الوصف
‏إظهار الرسائل ذات التسميات قصص قصيرة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات قصص قصيرة. إظهار كافة الرسائل

أنظرْ إني أرى..


هي ذي الفقاعاتُ كأحلامٍ شاردة..
كعطرٍ تنفسَهُ الوجودُ فسارت ذراتُهُ على حِدَة.
حياةٌ تتموسقُ على إيقاعٍ مُرتخِيِّ الصَّمتِ، عميقٍ لهُ بالجمال صِلَة..
هي ذي يا صديقي، تطير من فوق سطح منزل. كم هي بديعة! دعنا نقتربُ قليلا لعلنا نستمتع بقدرٍ زائدٍ من الرؤية البريئة...
...
أتَراها؟ إنها كثيرةٌ تملأ هذا الرّحب وكأنها آمالهُ الصغيرة الوديعة، يحاولُ أن يطلعنا عليها جهارا، نهارا.. أليس المنظر جميلا وممتعا يا صديقي؟ أحسُّ أنَّ الطفل يدخل في تجربة استمتاع يتوَحّد من خلال فقاعاته مع العالم كأنها تحمل روحه الطاهرة الصادقة، ويراقبها باهتمام بليغ، في محاولاته أن يغطي الهواءَ، أن يعيدَ رسم ملامحَ هذا العالم الكاذب بالفقاقيع الطائرة، والسلام المحلق معها..
أنظر يا رجل... لماذا تحدِّقُ فيَّ هكذا كالأبله. أغلق فمك الفاغر. أنظر ألا تراه؟
- مَن؟
- الطفلُ.. الطفل الذي أحدِّثك عنه وفقاعاته الصافية.
- اها.. نعم نعم، أراه بوضوح تام كما أراك أنت.. بل إنَّي أراه أفضل منك. أوليس هو الآن يصنع فقاعة عملاقة بحجم منطاد صغير.. بدأت تطير ببطء.. أنظر..
- أين..؟
- ألم أقل لك أني أرى أفضل منك، اذهبْ وضع نظارتين كي تبصر جيدًا لقد بدأت في سن الشيخوخة...
- تبا لك، أنا لم أتجاوز بعد الستين...!!
- الهواء يعيد الفقاعة الكبيرة في اتجاه الطفل. تلتقي، تلتصق به.. يا إلهي..! تبتلعه وترتجُّ، تضطرب حركتها.. تبتعد. إنه بداخلها.. الطفل بداخلها..!
- ماذا تقول! هل أنت تحلم؟ أين..؟ كيف تطير فقاعة صابون بطفل؟! إما أنك لا ترى بوضوح، أو أنك تهلوس بوضوح..
- بل الحقيقة ما قلته.. أنا عاقل أكثر منك..
- لا لا، أظن أنه (طَارَ لكَ الفَرخْ) وليس الطفل هو من طار، وغصت في الجنون وتريدني أن ألحق بك ها ها ها..
- بل أنت ماكر، تنقص أهمَّ شيء من الحقيقة. الجناحان، بغيرهما، كيف تريد للحقيقة أن تظهر أن تحلِّقَ، أن تنعم بالوضوح.. أنت تنقل الخبر مبتورا. هب أني لست مبصرًا، أو أني لم أكن شاهد عينٍ. طبعا كنت سأصدق تعتيمك اللئيم، وهكذا تفعلون دائما لا تنقلون الحقيقة كاملة وتدَّعون المصداقية والنزاهة...
- وما شأني أنا بهذا الكلام، أنا لست صحفيا ولا كاتبَ تقرير.. إنك تبالغ يا صديقي العجوز..
- أنظر، الطفل داخل الفقاعة محلق في الهواء يكادُ يختفي... طائر "البلَّارج"... حقير..
- أين هو..؟
- هناك.. نقر الفقاعة فتلاشت. سقط الطفل... أوووه، لقد ارتطم بإسفلت الشارع، يا للمسكين وقع على وجهه!.. والدم...
- أقسم أنك مجنون يا هذا، أنت تؤلِّفُ قصة من نسيج خيالك، بل وتقول ما لا يمكن للعقل أن يقبله قطعا. يقولون أن الرجال حين تشيخ تُخرِّف، "يحسن عونك"... هو ذا الطفل مازال فوق سطح المنزل، أنظر مجددًا لعلك تهتدي، بالله عليك أن تعيد النظر، ها هو يلهو بفقاعاته ألا ترى إشارته الصغيرة نحونا، لقد تفطن لوجودنا وجدالنا. كم هو وسيم.. وضحكته بريـ...
- يبدو أنك ستصيبني بدوار. هل أكذِّبُ أمّ عيني وأصدقك. تعال لنقترب من مكان سقوطه، فهناك الناسُ يجتمعون، يحلقون حوله، ويحاولون إنقاذه.. ربما.. ومنهم من يحمل هاتفه ليصوِّر المشهد. ليتهم صوَّروا الفقاعة التي أسقطته على الأقل كنتُ سأجد ما أثبت به كلامي، أما أنا فلا أملك هاتفا. أحدهم خارج الحلقة يتصل بسيارة الإسعاف كي تأتي بسرعة.. أفلا تسمعه..؟ آخرون يهرولون نحو الحادث. أنت وحدك من لا تصدق ما حدث، أنت وحدك من لا ترى إلا الأشياء التي تريد، ولا تصدق إلا ما تريد..
- أيّة إسعاف وأيّ ناس الذين تدعي وجودهم في هذا المكان الذي يكاد يكون خاليا، لا يوجد فيه إلا أنا وأنت وذلك الطفل الذي يطل علينا من سطح منزلٍ، وبعض المارة من حين إلى آخر، والمنزل في الجهة الأخرى من الرصيف. ثم كيف تريد إقناعي بهرائك، وأنا مازلت أبصر فقاعات الصابون من يده يلاحق بعضها بعضا، بل..
- وما شأني أنا بما ترى عينك، أنا أحدثك بما أراه الآن هناك على الواقع.. على بعد عشرين مثرًا أو أكثر.. أيكون الطفل قد مـ..
- وأنا عما أحدثك، أَأُحدثك عن ما رأيته منذ عام مضى، هل تهزأ بي؟.. "طارت معزة" أم طارت فقاعةٌ بطفل؟.. كيف لي أن أثبت لك وهمك؟ أوووف، لا يوجدُ بهذا المكان شخص غيرنا حتى نحتكم إليه...
- بل يوجد، أنت من لا تبصرهم يا أعمى. هناك أشخاص كثيرون، لنسأل أول شخص يقبل في اتجاهنا.. ها هو واحد منهم يمر من الرصيف، على ما يبدو أنه من هذا المكان.
- اسأله إذن لتعرف أنك في ضلالك المبين.

- هييه.. تعال من فضلك: ما تفاصيل الحادث الذي وقع هنا؟.. الحادث.. كيف، لم يقع أي حادث! لا لا انتظر... أقصد الطفل.. الطفل الذي سقط من فقاعة الصابون.. ابن الحرام "بلارج" نقرها... لقد تأخرت سيارة الإسعاف كثيرًا أليس كذلك؟، دائما متأخرة.. هل مازال حيا؟.. كيف..؟ لا، من فضلك أنا جاد في كلامي... ماذا؟ ليس هناك أحد، ولا أحد.. هل أنت متأكد؟ وماذا عن فقاعة الصابون.. العملاقة؟ ماذا..لا..
- مهلا مهلا سأسأله أنا، إنه دوري: هل ترى يا عزيزي ذلك الطفل فوق سطح البيت الذي قُبالتنا؟.. ماذا! الطفل.. نعم..هناك، أنظر جيدا من فضلك... الطفل الوسيم الذي يلهو بفقاعات الصابون فوق سطح المنزل أنظر هناك في الجهة المقابلة.. لا لا، كيف لا يوجد هناك بيت.. أنا أراه وصاحبي أيضا يراه... انظر جيدا من فضلك... تعال تعال.. انتظر.. عد.. عد..
(ارجع البصر كرتين..)
إني
أراه
إني
أرى.

رشيد أمديون
24/03/2015


فاقد الذات..

قصة قصيرة

الأحلام تطير من رأسي هاربة منسحبة إلى قدر مجهول. الأوهام والوساوس تسكن هذا الجسد المعتلّ، تستوطنني، تقيم عاصمتها بإكراهٍ وبإصرار... 
قلبي الآن فارغ من أيّ إحساس قد يمدُّني بالأمل في الحياة. 
الحياة!! لها وجهان، ونحن من يختار الوجه الذي يُلائمنا منذ البداية.
وكل الوجوه المقابلة لي متشابهة، سوداءٌ ترشقني عيونها بنظرات مذمومة، مستوية على أسُوق الكبرياء. 
وسحابة الندم تغشاني... 
اه اه.. كيف أمضيت عمرا في وادي العبث واللامبالاة، أُطعِم نفسي من مزابل الحياة المَلأى بالرذيلة والخسَّة والنفاق. كنت أسبح في مستنقع المتع الرخيصة، وائدًا كلَّ القيم. وأتباهى بانتصارات وهمية حققتها في لياليّ الحمراء متحديا خصومي بعدد الكؤوس التي أفرغتها في جوفي دون أن أستجيب لسلطة السُّكر الحقيرة...
يقولون أن الإنسان يستيقظ من غفلته متأخرا، عندما تفترسه أنياب الخطر المتربص، وتحاصره خطوب الزمن، فيتحسر... لكنه قد يبدأ حياته من جديد، سالكا سبيلا آخر، مستغفرا على تبذيره للأوقات... أما أنا، فلم استيقظت من غفلتي اللعينة، ولم أتب من غوايتي إلا حين صفعتني كفّ القدر بشدة. دارت بي الأرض وترنّحتُ في التِّيه، ثم نظرتُ حولي وإلى انعكاس طيفي على لوح المرآة لأجدني فقدت إنسانيتي وآدميتي، وربما إلى الأبد... كم أحتاج من عقل ومن براهين المنطق كي أصدِّق شكلي الجديد حينئذ. هذا الشكل الذي سوّد حياتي، وحال بيني وبين الرجوع إلى أصلي. 
خسرت نفسي، خسرانا مبينا، فكيف لي أن أعود إنسانا كما كنت، كيف؟.
كيف لي أن أرفع عني لعنة المسخ هذه التي حولتني إلى مخلوقٍ آخرَ أقتات على مزابل القمامات، وأعيش بين أرصفة الشوارع، وأخالط الكلاب، والقطط المتشردة، زاحفا إلى دوامة المجهول وليس بمقدوري غير المواء كلما آلمني جوعٌ، أو لحقت أنفي رائحة السمك اللذيذة المنبعثة من مطابخ هذه البيوت. إن قدري قاسٍ جدا، وحتى الموت يرفضني.

رشيد أمديون

أَڭْـــنـاوْ

الرجلُ كان عملاقا قوي البنية، حاد النظر، مكتنز الأرداف ناصع الوجه...
ونحن كنا صغارًا في عمر البرعم، نخافه ونستلذ متعة الخوف النادرة بمشاكساته.
كانت تثير ضحكنا بقعة جلدية منتفخة على جانب جبينه العريض المتفصد عرقا على الدوام. نسخرُ منه، فيطاردنا وسط فضاء القرية ملوحا بذراعه القوية كمن يلاحق سرب طيور هارب. يركض خلفنا كثور هائج، ماسكا بطرف جلبابه كي لا يُعثره. يهتز جسده كله وركبه كأنها ترج الأرض رجا، أو هكذا كنا نحسب ونحن صغار. وبلغته البالية تدعسُ التراب وتقذف الحجر الذي يتعرض سبيلها، تزجه بعيدًا. كان جلدها الذي صُنعت منه أصفرا فاقع اللون قبل أن يُحوّلها القِدَمُ إلى نعل مرقع لا لون له. يُخيّل إلينا أنه اشتراها من سوق الأسبوع منذ زمن غابر قد يكون قبل ولادتنا بسنين. لكنه كان يجيد العدو بتلك البلغة الأثرية، فنفر كنمل انتبه إلى ناقوس الخطر فاستجاب له مكرهًا.
كفه تتوعدنا... صوته الجهوري يَصدر من بين شدقين واسعين. يتطاير اللعاب من فمه مع كلامه الغريب كطلاسم منطوقة تُحدث في نفوسنا رعدة يتولى خيالُنا الصغير ترجمتها إلى أن من يطاردنا ليس كالبشر، إنه مخلوق آخر... فإن أمسك بأحدنا سيبتلعه دون شفقة.
كان بإمكانه أن يمسك بنا، لكنه لم يفعل. إنه لا يريد.

