصد السّوق أن يقتني أغراضه الضرورية ويأتي بحاجيات نساء القرية اللواتي لا أزواج لهنّ ولا أولاد كبار... كما أنّه من أعراف القرية عدم خروج المرأة إلى السّوق؛ فتلك مهمة الرجال فحسب.
أخذت "لالّة فاضم" حاجياتها والمظروفَ، ودَعت بالخير لـ"بيهي"، ثمّ استفسرت:
- هل يا سيدي... هذه الرسالة من طرف "تودا" أم "زاينا"؟
تعوّدت على أن جميع الرّسائل التي تستلمها تأتي من طرف إحدى ابنتيها: "تودا" أو "زاينا". الأولى تزوّجت وسكنت في الرباط، أما الثانية فمُتزوِّجة في الدار البيضاء... وهما من تبعثان لها بعض المال للمعيشة وقضاء مآربها...
ضحك "بيهي" مجيبًا على سؤالها:
- هذه الرّسالة ليست من طرفهما.
- من الذي بعثها إذن سيدي!!؟
كان "بيهي" يضحك وهو يقول:
- لن تصدقي لو قلت لك من أرسلها... إنه ولدك "همّو"..!، هكذا أخبرني "لمقدم"(3) في السّوق عندما سلّمها لي كي أوصلها إليك.
ارتجفت "لالة فاضم" حين سمعت ما قاله "بيهي". لم تتوقع أن تكون الرّسالة من ولدها، فمنذ خمس وعشرين سنة وأكثر لم يراسلها، من يوم سافر إلى فرنسا لم يعرف أحد -بعدها- عنه شيئًا... أمات أم مازال على قيد الحياة... مضى على العجوز المسكينة زمن بل سنوات وهي تطوف القرى... تسأل كل الوافدين من فرنسا لعلها تجد عندهم خبرًا عن ولدها... بيد أنّ أحدًا لم يره أو كان له علم بمكانه...
بسرعة ولهفة فضّت المظروف مخرجة الرّسالة بشغفِ شوقٍ مُلتاع. بسطتها ناظرة إليها، ومِلء عينيها شوقٌ وحنين وأمل... كأنّها ترغب في أن ترى ولدها بين السّطور... سبقتها دموع ساخنة ذرفتها، ثم استغرقت في نحيبٍ مرير.
أشفق عليها "بيهي"، فاستدرك، محاولا إخراجها من كآبتها... قال مرغِما نفسه على الابتسام:
- عليكِ يا "لالّة فاضم" أن تضحكي وتبتهجي، لا أن تستسلمي للبكاء والنّحيب... احمدي الله أنه أعاد إليكِ ابنك بعد أن انقطعت أخباره.
بعد كلمات "بيهي" التي رفعت معنوياتها، انفرجت أساريرها وانبسطت، فردّت:
- أحمد الله تعالى وأشكره... أحمده وأشكره أنّ ابني لم يمت...
كانت تجيبه بهذه العبارة وهي تستحضر أحاديث الناس:
(لا تأملي أبدًا عودته، ربما مات... قتله أحدٌ ما، ودفنه في أحد الوديان...)
أخفت الرسالة في جيب صدرها... ومضت مسرعة إلى المسجد، وهي تقول:
- حالا سأقصد إمام المسجد...
كانت تعلم أنّ "بيهي" أميّ مثلها، وما من أحد في القرية من الرجال والنساء يُجيد القراءة.. نادى عليها "بيهي" كاشفًا عن أسنانه متبسما:
- إنّ الفقيه لم يعد بعد...
الفقيه من غرباء القرية، حلّ بمسجدها ليتولّى إمامة الصلاة وتعليم الأطفال القراءة والقرآن. يغيب عن أهله مدة طويلة تفوق الشهور، فكان يأخذ عطلا قصيرة وسط السنة لزيارة أولاده في قريته البعيدة... وغدًا هو موعد عودته بعدما انتهى الأسبوع الذي مُنِحَهُ لزيارة أهله...
أحزنَ "لالّة فاضم" غياب الفقيه، فأخرجت الرسالة من بين صدرها، وشرعت تنظر إليها متمنية أن تعرف في الحال فحواها وما الذي تخفيه سطورها... انتشلها"بيهي" من تأملها ضاحكًا كالعادة، وقال:
- لا تشغلي بالكِ، فليس خفيّا عنا ما قد يكون ولدك سطره هنا... أكيد أنّه يُقرئك السّلام، ويقول لك أنه بصحة جيدة... وعلى خير... ولا ينقصه إلا النظر في وجهك العزيز... ويرجو أن تكوني أنت وزوجته في راحة وهناء...
