الوصف

تحقيق البطولة في " يوميات معلم في الأرياف" للسعيد الدريوش




تقديم

تعد كتابة اليوميات مغامرة، لأن نسج محكي ذاتي في نص يعتمد على السرد لتقديم الذات يحتاج إلى الشجاعة لتقول الذات أشياءها وتتعرى لتكشف عن بعض الخصوصيات. ولو اعتمدنا منطق الجاحظ أن القارئ عدو الكاتب: "و ينبغي لمن كتب كتابا أن لا يكتبه إلا على أن الناس كلهم له أعداء"، فإن الأمر يصير محل ريبة، فيما يعني أن الكاتب يرتاب من القارئ قبل أن يغامر بصياغة يومياته ويبوح بأسراره، لأن الكلام والكتابة، كما يقول كيليطو، مرتبطان بانزعاج قد يبلغ حد الخوف والذعر.

بيد أني أعتقد أن وعي الكاتب بقيمة ما يقدم هو الدافع الأقوى إلى نشر اليوميات، حتى لو افترضنا أنه فكر أول الأمر أن يدونها ويحتفظ بها لنفسه، فإنه ولاشك في مرحلة ما سيخرجها بدافع كشف الذات التي تريد أن تعبر عن عالم عاشته وعن تجربة تستحق أن يطلع عليها الآخرون. إن الذات ترى دائما أنها لم توضع في مكانها الذي تستحقه أو في وضع لا يتلاءم مع تصوراتها، لهذا تكتب محكيا يفضح ويعري أشياء كثيرة تساهم فيها أوضاع اجتماعية وسياسية واقتصادية، فينحى المحكي منحا تمثيليا للوقائع والمواقف دون أن يخرج عن سياق الوضع العام للحقبة أو للزمن الذي يكتب عنه أو فيه الكاتب يومياته.

من هذا المنطلق تتناول هذه القراءة "يوميات معلم في الأرياف" ، للسعيد الدريوش، وقد صدر هذا الكتاب عام 2017 عن المطبعة السريعة بالقنيطرة. ويقدم (في 112 صفحة) صورة واضحة ونموذجا لواقع رجل تعليم عين بإحدى الفرعيات بمنطقة جبلية بالشمال (معروفة بزراعة الكيف). اصطدم الشاب بعالم منعزل أشعره بوجوده في سجن كبير، يقول: "تأملت المكان، وأيقنت أني غريب في وطني، سحين في حريتي، مدرسة بواد غير ذي زرع ولا ضرع، تطل على مقبرة نسجت قبورها صدرا يريد أن يحضنني، الدوار هناك على بعد كيلومترين من المدرسة، أنا والأموات فقط هنا، تركني وطني وحيدا مع الأشباح" (ص7) . إن الصدمة التي تلقاه كانت أكبر من تصوره، لأن المكان، حيث توجد الفرعية التي سيدرِّس فيها، لا يوحي إليه إلا بالموت، فإما أن يحيي الموات بالتعليم أو أن يستسلم للموت (اليأس). ويتجلى في هذا، صراع من أجل تحقيق البقاء والبطولة، وهو ما يحتاج إلى فاعل.