قالت الجدّات وهن يلوكن الكلام بأفواه لم يبق فيها أثر لسِنٍّ: إن "أَڭْـــنـاوْ" -كما صار يطلق عليه الجميع- في سابق عهده كان إنسانا عاديا لا يختلفُ عن الناس في شيء، يُحدِّثُ الناس ويحدثونه. كان شابا قويا عملاقا، صاحب عضلات مفتولة كما ترونه الآن. حلق شعره الطويل كله ذات نهار ماعدا ضفيرة في قفاه، أرسلها خلفه في تباه، كي تميزه عن باقي الشباب. فانطلق راكبا بغلته التي حثَّها على الركض فأطلقت قوائمَها للريح تريد أن تسبق القدر إلى حيث يمَّم.. على ظهرها كان هو كفارس همام، يلاعبُ الريحُ ضفيرتَه المصقولة، فأصابته نظرة شاردة من عجوز كسهم مسموم، تمتمت كعادة كل العجائز... لم تكد ترد طرفها حتى تعثرت بغلة أَڭْـــنـاوْ طرحته أرضًا. من يومها صار اسمه أَڭْـــنـاوْ... الرجل الأبكم.. يُهمهم ولا أحد يفهم ما يقول، لا أحد يفهم صياحه إلا إن أسند إليه الإشارة بيديه.
قالت لنا النساء: لا تسخروا منه، إنه من يفعل ذلك يصبه ما أصابه.
ما كان يعنينا الأمر في شيء. شُغلنا الشاغل هو كيف تحوَّل إلى شخص يطاردنا حين نلعب تحت أغصان الشجرة العجوز التي تتوسط القرية. هذه القرية التي شهدت سقوطه الأليم كما تقول العجائز حين يحذرننا بمزاج العارفات. إنه يلاحقنا في كل الأماكن.. يبحث عنا كي يتوعدنا، فتنمو سخريتنا أكثر.
كلما زاد نفورنا منه زاد قربه منا.
يقف على مكان مرتفع جاعلا بيننا مسافة فاصلة فيحرك رأسه الكبير الأصلع. لم نر قط في قفاه ضفيرة، ربما كانت من أثر الشباب وتخلى عنها كما تخلت عنه قدرة النطق يوم وقع من دابته. تثيرنا طلاسمه حين يصرخ ببربرة لا يفهمها إلا هو. يستفزنا، فنشير إلى جبهته المتورمة.. يثور، ثم نفر بلا هدى.
هكذا.. وتمضي الأيام، ساحبة العمر معها...
تاركة أَڭْـــنـاوْ كوشم في ذاكرتنا.

ودعتُ القرية، وفارقت موطن الطفولة.
فارقت رفاق الصبا..
مضى كل إلى غايته، وابتلعتنا المدن كدوامة وسط بحر الحياة، وكبرنا.
حتى أَڭْـــنـاوْ كبر أيضا وصار شيخا هرما، ورحل من القرية إلى المدينة عند أبنائه ليحظى بالعناية والعلاج. اشتدَّ عليه المرض وفتُرَ جسده، فوجدتني يوما أزوره بعد سنوات وعقود فرت بي هاربة.. تغيرتُ فيها وتغيرت أفكاري و العالم حولي تغير...
الحياة أيضا تبدل طعمها، شكلها، ولونها... وانسابت كماءٍ يجرف معه كل شيء.
لم أحمل معي في جرابي ذاك الخوف الذي كان سببا في نفورنا من أَڭْـــنـاوْ، تركته هناك تحت أغصان الشجرة العجوز في تلك القرية الأطلسية العريقة. تركته يوم غادرتها، هو أيضا ترك كل شيء هناك، مرحه زعيقه، بطشه، حتى قوته وحياته.
نظرت إلى جسده النحيل المسجى. سلب منه المرض صلابته. لم أنس شكل العملاق الذي كان يرعبنا ويطاردنا... كنا نحبه! أكيد كان يحبنا أيضا وإلا لمَ لم يمسك بأحدنا يوما. لم يؤذنا جزاء سخريتنا...
نظرت إلى وجهه الغائر، الذابل. اختفت نضارته، امتصه المرض وتلا الزمان عليه آيات الختام. انحنيت فقبلت جبينه الصلدة، ورمقني بنظرة منطفئة على مشارف الوداع تُنازعُ الظلامَ حقها من النور في هذا الوجود. لا أدري هل عرفني أم أني حينئذ لست سوى بعض ضباب الماضي البعيد. قرأت النهاية في عينيه وسلامًا مطمئنا ووداعا ساريا كشمس تغادر مرافئ المدى إلى مستقرها. وكنت أبحث في وجهه عن شيء من الماضي، شيء يذكرني بأيام، وبي أنا الطفل الذي اشتاق لنفسه، وراح يبحث عن أثره..، فما وجدت غير بقعة الجلد المتورمة. إنها أبت أن تتلاشى. بقيت كما هي على جبهته وفية...
ما عادت تثير ضحكي!.
حينئذ قلت سرًا: إن الحياة أكبر مستفز اليوم واللحظة، إنَّها هي من تضحك علينا، يكفينا أننا نركض خلفها رغم خوفنا منها.. هي ليست كـأَڭْـــنـاوْ الذي كان يركض وراءنا ونهزأ منه، نسخر من شكله.
الحياة سمعتها وأنا أشيع جسده النحيل بنظرات الوداع، هامسة تقول: وبعد قوة ضعفا...
أي ضعف هذا الذي نفض الغبار عن وشم بالذاكرة!..
نزلت دمعتي باردة، فأشعرتني بغصة في حلقي.
قلت: ليتك يا أَڭْـــنـاوْ تقوم من سرير الوداع هذا لتطاردني الآن..
لتردد زعيقك العتيق!
ليتك تفعل...
ليتك
تـ فـ عـ ـل.


كرامة الوطن


سامي الوطني، شابٌ تعرفتُ عليهِ عن طريق شلَّة من أصدقاء الأنس. لم تكن لي به علاقة قوية في بادئ الأمر. أما قبل، فكنت أسمع عنه أحاديثا على لسان أصدقائه، تصل إلى حد السخرية. إذ أنه كان شابا سريع الحركة والانفعال، له فلسفة خاصة في الحياة تلبسها بعض الغرابة...
بعدها صرت ألتقيه كثيرًا في موعد جلستنا اليومية في مقهى المدينة. وغالب الظن -وهذا ما استنتجته- أن لقب الوطني أسندهُ إليه أصدقاؤه وزملاؤه في الجامعة حين بدأ يتفلسف عليهم بكلام يعتبرونه من الوهم المبالغ فيه، إذ أنه يربط كل ما يحدث له بالوطن، وحب الوطن، صغيرا كان أو كبيرا، عظيما أو حقيرًا.
تراه حين يلعب المنتخب الوطني مباراة ضد فريق أجنبي يهرول إلى المقهى ليحجز أول كرسي في الأمام، قبالة التلفاز قبل بدء المباراة بساعة. ويكون أول الصارخين حين ينهزم فريقه الوطني:
- كرامة الوطن تمرّغ في التراب.
وحين كان يعمل في إحدى شركات السياحة بمراكش، كان متفانيا في عمله، متوددًا إلى السياح الأجانب، يبذل مجهودًا أكبر مما يُطلب منه، حتى قيل له إن أمثالك يا سامي قد انقرضوا منذ زمن بعيد. فلا يرد إلا بقوله:
- مسألة كرامة، كرامة الوطن.
وأشد ما كان يصيبه بهستريا من الغضب حين يجد أحدًا من باعة الأثاث القديم يستغل شغف السياح بالقطع التراثية ليرفع ثمنها أضعافا مضاعفة، وذاك ما يجعله يصيح أيضا بدون شعور:
- أوغاد، يمرغون كرامة الوطن في الوحل..

بعدما ترك عمله في السياحة. ظل سامي عاطلا لزمن، وخلال هذه الفترة تعرف على فتاة بريطانية تدعى كاثرين. تعرف عليها من خلال الدردشة في إحدى مواقع التواصل الالكتروني، استطاع وقتئذ أن يجعلها تتعلق به. كل أصدقائه ورفاق صباه يعلمون أن سامي الوطني لم تكن له من قبل علاقة -كيفما كانت- بفتاة. ماضيه كان أبيض من الحليب. لهذا فقد استغربوا أن يفاجئهم ذات جلسةٍ أنه تعرف على كاثرين، ومنهم من لم يصدقه واعتبر كلامه من ضمن الأوهام التي ما فتئ يرددها. لكن سامي الوطني كان جادًا وهو يردد:
-أنا لا أكذب. تلك مسألة كرامة الوطن، فحين يكذب المواطن فهو يمرغ أنف الوطن الذي ينتمي إليه في التراب.
رغم ذلك لم يصدقوه.
أراد يوما أن يثبت لهم صدق ما يقول، فأخبرهم أن حبيبته البريطانية ستزوره في الشهر المقبل وسينعم بجوارها، وسيطوفان المدن ويستمتعان بوقتهما. وعلى حسابها! أكيد على حسابها.
كم سخروا منه يومها، بل فاضت عيونهم بالدمع ضحكًا كلما تصوروا سامي الوطني بنظارتيه الواسعتين، وجسده النحيل، ممسكا يد كاثرين الناعمة ويتجولان.

اختفى سامي مدة من الزمن، ولم يعد يظهر كما عادته، إلى أن علم كل الأصدقاء أن حبيبته البريطانية قد نزلت بأرض الوطن، وسامي يرافقها كل يوم لتتعرف على المغرب ومآثره وطبيعته.
عاد سامي بعدها ليجلس مع رفاقه، حزينا مهموما، لا يكثر الحديث.
- ما بك يا سامي الوطني؟ هل سافرت البريطانية؟
- لا لم تسافر بعد...
- هل تخاصمتما؟
- لا، ليس ذلك
- ما بك إذن؟
ظل سامي صامتا لأيام، وتأكد لنا جميعا أنه يواري شيئا ما، لم يستطع أن يبوح به، أحسسنا أنه يحمل في صدره هما ثقيلا، وملامحه لا تخفي أثر قلقه.
وخرج من صمته أخيرًا وبعد صبر طويل وإلحاحنا على معرفة سبب وجومه، لكنه لم يخبرنا، بل أسرَّ لأحد أصدقائنا المقربين إليه أكثر. والسر تجاوز الثلاثة...
فعلمنا أنه أصيب ببرود جنسي، وأنه حاول مرارا ولم يفلح، لدرجة أنه خجل من عشيقته البريطانية، رغم أنها تقبلت الأمر ببساطة، لكنه لم يهنأ.
نصحه صديقه ليواسيه. ربما يكون ذلك مؤقتا، أو راجع لحالتك النفسية وتوترك، خاصة لم يسبق أن كانت لك علاقة كهذه.
ظل سامي الوطني مهموما. كثر تفكيره، والبريطانية أوشك أن يحل موعد مغادرتها المغرب.
سامي الآن يركض بين الصيدلية، وبين بائعي الأعشاب التقليدية.. ويفكر أن يزور "مولاي ابراهيم" (أحد الأضرحة) لعل عقدته تنحل.
صديقه ينصحه أن لا يستعجل، فحتى هذا سبب من الأسباب في مشكلته، وليزر طبيبا أفضل له.
سامي الوطني يصر على أن يجد حلا عاجلا قبل أن تغادر كاثرين وطنه: ماذا ستقول كاثرين، والبريطانيات عن فحولة سامي؟!
هي مسألة كرامة. يضم حاجبيه عابسا، ويصيح في وجه صديقه:
- أتريدني أن أمرغ أنف الوطن في التراب؟.