كانت تدرك جيدًا أنّ "بيهي" يواسيها ويخفّف عنها آلامها وحزنها. فردت عليه بشجن:
- كم أتمنى أن يكون الحال كما قلت.
تبين لـ"بيهي" من خلال ردها أنها لم تصدق كلامه، فأردف يؤكد لها صدق ما ذهب إليه:
- الأمر كما قلتُ... بل إنّي مستعدٌ أن أحلف لك أنّه يخبرك بوصوله إلى القرية في هذه الأيّام بالتحديد... أو في الأسبوع المقبل.
منذ أن تسلّم "بيهي" المظروفَ من يد "لمقدم" وهو يبادر كل من قابلهم في السوق قائلا:
"همّو آيت لشكر" بعث رسالة... سيعود إلى القرية في هذه الأيام.
لم يكن رجال القرية وحدهم من سمع هذا الكلام، بل أهالي تلك القرى المجاورة للسّوق والمنازل المنتشرة على سفح الجبل، وكذا المستقرة على جانب الطريق المؤدية إلى ساحة السوق. كانت الأصداء تتناقل الخبر، وحتى الرجال الذين أدركوه في طريق عودتهم أخبرهم...
أكثرَ الحديث وبالغ فيه إلى أن صارت عنده تلك التوقعات صريحة ومؤكدة، بل وحقيقية يستطيع أن يُقسِم بأغلظ الأيمان عليها...
حدّقت "لالّة فاضم" في وجهه فقالت:
- كيف علمت أنّ "همّو" سيأتي هذه الأيّام... من أخبرك؟!!!
فرد عليها بكل ثقته:
- قال لي "لمقدم": هذا الظرف مُرسل من الرباط...
قاطعته بلهفة قائلة:
- ومن أخبره؟!!
قاطعته بلهفة قائلة:
- من أخبره؟!!!
ضحك "بيهي" وهو يشير إلى المظروف، قائلا:
- هذا الطابع الخاص ببريد الرباط يؤكد أنّ "همّو" خرج من فرنسا، ووصل إلى الرباط، ومن هناك بعث بهذه الرسالة.
لم تستطع "لالة فاضم" أن تبحث وتفكر في كلامه هل يحتمل الصواب أم العكس...
كانت عيونها مفتوحة تقلّب بصرها التعِبِ في صمت... تنصت بعناية إلى كلامه المتواصل:
- وقال لي "لمقدم" كذلك: أن الرسالة جاءت على البريد العاجل.
استغربت، فخرجت من صمتها:
- ما معنى البريد العاجل؟...
- أن تأتيَ الرسالة في يومها كي لا تتأخر...
وأردف قائلا:
- وهذا يؤكد لنا أمرًا في غاية الأهمية... أنّ إرسال "همّو" لرسالته من الرباط هو إعلام بدنو ميعاد وصوله حتى تستعدّا للقائه...
حينئذٍ اقتنعت بكلامه بناءً على المعطيات التي ساقها، فلم تجد بُداً من تصديق توقعاته. فهرعت مسرعة في مشيها بكل ما لها من قوة... دلفت إلى منزلها صاعدة أدراج سلم مظلم وضيق، عبرته إلى "أَنْوَالْ" (مطبخ تقليديّ)...

أمام موقد النار كانت "عِيشَا" زوجة "هَمّو" تعدّ خبز العَشاء بخفّة ومهارة... ورائحة الخبز تملأ المكان المتستر بلونِ السّواد من أثر الدخان المتصاعد من الموقد يوميّا. بادرت بإخبارها بالبشرى، فانزاح ما كان بنفسهما من الهمّ الجاثم منذ خمس وعشرين سنة... سنوات العذاب القاهر، والحزن الدائم المتواصل...
يتابع...
............................................
(1) لالّة: كلمة تضاف لاسم المرأة تقديرا واحتراما لها
(2) الصورة أعلى  تظهر قرية تازولت  (التعريف)
(3) أحد أعوان السلطة في المغرب. وهو في بعض القرى يقوم بدور ساعي البريد بحكم معرفته بالسكان.
-  أشكر الأخت التي ساعدتني في ترجمة بعض الكلمات التي استعصت عليّ (الأخت خديجة أبو القاسم)..

Join me on Facebook Follow me on Twitter Email me Email me Email me Email me

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | تعريب وتطوير : قوالب بلوجر معربة