1. الفاعل والبطولة

نلاحظ- بداية- أن هذه اليوميات تتقاطع على مستوى العنوان مع رواية توفيق الحكيم" يوميات نائب في الأرياف"، ورغم اختلاف الجنسيين الأدبيين، إلا أن المشترك هو التجربة الذاتية والإنسانية، فكما أن تجربة توفيق الحكيم كانت تجربة (فاعل) في وسط ريفي بمصر حيث مثَّل السلطة، فإن السعيد الدريوش في يومياته بوسط مغربي جبلي يخوض صراعا مع الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.. وهو صراع لأجل النجاة من واقع هزيل يقاوم فيه قسوة الطبيعة (برد قارس، أمطار، جبال عازلة..) وقسوة ووحشية الإنسان والحيوان والحشرات.. وسلطة المدير الذي ينعته بملتهم المطعم المدرسي والذي كان سببا في تأخر ترقيته.. يقول عن المكان : " يوم واحد في الفرعية كألف سنة مما تعدون". إن خوض الصراع من أجل النجاة يتجلى في تحقيق بطولة تخلع عنه صفة المفعول، ويقاوم كي يكون فاعلا (معلما). وإذا كان توفيق الحكيم في روايته نائبا يمثل دورا وظيفيا مؤثرا، فكذلك الكاتب السعيد الدريوش، هو معلم يؤدي واجبه في ظروف غير مناسبة لا يد له فيها. وأدى به ذلك إلى تجاوز دور المعلم إلى أدوار أخرى، كدور الفقيه، ثم مجتهد في المذهب (كما يقول) إلى درجة المجتهد المطلق، يقول: "من غرائب ما أنتجت جواز صلاة التراويح خلف المذياع لأن إمام المسجد كان يزرع الحشيش ويجمع محصوله وراء المحراب، لهذا تختلط عليه الآيات.." (ص20). وتجاوز دور المعلم أيضا إلى أدوار أخرى تمكنه من أن يبقى على قيد الحياة وأن يلبي متطلباته الضرورية، يقول: "فبالإضافة إلى ضبط التخصص التربوي والبيداغوجيا والديداكتيك، يتحتم على المعلم في الأدغال والبراري أن يكون ماهرا ومتخصصا في ركوب الدواب، وحلب البقر والماعز، وسقي الماء من العيون والآبار" (ص48). ولكي يكون فاعلا أيضا فهو تجاوز دوره الوظيفي للأدوار أخرى حرفية وغيرها، يقول: " لكي تكون معلما ناجحا في الأدغال وفي جزر القنب الهندي والحشيش الطازج اللذيذ، ينبغي أن تكون ماهرا في كل شيء، موسوعيا باهرا، وحرفيا متخصصا في شتى أنواع الفنون. عليك أن تكون نجارا لإصلاح الطاولات والسبورة، وبناء لترميم ثقوب القسم وشقوقه والحفر الضخمة المنتشرة كالفطر داخل السكنيات المدرسية، وفقيها مقاصديا تؤم المصلين الذين لا يتعدون الأربعة في مسجد الدوار (..) وعليك أيضا أن تكون جزارا صلبا تنحر الدجاج والماعز والغنم وبيبي حبيبي لكل امرأة تأتي إلى المدرسة، حتى أصبح القسم الآيل للسقوط، والذي لم ترد النيابة ترميمه رغم العديد من المراسلات والشكايات التي توصلت بها من المعلمين السابقين والحاليين، الأموات والأحياء، مكانا جيدا للذبح السري"(ص42). ويحاول الكاتب هنا السخرية من الوضع، ويعتبر المسؤولين و السياسيين هم السبب فيه. ففي موضع آخر يقول: " أليس في المسؤولين رجل رشيد؟ "(ص47). وحيث أن المعلم في عزلته بمكان الفرعية (التي أسماها فرعيانتامو على وزن غوانتانامو) مكلف بتدريس قسم مشترك فيه مستويات مختلفة : الثالث والرابع والخامس والسادس، ويدرس المادتين معا العربية والفرنسية، فإن هذا الوضع المزري أنتج لديه استياء من الواقع والظروف، مما أجبره على إعادة النظر في التكوين الذي تلقاه في مركز المعلمين، لأن إنزال ما تعلمه على وسط طاله الإقصاء والتهميش يعد هراء، يقول مثلا: " وبدأنا نتساءل عن مغزى التنشيط قرب الحمار زعيريط الذي لا يحلو لصاحبه احميدو اعتقاله إلا في ساحة المدرسة، قائلا: أستاذ سعيد، راقب هذا الحمار جزاك الله خيرا، واحذر أن يغادر ساحة المدرسة" (ص25).

إن الكاتب في كثير من يومياته لا يكتفي بسرد ما وقع له بل ينقل إلينا أيضا تداعياته النفسية وما كان يفكر فيه هو وزملاؤه، ومن خلال ذلك يستطيع القارئ أن يستشعر نفسية الكاتب ومواقفه الواضحة بل يعبر عنها بأسلوب ساخر، لهذا نقرأ أنه إضافة إلى رأيه في صعوبة إنزال ما تعلمه، خلال التكوين بالمركز، على الواقع ينتقد أيضا سياسة الوزارة التي تلزم المعلم بارتداء وزرة بيضاء في ظروف غير مؤهلة لممارسة التدريس: "بدأنا نتساءل عن الوزرة البيضاء التي أمرنا بارتدائها في غياب المراحيض، حتى إذا بلغت الحلقوم فإنك تهرول كالمهر بوزرتك صوب أقرب شجرة (...) بدأنا نشعر بمهزلة الوثائق التربوية البعيدة كل البعد عن واقع يفتقر إلى كل شيء، فكرنا أيضا في سيارات النقل السري والشاحنات التي تقل المعلمين إلى فرعياتهم عوض سيارات تحفظ كرامتهم وتقدر رسالتهم الملائكية"(ص25).

يعتبر الكاتب التفكير حقا مشروعا، فمن حقه أن يفكر في أوضاعه، ليؤكد وجوده، وليظل محافظا على وعيه، خاصة في تلك الظروف التي يسهل فيها الانجراف نحو مطب الإدمان (لوفرة سبل الحصول على الحشيش) حتى يفقد عقله، فقد قال عن بعض المعلمين: "ومنهم من طار له العصفور في جزر الواقواق من فرط تدخينه للماريخوانا والشقوفة" (ص57)، إذن هو يحتمي بالتفكير كعلامة على الوجود، "نحن نفكر إذن نحن موجوجون"(ص25).