رشيد أمديون

يَنوءُ بحِملنَا

يَنُوءُ بِثقلِهَا وبجسْمِي الخَفيفِ والشّوارِي المُكَدَّسِ بالملابسِ المُتّسِخَةِ، فيُطأطِئُ رَأسَه الكبير، يَسيرُ في طَريقٍ غيرِ مُعبَّدٍ، تُعثِّر قَوائمَهُ الأمَامِيَّة بعضُ أحجَارٍ.
كنتُ أركَبُ أمَامَهَا فَتَشُدُّ اللِّجامَ فَأختَفِي بينَ ذِرَاعيهَا المُكتَنِزَتَينِ. فَتَصِيحُ:- ارَّ.. ارَّ...
كانت هَذِهِ أوَّلَ مَرّةٍ تأخذُني مَعهَا. قالت لي هيَّا مَعِي لِنغسِلَ المَلابسَ في الوَادِي. فَزَقزَقَت عَصَافِيرُ الفَرحَةِ حَولِي.
أخِيرًا سَأمتطِيه.
كانَ الحِمَارُ الـمُتْعَب يَنحتُ الـمَسِيرَ بِبُطْءٍ ُممِلٍّ، وابنَة عَمِّي تُحَاوِلُ كَسْرَ الرَّتَابَةِ بأُغنِيَّةٍ تَحفَظُهَا عن ظَهرِ قَلْبٍ، تَرفَعُ صَوتَها المَاتِع:
- مِشْ حَ تنَازِلْ عنَّكْ أبدًا مَهْمَا يْكُونْ..
كُنتُ في عُمرِ البُرعمِ فأطربتني بالأغنية التي (كسَّرتِ الدُّنيا) زمنًا... تغرِّدُ فَأَنتَشِي:

- دَه احْنَــا البَعــضِ حَنفضـَـلْ دَايمًــا... طولِ العُمرِ حَنفضَلْ دَيمًا مَهمَا يكُونْ.
والحمَارُ مُطَأطِئَ الرَّأس قَالبًا أذُنَيهِ إلى الخَلفِ. مَا كانَ يَعنِيهِ الأمْرُ في شَيءٍ، مَادَامَ يَسلُكُ طَريقَ الشَّقَاءِ. أي عمرٍ هذا؟!
تعودُ من سيَّاحَتهَا الغِنائيَّةِ فَتنتَبِهُ إلى أننَّا لو بقينا نزحَفُ بهذا الشَّكلِ فلن نصِلَ إلا معَ الغٌروبِ. أمامها عملٌ كثير... قالتها وهي تلعنٌ حمارَنا المِسكِين، وتخبطه بكَعبَي بَلغتِهَا الحَمراءِ كي يُسرِعَ: ارَّ، ارَّ، ارَّ..
لا فَائدَةَ منْ ضَربِ هَذا العَنيدِ البَارِد. اللَّعنَةُ..
على حافَّةِ الطَّريق شُجيرات اللَّوزِ المُورقَة، والتي لم ْتَمنَح عَطاءَهَا بَعدُ. بعضُ أغصَانِهَا مُمْتَدَّة. تَناوَلَت اِبنَة العمِّ غُصنًا فَصَلَتهُ عن شجرَتهِ، وثنيَّتهُ ليَنكَسِرَ إلى قِطعَتينِ أو ثَلاثَة... حَزَمتهَا بقَبضَةِ كفِّهَا، وأحْكَمَت شدَّ اللِّجامِ، ثمَّ نكَزَت مُؤَخِّرَةَ الحِمارِ بِغَيظٍ شدِيدٍ. انتَبَهتُ لأذُنيهِ وقد انتصَبَتَا فوجَّههُمَا إلى الأمامِ وهزَّ رأسَهُ الثَّقيلِ مُنطَلقًا يعدو ويعدو، وهي تُرَدِّدُ :
- هاكَ لِي مّاك، زِيدْ..
قَهقَهْتُ بأعلى صَوتي، فأعَادَت إليَّ الجبَالُ الصَّدَى.
تعودُ مِن جَدِيدٍ:
- مِشْ حَ تنَازِلْ عنَّكْ أبدًا مَهْمَا يْكُونْ..
أمَّا أنا فَكُنتُ أسِرّها في نَفسِي خِيفَةَ:
- من سَيصبِرُ عَليكِ يا بِنتَ عمِّي، مَنْ؟!

حِينَ وَصلنَا إلى الوَادِي وَجَدَت صويحِباتِهَا هناك، فتطَايرَتِ القُبلات من بين خدُودِهنَّ كالفراشات. كُنتُ مَحظُوظًا أيضًا. قُبلَة من هذهِ كالفَرَاولة، وقُبلَةٌ من تِلك كالمَوزِ، والضَّحكاتِ!! إيه، الضحكات لم تَتَوقّف...
أنزلنا الشّوَاري، وَوَضعنَا أحمَالنَا. رَبطنَا الحمَارَ بجدعِ شُجيرَةٍ ليسترِيحَ.
لَعِبتُ بالجِوَارِ، وَوسَطَ المَاءِ فَسَقَطتُ مُتعَثِرًا بالأحْجَارِ، تَبلَّلَت ثيَّابي فضَحِكَت مِنِّي الفَتيَاتُ، وَنهرَتنِي ابنةُ عمِّي:
- يَاك أيَا غْيُول.. تْزْرِيتْ مَا تْسْكَرْتْ (أرأيت أيُّهَا الحِمار مَا فَعَلْتَ).
سَكَنْتُ بَعدَها، مُكْتَفيَّا بِمُراقبَتهَا وهي تَفرِكُ المَلابسَ بصَابون الكَفِّ، ثمَّ تُقلِّبُها في المَاءِ الجَاري أمَامَهَا... تعصِرُهَا عَصرًا، وتُعَلّقُها عَلى أغصَانِ الشُّجَيرَاتِ والعُلِّيقِ، أو تَفرِشُهَا على الصُّخُورِ الصَّلدَة. مَلأنَا الشّوَرِاي مِن جَديدٍ لكن هذه المَرَّة بالغَسِيل الذي لم يَجف بعد. نَظرتُ في وَجهِ الحِمارِ فَعَلِمتُ أنًّه يَكرَهُنَا، عَينَيهِ الواسِعَتينِ تقولُ ذلكَ، وذيلُهُ يَنتقِمُ من الذُّبابِ المزعِجِ. فهمتُ استِيّاءَهُ.
صَعِدتُ على صَخرَةٍ وقفَزتُ، فاسْتوَيتُ على ظَهرِهِ، أمَّا البَدِينَة فَقد وَقَفَت علَى نَفسِ الصَّخرة ومَا أنْ أرْخَت بِثقلِهَا حتَّى اضطَرَبت قَوائمُ الحِمارِ وتَرَنّحَ يَمينًا وشِمَالا، وكادَ أنْ يقَع، فَصِحتُ غَيرَ مُبالٍ: 

- السَّلامَة السَّلامَة يا مُوْلانَا...
---------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------

يدٌ، وعينٌ.. والكلام


هل كنتُ لأبكي لولا ذاك الدّفء الذي تركتهُ على رصيف المحطّة؟، إنّي تركتك واقفة قُبالته، كأنه مازال يحتويني، ورأيتك تضمينه كما كنت تضمين رسمي.
لم أحمل معي غير ملامح إشارة يدك المتعبة التي لوّحتِ بها ببطء. بدت مثقلة بحزن أنهكها، لم تكن إشارتك عادية. إنّها تشير للمستقبل، تشير بعييييدًا، ولم يخفَ عني ما تعنيه، لم يخفَ...
حركتُ يدي عن غير قصدٍ، أو ربما حركتها كي أردّ تحية الوداع. يدي ثقيلة، كأنها تأبى... حاولت، فاهتزت من كفّي بقايا عطرك، كان يغني لي أغنية فيروزية تنعش أنفاسي المتعبة من رائحة الوداع الخانقة.
كم هي أنسامك فردوسية!!.
فخطَفَـتني من نفسي. روحي اِنْتُـشِلَت من جسدي. من قاع سحيقٍ رفعتُ رأسي فرأيتُ عينك الذارفة، ووجهك الخجول كشمسٍ على أهبَة المغيب. وتلك الحمرة النازلة تشوب أفقي الضيّق...
وعندما تحركت عجلات القطار، التي بدأت بطيئة في البداية وسرعان ما انطلقَ عزفها السّريع، نظرتُ إليك هناك، على الرصيف. يدك كانت كحمامة برية ترفرف حول عشّ فراخها. كان الحنان يشع، يملأ المدى. وحدي أنا من فهم شفرة تأرجحها ورفرفتها، وحدي المعني لا غيري...
بقيتُ أسأل، هل كانت دمعتي تغادرُ مرافئ العين لتشق طريقها بين المآقي لأنها ضجرت بالمكان، أم لأنها حنّت لأهل المكان، أم لأن القدر أقوى من الإنسان، أم لأن موسم احتضارها قد حان؟
قلتُ لك يومًا: لا أعلم لمَ العينُ تُصَدِّقُ نبض القلب، فتستسلم له رغم أنّ أملَها يحدّثُها بأنَّ الوداع يقابله اللقاء، هما يتناوبان.
يومها حرّكتِ رأسكِ يمينا وشمالا. ولم أسألك لِمَ.
واليوم تأبى العينُ إلا أن تُصَدِّقَ القلب حين يقول:

- الوداعُ احتمال الفراق الأبدي، قد لا يُكتبُ لنا اللقاء.

رشيد أمديون

سقطت نجمةُ في الليل



معزوفةُ اللّيل... نباح كلابٍ، ونقيق ضفادع البركة المجاورة كفرقةٍ موسيقية راق لها العزف.
انسحبَ السكونُ الليلةَ من الدوّار بعدما تسلّلَ صوتٌ جديدٌ إلى هذا العزفِ الليليّ فغادر النّومُ عيونَ كل الأهالي.
دارُ "عبدِ السّلام ولْدْ رحمة"، مُتزيّنة بمصابيح ملوّنة، أخضر، أحمر، أصفر. باحتها الأمامية تحولت إلى معتركٍ تُثير فيها الأقدامُ النّقْعَ. فوق الرّؤوس تشكلت سحابة من بياضٍ مُغبرٍ تُرى من بعيدٍ، يعكسها ضوء المصابيح المتوهجة التي تحوم حولها حشرات طائرة وبعض خنافسِ الدوّار التائهة. خرجت من مخابئها باحثة عن مصادر الضوء المشع... خرجت مع من خرجوا لتلبية الدعوة.اشتدّ الرفس بالأرجل والضرب على الطّبل، والدفوف تتراقص في الهواء فرحةً سعيدة. والغايطة تنادي صارخة أنْ هلمّوا إلى "الْهَيتِ"*. فامتلأ سطح الدار وساحتها...
نسوة تسوق زغاريدًا حادة تركبُ أمواجَ الضجيج.
رجالٌ في ركن يتحلّقون حول صينية كبيرة ينتظرون امتلاءَ الكؤوس. وقنينة غازٍ صغيرة عليها مقراج نحاسي عملاق ينفخُ البخار بغضبٍ شديد كبدين أنهكه الركض.
العرْبي نشطٌ، كأنّ نجمة السّماءِ المضيئة الليلة في يده. همس إلى رفاقه، أنّه مستعدٌ لشرب برميل خمرٍ...
فهذه ليلتي التي انتظرتها...
دارتِ الكؤوس في زاويةٍ ما. مشى السّكارى واهتزت أجسادهم بلا استقرار...
الحشراتُ الوافدة من الظلام ترقص محتفلة بضوء المصابيح إلى أنْ تسكرَ فتسقط على الأرض وعلى رؤوسِ الضيوف.