إن تحقيق البطولة هو ما ساق السعيد الدريوش إلى التفكير والتعقل وعدم الاستسلام رغم كل الظروف السيئة، وحاول أن يؤدي دوره، إلا أنه تجاوز دور المعلم إلى أدوار أخرى حتى لا يقع في موضع من مواضع الإعراب مفعولا به، لهذا نجده مطالبا من طرف السلطة بالإشراف على عملية الاقتراع الانتخابي بالدوار، ولم يرفض، لإيمانه بواجب صنع التغيير في المجتمع بأبسط ما لديه من وسائل وإمكانيات. ورغم صعوبة المسؤولية، خاصة في واقع مشحون بالعنف، إلا أنه حاول أن تمر العملية الانتخابية في ظروف نزيهة كاد أن يكون ضحية لما يعقبها من معارك عنيفة بين أنصار المرشحين.

ثم إن تحقيق البطولة والانتصار على الواقع هو ما دفعه إلى التفكير في متابعة دراسته الجامعية ومداعبة القرطاس والقلم (كما يقول بدل) " الكارطا والبارشي والدكوك" فما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا. ويعد ذلك شكلا من أشكال التمسك بحبل النجاة لتحقق الذات مطالبها المشروعة. وبعد اثنتي عشرة سنة غادر الفرعية إلى وزان ليدرس بإحدى ثانوياتها بعد نجاحه في مباراة تغيير الإطار. لقد عبر الكاتب بإحساس بليغ عن لحظات وداعه للفرعية؛ احساس رغم ما يضمره من سعادة بتحسين وضعيته المهنية فيه أيضا حسرة وحنين لأن الإنسان، مهما كانت الظروف التي يعيش فيها، يكوّن علاقات وروابط مع المحيط حوله، فهو لم ينتقل إلا بعد أن ترك بعضا منه بتلك الأرض، زهرة شبابه التي " امتص نحل الحرية رحيقها وعبق مسكها" (ص106). والأرض أيضا تصير جزءا من الإنسان حين يشرب من مائها ويأكل من خبزها، ويخالط إنسها وجنها وحيواناتها وحشراتها، لهذا يقول: "اثنتا عشرة سنة من استنشاق رائحة الأرض المبللة بأولى قطرات المطر المتكاسلة، سنين عجاف من ملامسة خبز خشن، ببقايا الرماد المتناثر على جنباته كعيون تخفي أسرارا لن تبوح بها إلا في الوقت المناسب، كنت كسمكة تتلوى خارج بركة ماء، أو فرس جامح استعصى عن الترويض" (ص106). إن المكان هنا صار جزءا منه، لهذا كان الفراق شديدا بطعم الحنين، يقول: " الأماكن تحن لمن يعمرها ويغمرها بحنان ولطف"(ص106). وهذا يؤكد أن الكاتب كان فاعلا لا مفعولا به، لأن من يترك الأثر الطيب هو من يستحق أن يحن إليه المكان، وتجلى ذلك في تأثر التلاميذ والناس حال وداعه، ليقول له أحد تلاميذه: " أستاذ صافي سخيتي بينا". كما تجلى في وداع أهل القرية له بجدي أقرن سمين، كعربون محبة وتقدير وتكريم.

خرج الكاتب من صراع قوى مختلفة منتصرا على الواقع والظروف ومنتصرا على الطبيعة والحيوان والإنسان.. وبقدر ما أعطى أخذ، لكنه عطاء وأخذ غير متكافئ، فمن ناحيته كان فاعلا فأعطى لأولئك الأطفال نصيبا من العلم فأعطوه خبزا حافيا، بنكهة آهات البؤساء. إنها رؤية إنسانية لرجل تعليم شارك تلاميذه في حياتهم القاسية وفي ظروفهم الطبيعية والاجتماعية البئيسة وسط عالم أريد له الإقصاء والتهميش، فساقه القدر ليقتسم مع أولئك الأطفال الألم والشجن، فعلمهم أبجديات اللغة وعلموه أبجديات الحياة.

خاتمة 

 "يوميات معلم في الأرياف" كتبت بلغة جميلة سلسة تنزع نحو السهولة للبيان، وتستثمر فن السرد الرشيق لتكشف عن محكي ذاتي طرح قضايا عديدة تخص المعلم والتعليم عموما في مناطق هامشية لم تنفك عنها العزلة، بعيدا عن أي أثر للحضارة. وطرح عبرها الكاتب السعيد الدريوش قضايا تخص كل ما هو اجتماعي واقتصادي وسياسي وأخلاقي وإنساني... يوميات نقلت إلى القارئ حياة ومشاعر المهمشين وبعض تفاصيل عالمهم، وعبرت خوف واضطراب الإنسان في عالم مجهول يصارع فيه قوى الطبيعة والحياة والقرارات، ويقاوم فيه مخاطر الموت والأمية والجهل كي يحقق بطولته.