 حضورُ طعامِ العَشاءِ أخرسَ ضجيجَ فرقة "الغايطة والطبّالة"*، وشلّ حركة المترنحين. وحده النباحُ  المتقطع، وصوت سرب الضفادع المستمر امتزج بسكون الليل الرتيب.
انفضّ الناس بعدما شبعوا. غادروا إلا بعضهم. أطفِئت المصابيح. فتلاشت الخنافس والحشرات ابتلعها مكانٌ ما. وبرز نور نجمة السماء، فاختفى العربي بمنكبيه العريضين داخل غرفة وأغلق عليه الباب. جمهور من عائلته وعائلة العروس في انتظاره.
كانت العجائز أمام الغرفة يجلسن على الأرض ينتظرن... اشتد لغطهن إلى أن دبّ المللُ في نفوسهن، فصاحت إحداهن بدا أنها جدة العربي:
- أوْلاد اليوم ما تيحمْروشْ الوجَهْ...*
ردّت عليها فاطْنة كأنها تنهرها:
- وانتِّ اصبري. مالكي على هاذ الزّرْبة*... الرجل يالله دْخل..
هزّت كتفيها الهزيلين، وأطبقت فمًا بلا أسنان، لتُحدثَ صوتا:
- أشمن راجل؟ الرجولة مشات مع جده... سوْليني أنا.
أصاب هذا الحديث آذان رفاق العربي، وكانوا في الخارج عاكفين، فهمس عليّ في أذن جاره مازحًا:
- موحالْ هاذ المسخوط واش اقضيها... لم يمنع عن نفسه خمرا ولا حشيشا.
قامت جدة العربي بعد صبرها المرير تطرق الباب من الضجر. كفها مخضّبة بالحناء حتى اسودّت راحتها. تتمتم: تأخر هذا المسخوط...

بدأ الليل يفقد سوادهُ تدريجيا ويستسلم لبعض ملامح الفجر حين انفرج الباب، فاستعدّ الجميع...
النساء تأهبن ليطلقن الزغاريد إعلانا عن تحقيق النصر المنتظر. أخيرًا سيرفعن العلم عاليا أمام أعين الحاسدين، المتربصة التي تتمنى لعائلة "عبد السلام ولد رحمة" الشماتة... وها هن الشابات يستبشرن، وعلى شفاههن أثر نشيدٍ ينتظر الانطلاقة. نشيدٌ يرد بالحجةِ الكيدَ والعار.
انفرجَ الباب، خرجت رائحة العرق، فظهر العربي يترنح. بقع الدم على قميصه بارزة الاحمرار. ينادي على والدته العجوز... أمي و... أمي.
اقتربت منه، سائلة:
- ماذا هناك، واش صافي؟
- لا لا، دخلي شوفي هذي مالها؟
تهمّ باقتحام الغرفة، فتسبقها أمّ العروس...
تطلق من داخل الغرفة صرخة هيّجت نباحَ الكلاب في الخارج، وأخرست غمغمات الحاضرين ووشوشاتهم القبيحة.

صباحًا أرْقَدوا العروسَ في قبرها، كانت كنجمة انطفأ نورها.
تحدّث ناسٌ لم يحضروا العرسَ، أنّ العربي البغل، مزّق رحم عروسه باحثا عن الشّرف.

رشيد أمديون
 21/05/2013
.............................

* رقصة شعبية يختص بها أهل غرب المغرب في البوادي.
* نوع من العزف الشعبي، يستخدم فيه آلة نفخ وطبلة. 
* لا يرفعون رأسك (كناية عن الافتخار بهم)
*الاستعجال

بطالة

أعيد نشرها بعد أن شاركت بها في إحدى المسابقات.

    كلّ الأرصفةِ المُهترئةِ تعرفني... وكراسي المقهى الشّعبيِّ، الذي ينفثُ دخانَ التّبغِ والحشيشِ..، وأشياءٍ أخرى أتعبت أنفاسنا إلى حدِّ السّآمة. تعرفني الوجوهُ المألوفة، فاستحالت صورتي في الأعينِ إلى جزءٍ من تفاصيلِ هذا المقهى العتيق. أمْلأُ كلّ يومٍ كرسيًا بجسدي النحيلِ، وأنتظرُ الغيبَ في اصطبارٍ مُتكلّف.
الأزقة الضيقة المزدحمة بالعابرين تعرفني، والحارات الممتلئة بضجيج أطفالٍ يلعبونَ في مرحٍ قبل أن تبتلع أحلامهم البريئة وحشية المستقبل الذي يترصدهم من وراءِ حاراتهم المنهوكة، هناك على شارعٍ ببقايا الإسفلتِ على أرضه، بحفرهِ المُمتلئةِ بماءِ المطر، هناك يقفُ لهم كافرَ المَلامحِ، عبوسًا قمطريرًا.
كلاب الشّارعِ المتشردة بنباحها الشبيه بثرثرة فارغة في هواء المكان، تشمئزّ حين تراني جالسًا... أو واقفًا...، وتتعمّدُ رفع رجلها فترسلُ بولها قريبا منّي. تعبّر عن ضجرٍ واستياء، تسقي عمودَ الكهرباءِ المعطّل برشةٍ، ثمّ تمضي بزهوّ مفتعل، مخلّفة وراءها عمودَ الإنارة الميّت، الذي لم ينرْ إلا في فترةِ انتخابات. أذكر كيف أنار... ثم انطفأ!.

القهوةُ السّوداء على الطاولة بردت؛ وكانت تدّخرُ دفئها في فنجانٍ يَضُمّها بضمةِ حبّ تكلّل بالوفاء، كأنها تحمي شيئًا ثمينًا، وتبدي محاولةً فاشلةً لتُحافظَ عليهِ عسى أنْ يَمتدَّ إلى زمنٍ أطول كي يمنحها الإغراء، فلا قيمة لقهوةٍ فقدت الدّفءَ أو انْتُزِعَ منها في محيط ٍ تشوبهُ كلّ المؤثرات المفجعة. الجوُّ بسيوفه الشائكةِ يتربص بها. كان أكثر منها قوةً وأشدّ بأسًا... فاستسلمت للبرودةِ استسلامَ فتاةٍ تحت ضغطِ مغتصبها بعد مقاومةٍ عنيفة.

اعتدتُ أنْ أتصوّر المشهدَ بعد أن أعودَ بذهني الشّاردِ من سَفرِ التأمّل، ساحبًا التّفكيرَ علّني أحظى بما يبعثُ التّـفاؤلَ ويزيلُ أثر الحنقِ القاتل من باحة نفسي المتهالكة في زمن يُمارسُ سطوته كأنّه احْتُـقنَ بالجبروت، أو أصابهُ مسّ من جنون.
نادلُ المقهى بعينٍ شرزةٍ تختلسُ النّظرَ إليّ، يدركُـ أنّي سأطلبُ منهُ تسخينَ نصفِ الفنجان المتبقي من هذا السّوادِ الذي أشاركهُُُ اللّون والمرارةَ المقيتة.
يستجيبُ مُصدرًا صوتًا لا أسمعُ منه غير غمغمةٍ ما عُدتُ أهتمّ بعُنفها ولا بسوطِ جلادِها المتجبّر.
والجريدة المحمولة تتمنى متى أعـتقُها، متى أمنحها الرحمة، لتخلدَ إلى الرّاحة، أو حتّى لتصيرَ ورقـًا يلفّ فيها بائعُ "الفولِ السودانيّ" بضاعتهُ لزبنائه..
صارت تشبهُ خِرقةً باليّةً بعدما استعرتُهَا من زميلِ محنةِ الدّرب. وقد فَضَّت الأيديّ عُذريّتها وغادر بهاؤُها الذي كانت تتمتّعُ به قبل أن تمنحَ نفسها لأوّل قارِئ... ها هي في مستقرّها الأخير بعد أن تنقلت بين القُرّاءِ وجاء بها قدرهَا التعيس عندي...
آهٍ.. كم تتعذّبُ هذه الصّحِيفة بين يديّ وأنا على إيقاعِ الارتجاف، كأنّني مستغرقٌ في رقصةِ "درويش" ولكن بلا نشوةٍ تُدرك... يعزفُ البردُ ما يُهيّجُ حركةَ انتفاضتي، يصيبُ ذاتي بتعبٍ زمهريريٍّ يحرسُهُ جوٌّ شتويّ مكفهرّ الوجهِ غابت عنهُ شمسٌ حنونة تمنيتُها أن تسطعَ لتهدِئَ رعدتي، لتهب النورَ، لتأتي بالعمر الباقي بهيًا...
ترتجُّ الجريدةُ في رحلةِ عذابٍ مرير تذوقه مني، وأنا أترنّحُ، مقلّباً صفحاتها الذابلة باحثًا عن إعلان لوظيفة.

امرأة وأنثى


كانت الضّاوية مشمرة عن ساعديها تحلبُ بقرتها الوحيدة وسط الإسطبل المبني بالطين. بينما كان عزّوز في الخارج يفترش التّبن، سابحا في اختلاجات نفسه، مستمتعا بنشوة دخان (السبسيّ)(1)، بعدما تعب من اللّف والدوران حاملا يديه خلف ظهره حيث كان يتجول بجوار البيت والزريبة...
استلقى على ظهره فوق كومة التّبن مانحًا لجسده الراحة. تبسّم ملْء شِدقيْه...فجمع المطويّ (2)، ثم أخفاه في جيب سرواله الفضفاض. تذكّر أن صديقه علال رَكّبَ البارحة على سطح منزله صحنا هوائيًا يأتي بالعجائب والجمال.
استدعاه عشية أمسٍ وأراه كيف ترقص سوسو!!.
عدل طاقيته البيضاء على رأسه الأشيب، ثم جمع كفيه الواسعتين خلفَ قفاه مدّ رجليه، وردّد في نفسه:
- سيستمتع علال، ما أسعده!!
فأرخى العنان لناظريه...

لمحَ قُبالته قدّا مياسا. أنثى ذات شعر متهدّل بلونه الفحميّ مقبلة نحوه... تتغنّجُ بقوام ممشوق. فرك عزوز عينيه بحدّة ليزيل الشك باليقين، فجحظتا...
دنت منه وألقت بجسدها البضّ بين أحضانه، فترنح فوق كومة التبن. طوقته بيديها العاريتين، حتى صار وجهُها المتلألئ في وجهه الأسمر المتجعّد، ثم سحبت يدها اليمنى...
أحس بدغدغة تحت ذراعه اليسرى، فاهتز مرسلا قهقهات صاح على إثرها:
- لا لا مشي تمّاك اسوسو..(3)
فشعر بوكزة عنيفة تخترق أضلاعه، كادت تكسِرُها..  
تألّم ففتح عينيه على وجه الضاوية في قمة الغليان تصيح:
- الله يْلعنْ لِّي ما يحشم يا ولد الحرام.(4)
انتهت
رشيد أمديون
30/04/2013
........................................

1- 2- هو عود طويل  كالغليون يستخدم لتدخين الكيف
3- لا ليس في هذا المكان يا سوسو...
4- لعنة الله على من لا يستحي...

البياض والسواد


زمن الأسطورة انتهى.
أنا لست ابن الأحلام...

هذا الذي قد يراود مخيلتك أو يشغل بالك والتفكر، لا أملكه. 
أنا من أولئك الذين لا يأتون في الأحلام... 
أنا من الواقع المحض، الواقع المرّ الذي لا تزول مرارته برش ماء السّكر. 
أنا ابن هذا البلد!! 
لعقت العلقم من ذات الصّحن، وجُلِدت لأكون... 
نحن قوم لا تثبت هويتنا إن لم نجلد 
فإياك أن تتصوري أني يوما بردائي الأبيض سأركب فرسا أبيض، أو أني سأمر تحت شرفتك لأشاهد تحية المنديل الأبيض وهو ينثر عبقك المدلل في الهواء... 
تلك طقوس بعيدة عني كالقمر في السماء، ممتعة، ولكن... 
حاولت أن أمارسها فسجنني الواقع، بل نفّذ في حقي حكم النفي. 
أنا لست ابن الأحلام... لأنني أخشى إن نسبت نفسي يوما لها أن يضعوني في خانة الممنوعين، أو أن أكون حلما مزعجا يقظ مضجعك فتنكرينني قبل الفرار. 
دعكِ من الأحلام الآن، وفكري فيّ كما أنا، بقميصي الذي ذهبت الشمس بلونه، بسحنتي السمراء، بشعري الذي لم تمر فيه أسنان المشط منذ زمن لا أذكره، وبحذائي الذي بهت سواده، وأوشك أسفله على التلاشي من كثرة المشي والبحث... وجيوبي الفارغة إلا من تبغ رخيص، وأوراق أحسبها تحمل هُويّتي واسمي... 
أتراك تقبليني كما أنا بصورتي السوداء هذه، ذات الفجيعة السوداء؟ 
ألم أقل لك أني في الأحلام سأكون كابوسا أسودا... 
فدعكِ من الأحلام، فأنا لست فارسا ولا حتى أجيد ركوب الخيل.



بقلم: رشبد أمديون       /    النص منشور كذلك على مجلة المحلاج للقصة القصيرة.

سواسية


ولو أنه بُعث؛ سأخبره أنّ الحياة ذاقَ من شهدها الكثير. لكنّه لم يستطعمه، بل بصق بكل وقاحة في وجوه من كان يملك أمرهم.
سأجد فسحة أمارس فيها حرية الكلام دون أن أخشى يداً تمتد نحوي لتصفع رقبتي، أو ترميني خلف المدار... فقد انتهت مهمته لم يعد بيده الأمر والنهي، وإن بعث.

لو أنه من النعش نهض وعانق أذلّ شخص في قريتنا، بل وقبّل يده، أو رجله... ولمَ لا؟؟
فقد عاش يدوس ويدوس، فلماذا لا يُداس بقدمين موحلتين في يوم يكون أخر زمنه وعهده؟
ضحكت كالمجنون وأنا أنظر إلى أولئك الأشخاص ذوي الرفعة في الصفوف الأمامية، بدا عليهم التملق، والتظاهر بالحزن والأسى..
كدت أصرخ: (كذبٌ ونفاق، عشتم في حياته تراباً لرجليه، وبقيتم بعد رحيله كما أنتم...).
أدرت رأسي إلى الخلف، كانت هناك صفوف أخرى. رمقت وجوها ذابلة عليها غبرة المهانة، كأنها تصيح صامتة: (لقد قهرنا حياً... ويقهرنا ميتا).
- ترى، أصلاة المرغمين مقبولة؟
هكذا سألت.

لو بُعث سأخبره جهراً أنّ النعش يشكو منه، وقد فهمت شكواه وإن كان جنسه خشبياً. فلم تكن الجثة الضخمة المسجاة سهلة الحمل، وهو الذي أكل كل طيبات الأرض، بل وخبائثها.
- فلمن هذا الجسد المتخم، أيها النائم في العالم العلوي؟
ثم أُسِرّ له أنه سيحضر احتفاء الدود ورقصته حين يرى الوليمة وحجم جسدٍ مترهل...
فكرت وخططت أن أفعل، لو نهض.
لكن؛ بينما أنا أستوي في الصفّ، جاء النداءُ القاهر من الأمام، سمعته كل الأذان:
- (جنازة رجل).
فتلاشت كل هلوساتي بعد النداء...


رشيد أمديون
09/11/2012

رؤيا اليقظة


رؤيا اليقظة

لَم يكن مثلها يتقن الإدلاج والسّفر إلى القمر المُشع، ليأتي بالنّور، ليُضيء ما بينهُما من مَسافات بوحٍ هَادِر...
صَمتهُ يُقيّد جِماح حُبّه المُخضرّ في بَساتين الوِجدان، يُكفّر شَوقَه الهَائج بِشُعلة الخجل الماكثِ أمَامه زمناً من ولَهٍ مُملّ.
تَرَاهُ ذات يقظة مَاسكاً ذِراعَها وقد تحوّلا عن بُعدٍ إلى طيفين رَاق لهما العُروج، فتبسّمت من عِشق حطّ على مُحيّاها حَسبته طيراً أخضَر ففتحَت بالأشواق لهُ طريقاً حفّته الأزاهير.
عادت فمَدّت نظرات مرتعدة نحو السّماء تبحثُ عنه في زُرقتها، فصاحت بفزعٍ مُرعد كسحابةٍ في مخاض الإمطار:
- أين اختفيت؟ أين..
أحسّت بدفء يلمسُ كفّها.
- ما بك عزيزتي؟ أنا هنا لم أفارقك لحظة.
 15/02/2012

لحظة عناق

جاءَ من بَعيد يَركض مزهواً بمِيعادٍ أشرقَ أمامهُ كالشّمس.
قدمان صّغيرتان تتعرّجان ذات اليَمين وذات الشّمال، تتلعثم الخطوات... مازلت لم تُجِد بعدُ عمليّة الاستقرار التّام على الأرض.
ركض وركض مسابقاً فرحة ً كظلّه، وعلى تقاسيمِه الصّغيرة وَسْمُ البراءَة يخضرّ بالأمل.
من مكان قريب امتدّ إليه شُعورٌ كنداءٍ بطَعم الدّفء، انبعث من بين ذراعَين قد انفرجتا عن حُضنٍ حنون كمِدفأة متوقّدة في ليالٍ ذات سيّاطٍ من زمْهَرير...
ركض ناثراً ضحكاتٍ سَامقة، وكأنّه في التغريد عندليب. ابتلعَه الحضن بشهيّة الاشتيّاق الملتاعة فذابَ في صمتٍ ارتخت معهُ الأجفان بِقطْرٍ ساخن، وانغلقتِ الذراعانُ على جسده النّحيل، كجناحي حمامة ضمّت بيضها... ثم رفعتهُ إلى أعلى وانصرفا بعد مشهد عناقٍ محتدم.
25/02/2012

تذكير: سبق أن نشرتهما على مدونة لغة الضاد. 1 و 2 



يوم الثلاثاء


يوم الثلاثاء، لا تشبهه الأيام؛ شمسه ذهبية، رافقت صبحا نفض عن ردائه بقايا كسل ليل ثقيل. باسمة للحياة، ناشرة نورها من أفقها العالي.. 
في المنزل فرحة مشعة كنور شمس هذا اليوم. أثر بهجة على جدرانه، وعلى كل تفاصيله. حتى رصيف الباب مختلفٌ يوم الثلاثاء.
الفرحة لها مظاهرها تبرز في الحركة الغير عادية لصباح يوم الثلاثاء البهيج.
الأب لم يذهب إلى العمل هذا الصباح، ظل مستلقيا على فراشه إلى الساعة التاسعة.. لم توقظه إلا زوجته بإصرار، وهي تلح عليه بنداءات متكررة، تدعوه...
غمغم من تحت الغطاء قبل أن يجيب:
     - ألم أحضِر كل الحاجيات أمس..؟
     - قم.. مازلت بعض الأغراض تنقص!.
يقوم مطيعا، ينفد الأوامر الصادرة من ربة بيت تحب كل شيء متقن. لا مجال لديه ليناقشها، تلك معركة خاسرة، أكيد أنها خاسرة.
يحضر ما طُلب منه. يسلمه إلى زوجته التي وضعت له وجبة الفطور. يجلس على الأريكة، ثم يفتح جريدة ابتاعها أتناء خروجه إلى السوق، يتصفح ويقرأ.. أخبار يوم الثلاثاء!.
¤    ¤     ¤     ¤

الأم وابنتها كما العادة تعدان ما لذ وطاب، بل تبالغان اليوم في تحضير كل شيء، تسكنان عالمهما المطبخي، ومختبر تجارب الوصفات الغذائية المتنوعة التي تقصم بعناصرها (المكونة) ظهر الوالد بتكاليفها الباهظة.
سوسن زهرة الدار المدللة، شبت لا يُرفض لها طلب. في ربيعها الثامن عشر. حسناء، شهد الجمال منها يقطر عسلا. وحيدة والديها بعد شقيقها الأكبر. مهوسة كأمها بشؤون الطبخ، حلويات وكعكات، وأشياء أخرى تجعل كل من يدفع ثمنها هو رب الأسرة المسكين.
باكرا استيقظت اليوم، وبنشاط زائد ليس كعادتها، راحت منهمكة تعد الفطور قبل أن تستيقظ أمها، أرادت أن تثبت لها أنها اكتسبت المهارة الكافية، فكان يوم الثلاثاء خير يوم تحدِث فيه أمرا.
بجدٍ كانت تعمل قبل أن تعاودها دوخة خفيفة، لكنها هذه المرة أشد، كادت أن تُسْقطها أرضا لولا أنها اتكأت وأسندت جسمها الرخو إلى الجدار، سحبت كرسيا من جانبها فهوت عليه بكل ثقلها.. يدها اليمنى كانت تتحسس مكانا في جسدها، تلمس ببطءٍ بطنها الصغير، كمن تتفقد شيئا.. يتصاعد نفسها العميق محدثا زفرة حارة.. شاردة الفكر تذكرت ما قالته لأمها قبل أيام:
     - يوم الثلاثاء سيأتي مع أهله.. ليكلمكم!.
صوتها كان متهدجا حين قالتها، وحمرة على الوجنتين استقرت كأثر الغروب.. أترى كانت تخجل من أمها كما يخجل الليل من النهار حين يودعه؟
لم تستمد من الغروب حمرة الخجل وحدها بل إنها استعارت رداء الغروب بكل معانيه..
تذكرت جيدا ابتسامة أمها المبهمة المخيفة، ابتسامة رمقتها بلحظ عينها اليسرى.
     - عن ماذا سيكلمنا؟
لم تنتظر الأم من ابنتها جوابا، بل ردت وبثغرها ابتسامة مستقرة، منحت سوسن شيئا من الطمأنينة:
     - من هو؟.. متى تعرفت عليه؟.. أين وكيف؟..
ومساء ذاك اليوم أسرت لها بكل التفاصيل المملة.
¤    ¤    ¤    ¤

كان يوما ربيعيا مشمسا وجميلا.. سوسن في المكتبة تبحث عن كتاب.. استدارت بخفة، فاصطدمت (دون أن تنتبه) بشخص..
وقع منها الكتاب، وقع أرضا. كقلبها الرقيق وقع...
ابتسم الشخص واعتذر...
انسجمت النظرات.. وأخذهما الطريق معا، (ابتلعهما كالدوامة)...
حديثهما انسجم...
تقارب الزمن حاملا معه لقاءات بمتعة الشوق، تقارب الإحساس أكثر..!.
وسيم، فارع الطول، منسق العضلات، مغري الشعر، عذب الملامح.. هكذا كانت وبمتعة تصفه لصديقتها يوم سألتها باهتمام.
أمها تحذرها ليلتها، قائلة:
     - إياك أن تكوني...
     - لا، لا.. لم أخرج معه إلى مكان آخر، لم تتجاوز أقدامنا ساحة الثانوية..
أدارت وجهها عنها متظاهرة بالانشغال في تجهيز لباسها.. لا تملك النظرات أن تخفي الحقيقة وإن زيفتها الكلمات، هي ليست بارعة لحد أن توفّق بين ما ينطق به لسانها وما تخفيه عيونها العسلية الجميلة. ما وراء هاتين الحدقتين هو الحقيقة. أكيد أن أمها إن نظرت فيهما ستقرأ الشفرة، وتفهم المعنى. هي لم تنظر، هي تثق بزهرتها الجميلة. لطالما كانت تفتخر بها بين صديقاتها، وتعتز بخلقها الحسن وبثقتها في فلذة كبدها.. يحلو لها أن تقول أن أبنتها لا تشبه باقي فتيات هذا العصر.. "جمال وأخلاق ما شاء الله".
¤    ¤     ¤    ¤