رشيد أمديون

«مسرح توفيق الحكيم» للناقد المصري محمد مندور

 #2021_القراءة

 «مسرح توفيق الحكيم» للناقد المصري محمد مندور. 180 صفحة.
يتناول هذا الكتاب علاقة الأديب توفيق الحكيم بالمسرح، وارتباطه الوثيق بهذا الفن وما عالجه من خلاله من قضايا فكرية واجتماعية وقضايا الحياة، حيث قسم الناقد مسرح توفيق الحكيم إلى ثلاث اتجاهات: مسرح الحياة، والمسرح الذهني (أو ما أسماه التجريدي)، والمسرح الهادف. فعالج محمد مندور كل مسرح على حدة اعتبارا لما يستمده من موضوعات وما يقدمه ويكشفه للمتلقي وما يحيط به من سياقات ظهوره. كما ذهب إلى أن هذا التنوع في مسرح توفيق الحكيم له ارتباط بما عرفه مساره من تطور خاصة وأنه من الذين كانوا يؤمنون بنظرية "المسرحية للقراءة"، وتحول عن هذه الفكرة تدريجيا منذ سنة 1949، حيث أن المسرحيات التي كتبها بعد هذا التاريخ مثل "إيزيس" و"الأيدي الناعمة" و"الصفقة" و"رحلة الغد" و"أشواك السلام" حاول فيها كلها أن يجمع بين الفكرة والحركة الدرامية، بل وتطور معنى الفكرة نفسه عنده فلم يعد هدفه من الفكرة مجرد تجسيم إحدى حقائق الحياة التي يؤمن بها، بل أصبح معناه أن تصلح تلك الفكرة أيضا لقيادة المجتمع أو لتوجيهه وحث خطاه على طريق معين مما يصح معه أن نقول بأن الحكيم قد تطور مفهومه للفن المسرحي بين تلك الاتجاهات (مسرح الحياة، المسرح الذهني، والمسرح الهادف).
وهذا التطور يعود بالأساس إلى قدرته على التكيف مع المراحل الزمنية والأحداث، فهو يردد في أدبه مفاهيم الحياة، الثورية الجديدة، ويؤيد المفاهيم بل ويوجه نحوها. وتجلى ذلك في مسرحياته "الأيدي الناعمة" و"الصفقة" و"أشواك السلام" والتي يعتبرها الناقد من خير ما كتبه الحكيم من مسرحيات، من ناحية مضمونها الإنساني الصاعد الذي يواكب ركب الإنسانية المتطورة دائما إلى الأمام.
كما أن محمد مندور ركز في هذا الكتاب على ما عكسه إنتاج توفيق الحكيم المسرحي كمشكلة المرأة وعلاقتها بالرجل والتي ابتدأ توفيق الحكيم الحديث عنها بروح عدائية شرسة صاخبة ضد المرأة في عدد من مسرحياته الأولى مثل "المرأة الجديدة" و"نائبة النساء" و"جنة الأزواج" و"جمعية النساء"، ثم انتقل من مرحلة العداوة للمرأة مع تقدمه في السن إلى مرحلة التشكيك والحيرة وما سماه بالصراع بين الفن والحياة أي بين الفن والمرأة، وحسم هذا الصراع في مسرحية رمزية (ذهنية) من مسرحياته وهي مسرحية "بيجماليون" التي وظف فيها الأسطورة. وإن كان عاد إلى نفس المشكلة بعد زواجه عام 1946، حيث جاءت مسرحيتيه "يا طالع الشجرة" و"مصير الصرصار" تعالجان نفس المشكلة (علاقة الرجل بالمرأة).
هذا الكتاب الذي يجمع فيه محمد مندور بين التحليل لمسرح توفيق الحكيم ونقد بعض إنتاجه المسرحي من الناحية الأدبية والفنية والدرامية يجعل القارئ يحيط معرفة بالتركة الأدبية المسرحية للأديب الراحل توفيق الحكيم وما كان يحيط بسياقات إنتاج النصوص المسرحية لتوفيق الحكيم، وظروف المسرح عامة في مراحل حياة هذا الأديب الذي وظف التراث الأسطوري والديني في إبلاغ أفكاره ورؤيته للحياة والمجتمع والمعاني المجردة (كالفن والحياة، والمعرفة، والقدرة، والحكمة، والحقيقة والواقع..).