متفوقة كانت في دراستها قبل أن تعرفه وتحبه.. وقبل أن يأخذها شراع الهوى ليمخر عباب بحر العاشقين. أو قبل أن يتحول فؤادها إلى درة تدور إلكتروناتها في فلك الشغف والصبابة. أخذها الشرود في دوامته فزج بها في التيه..
مر شهر على أول لقاء، صارت لا تستطيع أن يمر يوم دون أن لا تراه، كل يوم لابد أن تنعم أحداقها بنظرة إليه، وتتفرس في الوجوه إن غاب عنها لعلها تعثر على ملامحه صدفة بين المارين..
بدأت تخفي عن والدتها بعض تصرفاتها، ما لم تكن تفعله سابقا.. كانت تنطلق بعفوية وبطلاقة، ما كان لها أسرار تخشى عليها أن تشاع...
شيء ما تغير محدثا الشك بقوة...
بعد أيام معدودة تطور شكها إلى يقين، كان الأمر صدمة عنيفة هزت كيانها.
     - لابد أن تأتي لتطلبني من... لابد... أنت تحبني؟ أكيد؟!
كان يطيب قلبها بكلمات بذوق الشهد. يريحها ببعض البسمات، وتنصرف وفي قلبها جزء من راحة غير مكتملة، كمولود لم يكتمل خلقه.
بين نزر من الراحة وقوة الهواجس أحست سوسن بخوف وندم.
تمر أيام كأنها هاربة، حسبتها سوسن تركض بها نحو قدر مخيف. كانت تتحسس مكانا في جسدها فيزداد شعورها المخيف، فتواريه..
تتصل به باكية:
     - لابد أن تأتي.. لم أعد أستحمل، ليس عندي حل.
     - لا عليك، يوم الثلاثاء سآتي مع والداي. اطمئني!
قالها أخيرا فانبسطت روحها وتوهجت ملامحها.. كزهرة بلّلها قطر الندى..
عادت لمحياها النضارة التي كانت قد انطفأت من كثرة تفكيرها، بالرغم من محاولاتها في عدم إظهار وجومها.
¤    ¤     ¤    ¤

يوم الثلاثاء والدار ترفرف فيها البهجة. الساعة الواحدة بعد الظهر.
سوسن تتزين بعدما أعدت كل متطلبات الضيافة..
موعدهم الآن.. لقد تأخر.. لقد تأخروا..
الساعة في الحائط، تحدث صوتا غريبا يثير أعصاب سوسن، ويغرقها في قاع سحيق مرعب، ثم ينتشلها بقوة.
     - ماذا لو..؟ ماذا أفعل؟ الموت أكيد..
في نفسها حديث حارق لا يكاد يخمد لهبه.
يرن جرس الباب فتنتفض (في غرفة الجلوس)، تضطرب تحتار ما بين اليمين والشمال، تجهل الوجهة، تركض سريعا إلى غرفتها.
دخل شقيقها الأصغر محدثا ضجيجا في المنزل، يريد أن يأكل.
هوى قلبها كأنه سقط في مكان عميق جدا..
ليس هو.. حسبته...
لساعة الجدار كلام لا يفهمه إلا سوسن. حديث يوم الثلاثاء، والميعاد قد فات بكثير. والناس تتنقل الخبر بين المتحسر والشامت. من قال أن الأخبار تخفيها الحيطان؟
غدا تسمع سوسن نساء الحي يلكن حديث الثلاثاء..
تتفحص ساعة يدها لتتأكد من الوقت محدثة شهيقا قويا، ثم تتناول المحمول، تعبث بأزراره. المحمول على أذنها، منتظرة تقلب بصرها في الحجرة وما تحتويه من أثاث، يكاد كل شيء يأخذ لون السواد، حتى الضوء المنبعث من زجاج النافذة الشفاف لونه اليوم أسود. تسمع صوتا عبر الهاتف أعاد لها حقيقة قد تاهت منها، حين كانت ترخي أشرعة الحب مبحرة، فاتحة صدرها للهواء والهوى، مرسلة ذراعيها في الفضاء مانحة روحها فرصة التحليق دون قيود، مؤمنة أن الحياة متعة لا تقيد أبدا.
طرق الصوت أذنها من سماعة الهاتف:
     - (.. يتعذر الآن الاتصال بمخاطبكم، المرجو إعادة النداء لاحقا..)!.
                                           تمت.

بقلم: رشيد أمديون

لا شيء من أجلها


كانت هناك، بجانب الطريق، تمتحُ نضارتَها من طبيعة الريف الخلابة.  
في البكور. يمر بجانبها الأول. يتوقف هنيهة، فيلتفت حوله خلسة،. يمد يده، يقطف قطفة، ثم ينصرف... 
يمر الثاني على عجل... لم يتوقف!.. يرسل اليد بشكل معتاد.. قطفتان. 
يكرر الثالث فعل أسلافه. ثم الرابع والخامس... 

غرسها الحاج محمد في بستانه الصغير. قريبا من باب داره. كان مولعا بغرس شجيرات التين في زمن الشباب... تلك أيام مضت قبل أن يثقل كاهله بأعباء الدنيا وهمومها.
رعاها بعناية قلّ نظيرها. نمت وبرزت أفنانها. ثمارها إن أينعت، يسيل لها لعاب الناظرين.
تفرعت أغصانها وامتدت خارج البستان. قطوفها الدانية، قريبة للرائح والغادي.. تمتد إليها الأيادي...
يحلو للحاج محمد وقت العصر أن يستظل بظلها، يضطجع على جنبه الأيمن، مفترشا حصيرا منسوجا من الدوم، تآكلت أطرافه. عابثا بزر مذياعه الأثري، باحثا عن أغنية من الزمن الجميل. يضبط موجة الإرسال على صوت «عبد الوهاب الدكالي الشجي»، وأغنيته المغردة «كان يا مكان»...
أمامه تضع (لالة خذوج1)صينية فضية مستديرة عليها براد وكأسان. يتصاعد بخار يفوح بعطر الشاي المنعنع. يتحول الحاج محمد من وضع الاستلقاء إلى الجلوس. يربع رجليه. يجر إليه الصينية بعناية وهمة، ثم يرفع البراد بيمينه، مرسلا صبيب الشاي وسط الكأس.. يستمتع بصوت الشرشرة، كأنها تزف نكهة أفضل مشروباته على الإطلاق. تتصاعد رغوة تعلو مستوى الشاي داخل الكأس، تتخذ شكل حلقة بيضاء..
تسري النشوة في جسده، يفتعلها ذوق الشاي، حين يمتزج عطره بصفاء ونقاوة الهواء تحت ظل شجرته المفضلة. تكاد لا تحلو له المتعة إلا هناك. في بعض الأحيان يشاركه احد رفاقه من أبناء القرية متعة جلسته العتيقة، يلعبان «الدّاما 2»، أو يسترجعان أحيانا ذكريات الطفولة التي تبعثرت أثارها في أماكن متعددة من هذا الفضاء الريفي الساحر، حين كانا يخرجان لصيد الطيور بالمقلاع المطاطي...
ناول الكأس إلى زوجته وهو يقول لها، (وكأنها لا تعرف):
- هذه الشجرة غرستها قبل زواجنا... إيه.. أيام..!
تهز رأسها:
- نعم.. أعرف... سبعين مرة يا حاج وأنت تكرر هذا الكلام، أنا أعرف، ذلك..
زفرة تنبعث من جوفه، وهو يفرك لحيته المخضرمة بالشيب:
- لقد تعبت من أجلها يا (خذوج).. حتى صارت بهذا الجمال...
- تعبت من أجل من..؟
كاد يقول.. لولا حدة سؤالها المقصود. أكيد أنها تعلم جيدا إلى ماذا يشير. إحساس الأنثى دقيق، دقيق جدا.
ما أجاب. أخذته سكرة الصمت بين أجنحتها، وكأنها طارت به إلى الماضي، بعيدا إلى أيام الشباب.
السيدة خذوج أو (لالة خذوج) كما يناديها أهل الدوار، هي زوجته الثانية تصغره بخمسة عشر عاما. أنجب منها توأمين، ثم اكتفى.
كانت عائشة زوجته الأولى التي اعتبرها أول امرأة دقت باب فؤاده الهصور. حرمه الموت منها يوم الوضع، ماتت بحملها، فما خلفت له ما كان يتمناه في عنفوان شبابه. ظل أرملا لعدة سنوات، لم يتزوج بعدها إلا حين تجاوز سنه الأربعين، وغزت بعض شعيرات البياض صدغيه، فأضحى الخجل حليفه كلما أحرجه أصدقاؤه الجريئون، بعبارات النصح والتأنيب، التي ملها.
غرس شجرة التين بطلب من عائشة التي كانت تعتني دوما بها ولم تفتر يوما.. فورث حبها كما ورث سنة الاعتناء بما خلفت له من تركة. فقد شعر أن هذه الشجرة مسؤولة منه بعد رحيلها عن الحياة. سلب الموت خليلته. ظلت تراوده رغبة الحديث عنها إيماء أو إشارة مضمرة، كلما أتيحت له الفرصة تحت ظلال شجرته الوارفة...

كبر التوأمان. التحقا بالمستوى الإعدادي بعدما أتما دراستهما الابتدائية في مدرسة القرية. زادت أعباء الحياة على كاهل الحاج محمد، ورَبتْ همومه. ما كان يتصور يوما أنه سيفارق فضاءه الممتع إلا بعد أن يستوفي أيامه المقدرة عليه في الدنيا. ودّع طبيعة الريف الخلابة الهادئة متجها مع أسرته إلى مجتمع الصخب والضجيج، مكْرها كان. أصرت زوجته بعد إلحاح يذيب الحديد أن سكنهما في المدينة أفضل لهما بكثير، خاصة من أجل مستقبل أبنيهما.
خرج من جنته وأسرته. القرية ودعها بقلب واجف.
يأتي به الحنين والشوق إليها بين الحين والأخر، يحاول أن يعالج بستانه ويمنحه نفس العناية القديمة، لكن قوته لم تعد كما سابق عهده. من الذي لا يفتر؟ كل شيء يفتر. إلى شجرته العزيزة كان ينظر، بشفقة عينه تتفحص، وكأنه يرثي حاله فيها، حرم ظلها وثمارها الشهية، وجلسة العصر.. شرشرة الشاي المنعنع.. تغريد الزمن الجميل.. نسيم الريح المداعب لأنفاسه، حرم حتى متعة الذكرى بجوارها. كان يرى طيف زوجته الأولى حائما حول المكان، تطل عليه من بين أغصانها المورقة، يحمل وجهها علامة انزعاج، وانعدام رضا، عابسة يراها، كما كانت تصنع في حياتها إن انزعج من أمر ما. تندفع بداخله حسرة فيشعر بوخزها الشديد. مؤلم جدا! يدرك أنه مقصر لا محالة..
شعر أن الرياح تجري بما لا تشتهي سفنه، وأن الزمان يعانده. حتى تلك الثمار التي كان يأتي ليقطفها لم يعد يجد منها إلا النزر القليل. تأكد أنها لم تعد من نصيبه، أيادي خرساء تعبث بثمارها في فترة غيابه.
غاضبا ذات مرة. زوجته لم تره غاضبا كما ذاك اليوم. صرح لها: «ليتهم يستأذنون بدل السلب والسرقة».
تباعدت زياراته على مدار السنة حتى بدت موسميّة... في عطل الصيف، لا أقل ولا أكثر. ذهبت متعته مع الأيام، أخذتها كما تأخذ الريح الأشياء، وكما تبعدها عبر المدى. التاعَ فؤاده، استَحَال إلى جمرة متقدة. الإهمال صار حليف شجرته، خاصة بعد أن أعجزه المرض عن العودة إلى مرتع الشباب.
انقطعت أخباره.
بعد يد الحاج محمد الرحيمة من ذا يسقيها ويعتني بها كما السابق؟
قد مرّ عام جذب، لم تستحمل لفح القيظ والهجير، تساقطت أوراقها الخضراء بعد شحوب. ذهبت عنها نضارتها، تلاشت، فتحولت إلى جدع خاو فارغ من الحياة. هكذا الموت!.
مجالس الغيبة والنميمة لا تخلو من الحديث عنها. ألسنة النساء الثرثارة لا تلتمس الأعذار.. أكان رحيله إلى المدينة سبب هلاكها المشهود؟ استنكرن بشدة. حديثهن لا ينتهي ولن ينتهي..
رجال القرية، أشفق عليها بعضهم. الآخرون يمصمصون شفاههم بحسرة مفتعلة.. ومع أكواب الشاي الساخن ينصهر الكلام بينهم، يتحول إلى نمط ولون متشابه. اتفاق غير منطوق على فكرة واحدة: الأمر لا يعنينا! هو صاحبها، هو المسؤول!. مازال بينهم من يتلمظ ذوق تمارها الشهية.
شاحبة، كانت تحتضر. يتغير لونها وشكلها يوما بعد يوم، كأنها تستجدي الرحمة من أيادٍ أنكرت المعروف. لم تقل يوما لمن مد يده، لا. الجحود طبع بشري!. 
أتناء الاحتضار، تنكر لها أصحاب حركات القطفِ خُلْسَة. ما عادوا يلتفتون إليها كما كانوا. ما عاد شيء يُقطف. انطفأت جذوتها. انطفأت الحياة.
لا شيء فعلوه من أجلها.. غير ثرثرة من الموت لم تنجها...
تمت
بقلم: رشيد أمديون/ أبو حسام الدين
1- خذوج هو تلخيص لاسم خذيجة.
2- الداما: لعبة شعبية تُلعب على رقعة بها مربعات بيضاء وسوداء، تشبه الشطرنج