رشيد أمديون
 18 مارس 2021

الرواية ملحمة بورجوازية

 


كتاب «الرواية كملحمة بورجوازية» لجورج لوكاتش، ترجمة جورج طرابيشي، عن دار الطليعة للطباعة والنشر ببيروت، إصدار عام 1979.
هذا الكتاب المتوسط الحجم، من 94 صفحة، يطرح بعض ما صاغه لوكاتش (1885-1971) من مفاهيمه الأساسية في مضمار النظرية الروائية.
ينطلق جورج لوكاتش من تعريف هيجل للرواية بأنها ملحمة بورجوازية، ثم يقول بعملية تحقيب لها، بتحديد المراحل الأساسية لتطورها شكلا ومضمونا بالتوازي والتضامن مع المراحل الأساسية لتطور البورجوازية. فالرواية هي في تعريفه، النوع الأدبي النموذجي للمجتمع البورجوازي؛ بولادة هذا المجتمع رأت النور، ومع تطوره تطورت، حيث أن السمات النموذجية للرواية لم تبرز إلى حيز الوجود إلا بعد أن صارت الرواية الشكل التعبيري للمجتمع البورجوازي، وقد صورت الرواية تناقضات المجتمع البورجوازي. وبزواله وبقيام المجتمع الاشتراكي عادت إلى منابعها البطولية الأولى، من خلال تصوير العالم الروائي البروليتاري، وهو عالم الإنسان في صراعه البطولي ضد القيم الطبقية الإقطاعية والرأسمالية، فبرز البطل الإيجابي في الرواية، وبهذا استعادت أبعادها الملحمية مع كبرى الإنجازات الروائية للواقعية الاشتراكية: (الأم) لمكسيم غوركي، و(الدون الهادئ) لشولوخوف.
ويذهب لوكاتش إلى أن الرواية ذلك النوع الملحمي الكبير، ذلك التصوير الحكائي للكلية الاجتماعية، وهي القطب المقابل للملحمة العصور القديمة ونقيضها الجذري.
ويتضح في الكتاب منظور لوكاتش للرواية، والذي يتداخل فيه الفكرين الهيجلي والماركسي، هذا المنظور الذي أنتج فكرا اهتم بشكل كبير بالتأسيس لمقولات نقدية جديدة حددت تصوره للشخصية الروائية كما بلورت رؤيته الخاصة لمفهوم الواقعية العظمى.
16 شتنبر 2020

رواية «المصري» والهوية الثقافية والاجتماعية

اعداد: رشيد أمديون

رواية «المصري» للدكتور محمد أنقار. منشورات باب الحكمة. اصدرا 2014.
كتبت يوما، منذ بضع سنوات، عن الإيهام في المجموعة القصصية "البحث عن فريد الأطرش" للروائي والقاص الراحل محمد أنقار. وعنونت المقال بـ"إيهام القارئ في البحث عن فريد الأطرش". وذهبت إلى أن المبدع محمد أنقار استطاع أن يوهم المتلقي من خلال عنوان المجموعة القصصية، أنه أمام بحث مستمر عن قامة فنية تمثلت في فريد الأطرش. فيظل أثناء قراته مسكونا بهم البحث ودواعيه رغم أن اسم فريد الأطرش لم يرد ذكره إلا مرة واحدة في النص الأخير... هذا الإيهام الذي استخدمه الكاتب في منجزه القصصي "البحث عن فريد الأطرش" هو نفسه الذي نجده في روايته المصري. فالمتلقي يتوهم بمجرد قراءة العنوان أنه إزاء عمل روائي بطله شخصية مصرية، إلا أن قراءة النص إلى النهاية تزيح عنه حيلة الإيهام، وخاصة حين يتضح أن بطل الرواية مغربي تطواني، أي نعم، هو مولع بمصر وأدبها وبأعمال نجيب محفوظ بالخصوص، إلا أنه مرتبط ارتباطا قويا بمدينته تطوان، فيأخذنا في دروبها وأزقتها وحاراتها وحركة الناس بها وما استجد فيها من مظاهر معمارية وأخلاقية واجتماعية... وهذا الهوس هو ما دفع السارد أحمد الساحلي إلى التفكير -بعد التقاعد- في كتابة رواية عن مدينته محتذيا نهج نجيب محفوظ الذي عرّف بالحارة المصرية من خلال رواياته.. فتدور فصول الرواية حول هذا المبتغى (كتابة رواية) وإصرار السارد على هذا المشروع معتقدا أن الكتابة عن مدينته بمثابة استمرار لحياتها ووجودها وحفظا لها من مظاهر التشويه المعماري والأخلاقي والاجتماعي..
ويتوهم السارد أن الدور الذي بقي له في الحياة يتمثل في تحقيق هذا المشروع الأدبي. فبعد التقاعد صار يشعر أنه مقبل على الموت. من أجل ذلك يواجه الظروف التي تحول بينه وبين تحقيق مشروعه، ورغم تحديه وإصراره إلا أنه يفشل في النهاية.
يؤسس الكاتب هذا النص "المصري" على تفكير نسقي في دواعي الكتابة ومستلزماتها ومعيقاتها ومحبطاتها.. فهي في مجملها تمثل هما شاغلا لفكر السارد الذي يطمح في كتابة روايته، وبهذا فتقنية "الميتا رواية" (ما وراء الرواية) أعطت للنص بعدا جماليا وفتحت أمام القارئ عوالم أدبية وفنية أشرك فيها الكاتب القارئ وسار به نحو فضاء من التخييل والتصوير وتشكيل المتخيل السردي وطرح المفارقات والصيغ الملائمة لدعم فكرة ضرورة صيانة ذاكرة المدن وحفظ الهوية الثقافية والاجتماعية من التلاشي والموت.

مهزلة العقل البشري


اعداد: رشيد أمديون

«مهزلة العقل البشري»، كتاب للباحث الاجتماعي العراقي علي الوردي. الطبعة الثانية 1994، عدد الصفحات 300 صفحة.

يبدو هذا الكتاب (كما أشار فيه الكاتب) أنه امتداد لكتاب سبقة بعنوان «وعاظ السلاطين»، وقد عزز فيه طرحه داخل إطار البحث الاجتماعي قصد فهم الطبيعة البشرية المترفة وتحليل لبعض الوقائع التاريخية ذات الطابع الاجتماعي مع ربطها بالواقع المعاصر، وينطلق الكاتب من فرضية أن التنازع ضرورة وحتمية لإنتاج حركة اجتماعية تؤدي إلى التطور والإبداع والانسلاخ عن التقليد للخروج من البدائية إلى المدنية، رغم أن المدنية إذا جاءت جلبت معها محاسنها ومساوئها. وبيَّن أن مدار التنازع قديما هو السلاح لفرض المعارض معارضته، أما اليوم فيكفي للحزب المعارض أن يدعو لمبادئه عن طريق الصحافة والإذاعة والخطابة وما أشبه.. إن التنازع انتقل من طريق العراك الدموي إلى طريق الجدل الورقي (أي التصويت)، وبهذا صارت الحضارة تركض في سيرها ركضا سريعا لا يعرف مصيره. كما بين الكاتب أنواع التنازع وأسبابه.. ثم ناقش آراء الفلاسفة في العقل البشري، وتطوره (كما عند ابن طفيل)، على ضوء الأبحاث الحديثة، ثم ناقش قياس المناطقة الذين يؤمنون بمنطق أرسطو، واعتبره قياسا تافها لأنه يعتمد على مقدمة كبرى تستند على البديهيات المألوفة.. وينتصر لمبدأ السفسطائيين، وبين عيب المدينة الفاضلة لأفلاطون واعتبره من المترفين، ثم تناول أكبر القضايا في التاريخ الإسلامي وهو الصراع على الخلافة الإسلامية بعد وفاة الرسول. وقيّم أسباب الجدال المتداول إلى يومنا هذا حول خلافة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأسباب ذلك الخلاف القائم بين أتباع عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، وانتقد ما انساق إليه المسلمين من انشغالهم بالمفاضلة بين هؤلاء الرجال عن المسألة الأساسية التي دافع عنها علي وهي إقامة عدالة اجتماعية، فهو يرى أن كل دعوة لإقامة العدالة الاجتماعية هي ثورة ضد ظلم المترفين، واعتبر الظلم شعورا يحسه الناس، وهو ما يحركهم نحو المطالبة بالعدالة، لهذا يقول أن التفاعل المستمر بين المترفين والأنبياء على توالي القرون هو الذي أنتج لنا هذه المدنية الحديثة التي ننعم بها الآن. والمدنية الحديثة قد امتازت بأمرين يمكن اعتبارهما من عجائب التاريخ: هما الحكومة الديمقراطية من ناحية والتقدم العلمي من الناحية الأخرى. وهذان الأمران لم ينشآ دافعة واحدة. فكل منهما هو نتاج سلسلة طويلة من الجهود المتواصلة ساهمت فيها جميع الأمم. إن كل أمة متمدنة في التاريخ أنتجت سلاطين مترفين وأنبياء ثائرين. وليس من الممكن أن يظهر المترفون في أمة دون أن يظهر تجاههم أنبياء وأشباه أنبياء على وجه من الوجوه. ويرى الكاتب أن السيطرة والتمرد وجهان متلازمان من أوجه التاريخ الاجتماعي، وليس من الممكن فصل أحدهما عن الآخر. ولولا وجودهما إلى جنب لما ظهرت في التاريخ تلك النبضات الحية.