خبايا الليل


سكون الليل يحف المكان. عمود النور يرسل بعض ضوء خجول يكسر العتمة برفق وعلى استحياء. البيت الكبير الواسع يقبع في مكان منعزل عن باقي منازل الحي. رَكن إلى عزلة، يناجي الليل في خلوته...

في أسفل البيت مرآب واسع بباب حديدي عملاق، تعلو ظهره طبقة من الصدأ، مع بعض بقايا طلاء قديم أوشك أن يزول. أحدث الباب صريرا مزعجا وأنا أجر دفته العالية إلى الخارج. تقدمنا بخطوات واثقة تشق ظلمة المكان، شجعنا ضوء خافت منبعث من إحدى زوايا المرآب، يشير لنا ببصيصه المتعب إلى أن نتقدم نحوه بتؤدة. في الركن كان هناك حيز معزول بحائطين شكلا غرفة صغيرة. وجدنا محمد قد افترش أرض الغرفة الفارغة بحصيريين، وغرس شمعتين على مائدة صغيرة واطئة. الشمعتان تقاومان الظلام بإصرار حارق لحد الذوبان..

 على محمد ومن معه ألقينا التحية والسلام. ركن البعض منا ظهره إلى الحائط، وربع الآخرون أرجلهم في سكينة، متخذين شكل حلقة يتوسطنا نور الشمعتين. رفع خالد صوته الشجي مستعيذا بالله من الشيطان الرجيم، ثم تلا آيات الافتتاح.
كنت وأنا في غمرة الحديث المتشعب، أنظر إلى وجه محمد من خلف وهج نور الشمعتين. هو من أصر أن نتخذ هذا المرآب مكانا لاجتماعنا بدلا من ضجيج المقهى ونظرات الفضوليين المزعجة والتي لا تنقطع. لم يكن المرآب مؤهلا للقاءاتنا، وإن كان كما يقول محمد يوفر لنا السكينة وجوا هادئا لطرح الأفكار المختلفة ومناقشتها.

كل معلوماتي عن هذا المبنى شحيحة وخجولة، تكاد لا تفسر أمورا كثيرة التقطتها مسامعي من أحاديث تشبه الخرافة. علمت أنه بيت قديم، يعود لأحد أعمام صديقي محمد الذي يزوره على فترات متفرقة، بعد وفاة والدته.
سألت نفسي مرارا:
هل لليل خباياه، أم أن الوهم يفرض حضوره ؟
أذكر ذات ليلة في نفس هذا المكان، اخترق الباب الحديدي صوت صفير حاد، كسر صمت الليل.
تكرر الإزعاج للمرة الثانية في إحدى الليالي بشكل مختلف. ضربة قوية على الباب الحديدي للمرآب. كانت عنيفة تردد صداها وارتجت لها أذاننا. ألقينا نظرة في الخارج، لم نجد شيئا. كنا نعلم أن الوقت متأخر. أن الفضاء المجاور للبيت لا يخصصه الأطفال للهو، فهو في معزل.
بالرغم من كل هذا لم نعط لما حدث في الليالي السابقة أهمية كبيرة.
أن تفسر أمرا يعني أنك تعلم كل شيء.

أعلن الباب الحديدي بصريره المزعج أن أحدا ما قد دلف إلى المرآب. إيقاع خطوات تخترق سكون الليل بطقطقات يحدثها حذاء ذو كعب صلب ، يتردد الصدى بين الجدران، كان الجميع في لهفة مواجلة لمعرفة القادم.
كنت المتحدث. بدا على كلامي الاضطراب. فكرت في جنس هذا الذي يُقبل بخطواته الثقيلة نحونا، أوجست. حوّلت نظراتي من جديد إلى محمد وكأني أستفسره عن الأمر بصمت عاجز، لا أعلم هل فهم رسالتي أم أنه كان أكثر مني دهشة. خرس لساني لحظة، منتظرا القادم أن يقف أمام باب الحجرة الصغيرة، حتى نتبين شكله.
لقد اقترب.
تلاشى الصوت وسط السكون العميق. أصخت مرهفا السمع لعل الطقطقات تعود، والخطوات ترجع أدراجها، أو يظهر لنا صاحبها، أو يتجلى.
تلاشى الكل. نقطة وقوف، كنهاية المسير. انقطع الصوت بلا رجعة...
ترك في تختي السؤال وغادر. أكملت الحديث مسرعا. كانت على الوجوه ملامح الاستفسار لكن الجميع صمت.
انتهت الجلسة.
في الخارج سألت محمد:
- من تراه يكون؟
هز كتفيه باستغراب مبهم، أجاب:
- لا أعلم.

أبو حسام الدين

صمت عنيد


كل الأصوات اختلطت في أذنيه ببقايا صوت هدير الحافلة بعد أن توقفت. صراخ بائع البيض المسلوق... بائع السجائر... ماسح الأحذية... المتسولون بكلامهم المِلحاح... صياح من هنا وهناك:
- الرباط، الدار البيضاء... طنجة، تطوان..
يغادر مسرعا، هاربا من ضجيج المكان المتعب، وقد أشعره بدوار. شيء واحد ظل ملازما مخيلته، بل إنه صوت زاعق لا يملك القدرة على الانفكاك منه ولا الهرب مهما فعل. ضجة أحاديث زوجته العالية التي تشبه الصاعقة، تهز مخيلته التائهة في دروب هذه المدينة التي حلّ بها اليوم...
- أين أنت ذاهب يا رجل؟
سألته ويديها فوق خصرها.
قابلها بصمت عنيد. لم ينظر نحوها وهو يجمع أغراضه في حقيبته الصغيرة.
- سأرحل عنك يا وجه الغراب.
قالها في نفسه وغادر.

كان حر الظهيرة يلفح جبينه ومقدمة رأسه الأصلع، فما كاد يصل إلى سيارات الأجرة حتى تصبب وجهه عرقا.
اندس بجانب أحد الركاب دون أن يكلمه، أحس ببعض العيون ذات نظرات استنكار تتجه نحوه.
انطلقت السيارة المهترئة يتعالى أزيز محركها كلما داس السائق على مكبسها.
بدا على الرجل الذي بجواره أنه يريد الحديث، ويتحين الفرصة...
فتكلم عن أوضاع الفلاح ومشاكله، وقلة المحصول لقلة الأمطار، والماشية والعلف..
ظل ينصت له ويحرك رأسه إلى أن تعب فأدار وجهه عنه، وتجاهل ثرثرته، مستمتعا من خلال زجاج النافدة بحقول السنابل.
كان سائق السيارة ذو الشارب الكث في نشوة غامرة، يدندن على إيقاع أغنية شعبية، منبعثة من مسجل صوت قديم، متسخ..
- (اعطيني الفيزا والباصبور..)
تزداد سرعة المركبة تدريجيا على طريق تآكلت طبقة الإسفلت من حافتيه.
يد السائق تعبث بزر المسجل البائس. يعلو صوت الأغنية أكثر، كلما ارتفع ضجيج المحرك.
طلب منه أن يخفض صوت ذلك الشيء المزعج.. قالها آمرا.
قابل السائق طلبه بصمت عنيد، ودون اكتراث استرسل في دندناته:
- (من كازا لمارساي...)
كرر الطلب بغيض وفظاظة، ونكزه من الخلف بأصابعه الحادة.
بادره السائق بردة فعل عنيفة حين التفت إليه، فاستدار المقود. تعرجت السيارة وفقد السيطرة عليها لتحصد السنابل وسط الحقول على أنغام أغنية شعبية.