وهكذا، يتناول الكتاب أيضا أحداث التاريخ والتاريخ الإسلامي في ضوء المنطق الاجتماعي الحديث وطرح قضايا شائكة مازالت تؤثر على المجتمع والعقل البشري. وهذه بعض الإشارات مما يعرضه الكتاب بالتحليل والنقاش.

تحميل كتاب الأدب المغربي الحديث لأحمد المديني

 

الكتاب: الأدب المغربي الحديث
المؤلف : أحمد المديني
منشورات دار الشؤون الثقافية والنشر بغداد / 1983
عدد الصفحات: 146

الإنتاج المعرفي والتاريخي في ثقافة «سوس»

بقلم: رشيد أمديون

يعد كتاب «سوس التاريخ والثقافة والمجتمع» للباحث أحمد السعيدي؛ بحثا علميا يضم بين دفتيه، مقالات ودراسات، إضافة إلى نصين محققين، ما يشكل هذا المعطى مادة مهمة تهتم بالنتاج المعرفي والتاريخي في الثقافة السوسية الأمازيغية والعربية.

وينقسم الكتاب إلى مقدمة الكاتب، وسبعة عناوين كبرى بمحاورها الفرعية. إضافة إلى تقديم لجعفر بن الحاج السلمي، الذي نوه فيه بمجهود الباحث، مخاطبا القارئ أنه سيجد في هذا الكتاب مبتغاه، بدون زيغ إلى عصبية وشُعوبية، وأن مُنطلَقه هي محبة مفعمة لبلد الباحث سوس الغامرة لكل المغرب، ودار الإسلام ولكل الإنسانية.

العنوان الأول «من تاريخ سوس»؛ يضم هذا الباب ثلاثة محاور، حيث يبرز المحور الأول مظاهر التلقي والاكتشاف لمنجز ابن خلدون من المنظور السوسي للتاريخ. وحضور ابن خلدون لدى المؤلفين السوسيين ابتداء من القرن الثامن عشر. فركز الباحث على أربعة أسماء بارزة التأثير في الثقافة السوسية: محمد الحضيكي (1775) ـ محمد الإكراري (1939) ـ محمد المختار السوسي (1963) ـ إمحمد العثماني (1984). ثم بين أن السوسيين استفادوا من ابن خلدون، وأنهم ناقشوه في بعض القضايا، وانتقدوه فيها بأسلوب علمي، كما اعترفوا له بالريادة العلمية، واقتبسوا من آثاره في مؤلفاتهم وتصوراتهم ومشاريعهم العلمية، وغير ذلك.

وفي المحور الثاني الذي عنونه بـ«مقاومة سوس للوجود الأجنبي من خلال مذكرات القائد النّاجم الأخصاصي». فقد بين بعض مظاهر مقاومة الوجود الفرنسي في سوس، إبان عهد السلطان مولاي يوسف، انطلاقا من مذكرات القائد المذكور. وحدا الباحث إلى إبراز منجزه ضمن المقاومة في الجنوب المغربي خاصة سوس. وما عرفه مساره من تحول من قائد مخزني منذ عصر الحسن الأول إلى مقاوم قبَلي في العهد اليوسفي، إلى حدود الاحتلال التام لسوس سنة 1934. موضحا مسوغات مقاومته ومرجعيتها من خلال سيرته ومظاهر مقاومته بعد انضمامه إلى حركة الشيخ أحمد الهيبة.

ثم تناول في المحور الثالث: «حركة المقاومة في سوس من خلال مخطوط «تاريخ ثورة أحمد الهيبة». وهذا المخطوط يعود للمؤرخ عباس بن محمد التعارجي المراكشي (تـ1959) وقد عرّف الباحث بهذا الكتاب المخطوط وسياق إنتاجه وموجّهات مؤلفه وموضوعه وبعض قضاياه وقيمته ومنهاجه. من ذلك مثلا أن صاحب المخطوط قام بالموازنة بين الوضع العام في المغرب ونظيره في مصر، وبموازنة بين ثورة أحمد الهيبة وثورة عُرابي. وقد أوضح الباحث أن المراكشي مؤرخ رسمي صرف، موقفه متساوق مع منطق المخزن ودولة الحماية، بما يعني أن له موقفا سلبيا كباقي طائفة من العلماء من حركة الهيبة، لهذا يسوق في مخطوطه المناظرة التي كانت بين أبي شعيب الدكالي وأحمد الهيبة.