أبو حسام الدين

لقد عبر

ذات صباح تمخضه فجر يوم من أيام فصل ماطر، بدأت السماء تصفو وتكشف حجابها الساتر، فأطلت الشمس خجولة كوجه عروس، تحاول بما أوتيت من أشعتها أن ترش الدفء وتنشر على قتامة الحارة قبسا من نور.
على رأس شارع الحي جمهرة قادمة وهتاف وضجيج ، شباب على رؤوسهم قبعات بيضاء، حركات أيديهم توحي بشيء، كأنهم ينثرون الحَب ، فتتبعثر الأوراق البيضاء في الهواء قبل أن تسقط ليمتصها البلل على قارعة الشارع وتدعسها أقدام المارين..
كان يتوسطهم. يحوم حوله الجميع. شعره الكثيف المشتعل بالبياض ككومة ثلج ناصع، يرتدي بذلة سوداء مع ربطة عنق وقميص شديد البياض، حطت على هندامه الأناقة ، على الثغر ابتسامة عريضة لا تبرح مكانها منذ ولج بها حارتنا المنهوكة، تبدو صفراء اللون شاحبة... ترى كم ستزرع من التأويلات والاستفسارات في عقول أولئك الواقفين خلف نوافذهم يطاردون بعيونهم في خلسة الموكب الأغر بصمت مرير، يراقبون سيره عبر طريق حارتهم المتزين بالحفر و العائم في مياه الأمطار المحبوسة التي لم تجد لها مسربا.
نساء من فوق أسطح البيوت ترفع الحناجر: "صلاة والسلام على رسول.."، زغاريدهن تشق عنان السماء، تكاد ترج ما تبقى من الغيم هناك ليمطر.
سار الموكب في زهوه. ذو الشعر الأبيض يمشي الخيلاء، مظهره كالعائد بالنصر. يوزع التحيات ذات اليمين وذات الشمال، يسرف تارة في خطواته، ويقتصد حينا، يجعل لكل قدم على حدة مكانا سالما للهبوط. سرواله الأسود الأنيق لم يسلم من رشقات الوحل، لم يكترث ،"الهدف حين يكون كبيرا ليس من المنطق أن نهتم بالعراقيل الصغيرة"، حدثتني نفسي هكذا وأنا أراقب من قريب. تخيلت الرجل أنه مستعد أن ينزع حذاءه ويغوص بأقدمه في الوحل!، العبور ليس سهلا على طريق تقشفت حالته، نعم ليس سهلا.. ولكن "ما أسهله إن كان على ظهور المغفلين".
انتشلني من شرودي زعيق أحدهم، سحبني الصوت من نشوة المشهد...
       - "سّي محمد.. وَا سّي محمد... نْهَار كبير هذا!! "
التفت الجميع بفضول… تقدم "با عبد القادر" بخطوات واثقة يدهس بأقدامه الأرض غير عابئ حيث يجعلها... التمس له مكانا بجانب الرجل الأنيق بعد أن تدافع وسط الزحام. مد إليه كفه للمصافحة فسحبه "با عبد القادر" إلى حضنه... قبلة على الرأس الأبيض أعادت له الافتخار، ورفع هامته باعتزاز كمن حقق مجدا.
 "با عبد القادر" الذي " يطبل ويزمر" لصغير الأمور وكبيرها، يحشر أنفه في كل شيء... مؤهلاته: حنجرة قوية، وتملق شديد كمرض مزمن!، 
تجاوز الخمسين من العمر... عنيد جدا، متقلب لدرجة التناقض. شاهدته قبل يومين بعد أن صلى بنا الإمام العصر يصيح في أهل الحي، ويلقي خطبة عصماء، هز صوته الجَهْوَرِيّ حيطان المسجد: " لا، لن نظل كالألعوبة في يد كل من يأتينا منهم نحن لسنا قنطرة للعبور... بالله عليكم أن تنظروا لحيّكم الموبوء، حتى المسجد صرتم تأتونه قفزا. وا فيقوا أعباد الله".
      - "كلامك - با عبد القادر- أحدث خرما في آذاننا، ونفخت بثرثرتك رؤوسنا"
هكذا أسرّ الشباب إلى بعضهم، وكتموا ضحكهم حتى لا ينكشف أمرهم.
لا يسلم من تهكمهم ومن السخرية والغمز واللمز بسبب تصرفاته المتهورة التي تبدو دائما صبيانية، ينعتونه ب"رجل المواقف الانتهازية" يعتبرونه من مخلفات سنين الجهل والتخلف.
كل شيء حوله تغير، وحده بقي وفيا لطبعه العتيق. كبرت أجسادنا وعقولنا، وظل هو بعقله يصغر ويصغر..
عدّل على رأسه طاقيته المزركشة، ونفث دخان سيجارته الحقيرة ذات الرائحة النتنة "كازا" ثم همس في أذن الرجل صاحب الشعر الأبيض، يشير له في اتجاه بيته بكف مد منها السبابة والوسطى وسيجارته الرخيصة.
رفع صوته كما العادة:
       - "عليّ بالِيْمِينْ حتى تدخل... وَاخّا غير كَاسْ أتاي وسِيرْ.(1)
انحرف الرجل يمينا، ملبيا الدعوة بعد أن تحطمت كل المبررات أمام صلابة وقوة عناد "با عبد القادر"، فتقدم بخطوات لاهثة سرعان ما توقف سيره. ظل عاجزا عن التقدم. سنه لا يسعفه ليمارس رياضة القفز الطويل. هرول "با عبد القادر" كالمنفذ، نط وسط الوحل فرّج بين رجليه، بَسَط ذراعه في الهواء، أشار إلى قدمه اليمنى:
      -"يالله أسِّي محمد احَطّ رجلك هْنَا، أوْ على هذيك الحجرة" (2)
      - زٍيد اقْفـــزْ بشوية عليك.. (3)
واحد...اثنان... ثلاثة.
لقد عبر.
أبو حسام الدين
25/03/2012

1- عليّ باليمين (قسم)... ولو كأسا من الشاي فقط، وبعدها اذهب.
2- هيا سيدي محمد ضع رجلك هنا، وعلى ذلك الحجر.
3- تقدم، اقفز على مهلك..

عجوز القرية


تستيقظ القرية كما المألوف على ضجيجها، تتناقل مجالس النساء حديث ليلها ويرتعب البعض وتنال من الآخرين الدهشة.
هي لا تنام ، هي بالليل سامرة، ولا يغمض لها جفن في جحرها الواسع.
 تعود منها الناس عند اقتراب خطوات المساء أن تجمع الأحجار في شِوال، متتحسسة الأرض بكفين تعربان عن سن الشيخوخة، لا فرق عندها بين النهار والليل، فالظلمة في عينيها رغم شمس النهار، فقد انطفأ نور حبيبتيها..

تتناول الحجر وتتوعد أسماءً محددة يعرفها أهل القرية:
لن تسلموا الليلة من رجمي، عليكم اللعنة.
تقول النساء عندما تبلغ العبارة آذانهن: حفظنا الله منهم، أولئك الذين ننزه ألسنتا عن ذكرهم..
تقف وسط القرية تدعو عليهم رافعة كفيها إلى السماء…
وأنفاسها لا تنقطع هي لا تفتر.. تلك عادتها، آلفها الصغير والكبير.
يحل الظلام فيطوي السكون كل أرجاء القرية، زاوية فقط لا تنام ، يعلو منها صراخ ، وحجارة من سطح بيت هرم تحلق يمينا ويسارا مضطربة الوجهة.. أسماء منطوقة على لسان شاخ وصار لصوته رعدة، هي ترى شيئا، بل أشياءً..!
إنها ترى ما لا يرون..!
يختبئ الناس في بيوتهم يكتفون بالإنصات للهجها المفزع. قد حضر زوارها الذين لها يظهرون، ولموعدهم المظلم لا يخلفون، يتمثلون لها صورا، هذا فلان وذاك فلان، تلعن وتسب، ترجم وتتوعد..
ليل طويل ولا فتور..
كل الناس تنفطر قلوبهم، يحملون يقينا أن ما بها ليس جنونا، وما استطاع أحد أن يشق ظلمة الليل وصولا إلى بيتها...
ليس من السهل اقتحام الرعب ذلك هو الجنون بعينه.
في يوم انقطع صراخها…
دهشة أخذت أهل القرية، زارها في جحرها كل الناس حتى من لم يفعل وهي حية، راجيا أن يعرف سبب صمتها.
دفنت العجوز في قبرٍ مع سرها.. وما تركت لأهل القرية غير صمت وبيت قديم، ووهم تلوكه ألسنتهم.

01-02-2012
أبو حسام الدين

تحت ظل شجرة الخرّوب


  
  يذكرها جيدا؛ كيف له أن ينسى جدعها العريض، أغصانها ذات الأوراق الكثيفة، قطوفها الدانية ولكنها ممنوعة.. حتى حركة التسلق لم تُمسح من ذاكرته. لم يكن يفهم وهو في عمر البرعم أن الشجرة رغم عطائها وانتاجها الوافر فهي في سن الشيخوخة، كعجوز تتوسط القرية. ذاكرته تحتفظ بكل أنواع الأنشطة التي مارسها تحت ظلها، ومجلس رجال القرية وهم يتجاذبون أطراف الحديث، يقتلون الوقت بسهام الكسل فيعاندهم بخطوات بطيئة... مضى الزمان. قال لنفسه: ليتني أسترجع  ذلك الوقت المقتول الذي سحقوا هامته بإصرارهم في الجلوس ساعات طويلة  يمارسون حشو الرؤس بأخبار الناس والأحوال والقرية.. 
تذكر ما كان يقول له أهله: إياك أن تأكل من ثمار الشجرة فهي وقف على المسجد! لا يفهم كثيرا مما يقولون! لكنه يدرك  أن للشجرة قداسة  مادام الأمر يتعلق بالمسجد، يكفيه هذا التفسير يجده مقنعا.. لا يهمه ما معنى الوَقْف، كل ما يصوره خياله أن الأكل منها محرم، يمسخ الله من خالف هذا الأمر، أو تتبعهُ اللعنة، أو يُطرد من جنةِ أدميتهِ إلى عَناء الحيوانية أو إلى شقاء الجماد، مثل أدم عليه السلام حين أغواه الشيطان فأُخرِج من جنته.. أو كما كان يُقال لنا أن من أفطر رمضان متعمدا سيمسخه الله حيوانا أو حجرا أو شجرا... إنه الخيال حين تتفتق بذرته في عقول صغيرة تجد تربتها خصبة قابلة لزرع أي تفسير.. كان يتصور أن مجرد التسلق جرم لا يُغتفر. كثيرا ما رأى أقرانه الأشقياء بتحد يخالفون قانون القرية يأكلون ثمرة الخرُّوب البنية ذات الطعم الحلو، كم طعمه مغري، لكن ليس من حقه. ينهرهم أن ينزلوا متوعدا إياهم بخسران العاقبة. 
وقف عن كتَب يتأمل إصرار الشجرة في الحياة، قوة التحدي تظهر من جدعها العريض، اقترب أكثر جلس تحت ظلها كما كان يفعل رجال القرية في عهد أغمض جفنيه وولى، حاول أن يقلد بعضا من تلك الحركات التي صورتها له ذاكرته، تنهد.. سمع صوتا من أعماق المكان: أين هم من جلسوا مجلسك هذا؟ 
انتفض مذعورا واعتدل في جلسته. علم أن الزمن هو من أفناهم وليسوا هم من قتلوه بكسلهم، علم أن منهم من أمضى ساعاته يتفيأ الظلال يدخن السجائر ويستمتع بنشوة الدخان وهو لا يدري أنه يمضي رغم جلوسه. الحركة لا تنعدم رغم السكون، فالليل ساكن لكنه يمضي...ما سر تجاهلنا؟ إنها الغفلة. قال في نفسه: أعلم أني حين أغفو لا أشعر بمحيطي ولا بعالمي، قد تمر الساعة في كل ميدان وإن توقفتُ عن الحركة. درست أن التاريخ حركة مستمرة.. يعني لا ينتظر أحدا ولا يتملق لأحدٍ. من جدّ وجد ومن نام لزم الأحلام. في الفترة التي كان  العرب فيها ينعمون بجلهم وتخلفهم كان الغرب يبني أمجاده بالعلم بعدما كانت أوروبا تتخبط في ظلمات الجهل، وأي علم أقصد؟ هو نفسه الذي تركه المسلمون وغفلوا عنه وولوا وجوههم قِبل العداوات والصراعات السياسية، وحشو الرؤس بالخزعبلات حتى حسبها البعض دينا.. الآن علمت لماذا عُبدَ « ود ، وسواع ، و يغوث ، ويعوق ، ونسرا »  ولماذا عُبد الحكيم الهندي بوذا.. الجهل والتخلف يتطوران كما يتطور الفكر والعلم كلاهما قابل للحركة والتغير لكن الأول للأسفل والثاني للأعلى.  ما أصعب اليقظة التي تكون كالصفعة، أو دعني أقول أنها الصفعة بعينها، ومهما كانت قوتها فلن تكون مثل صفعة العالم العربي حين أفاق ووجد أوحال التخلف حوله. 
أنصت لصوت نفسه يقول: دعني الآن من كل هذا، ما شأني أنا بالعالم العربي؟ أنا هنا أسترجع ذكرياتي، فما العامل المشترك بين هذا وذاك؟ ستقول لي الزمن وحركة التاريخ. ربما! 
حينها تفقد ببصره المكان، رق لحن قلبه، آتاه الهاجس مرة أخرى.. هذا المكان ضم بالأمس رجالا مضى أغلبهم إلى الثرى ومن بقي على قيد الحياة فقد شاخ وهرم، والأطفال صاروا رجالا ولم يمسخ الله منهم أحدا، لم يمسسهم سوء برغم الشقاوة والعناد، ومضى كل إلى غايته. الشجرة مازالت تُتمر وتنشر ظلها، تفرشه بسخاء، لكن لا شيء تحتها إلا مقاعد من أحجار مرمية، وفارغا، ومجالسا منسية.


لحد كتابتي هذه الكلمات مازالت الشجرة تتمر.. وتستمر حركة الحياة.. 

                                                                                                                                       22--05--2011
أبو حسام الدين

Join me on Facebook Follow me on Twitter Email me Email me Email me Email me

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | تعريب وتطوير : قوالب بلوجر معربة