حياة الطاهر الإفراني

العنوان الثاني: من الكتابات المنقبية في سوس؛ من محورين. الأول: مناقب الطاهر الإفراني، للفقيه أحمد أبناو، تقديم وتحقيق. وقد تناول الباحث هذا الكتاب المخطوط بالوصف وبيّن سياق إنتاجه. إذ يندرج في الكتابات المناقبية التي يحتفي فيها التلاميذ أو المريدون بشيوخهم، وما جعل استحضار أبناو بوصفه مؤلفا منقبيا لشيخه هو السعي في الترقي بمجتمعه، حيث يقدمه مثالا بتجاوز بعض مظاهر تلك الأزمة، التي زلزلت سوس بعد احتلالها سنة 1934. بمعنى أن الخطاب الذي توجهه هذه الكتابات المناقبية هو الأزمة وكيف الفكاك منها. هذه الأزمة التي تتمثل في احتلال سوس والمغرب عامة. وقد أبرز هذا النص/المخطوط حياة الطاهر الإفراني وشخصيته العلمية والصوفية، وأخلاقه ودوره في إصلاح مجتمعه وأيضا في الإصلاح الديني والسياسي، إذ كان الإفراني داعما لحركة الهيبة ومنضما إليها ويعتبرها حركة جهادية… كما أن صاحب المخطوطة وضع شهادته في حق شيخه معربا عن محبته، بعد أن أثبتت له الولاية والصلاح… وقد أدرج الباحث في هذا الكتاب نص أحمد أبناو في مناقب شيخه وعمل على تحقيقه.

ويأتي المحور الثاني أيضا ضمن الكتابات المنقبية في سوس بعنوان: شيخنا الوالد الفقيه أحمد أبناو. يتناول مخطوطة أخرى لأحمد أبناو؛ فإن كانت الأولى تعنى بشيخه، فالثانية كتبها في حق والده الحسن بن سعيد. وقد وصف الباحث الكتاب/المخطوط وحجمه وبيّن دواعي تأليفه، ثم من خلاله عرض كيف تناول أبناو سيرة والده ومناقبه وأدبه وأخلاقه، متبعا منهج التقسيم: الوالد الفقيه، الوالد المتصوف، الوالد الطبيب، الوالد المربي. ثم أبرز الباحث منهاج المؤلف وقيمة الكتاب الترجمية والنَّسبية والعلمية. وفي الأخير أدرج النص محَققا.

الثالث: في التصوف السوسي؛ وفيه محور واحد، عنونه بـ«ظواهر صوفية في الكناشات السوسية» حيث حدد مفهوم الكنّاش، ونبذة عن التكنيش في سوس، وأن الكناشات مثلت جنسا كتابيا ذا بال في سوس، وجل علماء هذا القطر مكنشون، كما ذهب إلى ذلك محمد المختار السوسي. مما جعل هناك تراكما يمكن من خلاله بيان ظواهر صوفية في بعض الكناشات التي تحصل عليها الباحث من الخزائن العامة والخاصة، وبذلك اشتغل على 1. كناش داود الرسموكي 2. كناش عبد العزيز الأدوزي 3. كناش إسماعيل السكتاني 4. الكناشات السبع لعبد الرحمان الرملي الهوّاري. وانتقى الباحث الظواهر الصوفية من هذه الكنانيش، ممن ينتمي أصحابها إلى طرق مختلفة؛ درقاوية وتجانية وناصرية. ومنهم من لم ينخرطوا في طريقة بعينها. ومن الظواهر التي تعرض لها الباحث:

1. الظاهرة الإصلاحية: إصلاح الصوفية (الطريقة وأصحابها والمجتمع). – إصلاح المخزن من خلال إصدار ظهير شريف.

2. ظاهرة السجال بين الطرق؛ وخاصة السجال الذي كان بين منتقدي الطريقة التجانية وما حُبّر فيه من كتابات وردود بين الطرفين.

تناول المحور الثاني الصلات العلمية بين سوس ودرعة، وأخذ الباحث صلة محمد بن سعيد المرغيتي بالناصريين مثالا متميزا بمختلف العرى الدينية والثقافية والعلمية والإنسانية.. والعلامة المِرغيتي (1089هـ) استطاع المزاوجة خلال سيرته العلمية بين شخصية العالم والرحالة، فسعى في نشر العلم في تمكروت وبدرعة وغيرها.. وساهم في تنشيط الحركة العلمية.

الرابع: أعمال المختار السوسي؛ وهو من محورين، الأول: «مترعات الكؤوس في آثار طائفة من أدباء سوس» للعلامة محمد المختار السوسي. بيّن الباحث أن في عنايته بالتراث الثقافي السوسي استحضار لرؤية محمد المختار السوسي في التعامل مع هذا التراث، وهو السعي بالعناية بالجزء في سياق الكل، والانطلاق من الخاص إلى العام. فهو تراث مغربي بوصفه صادرا عن مكونات ومؤثرات وروافد مشتركة وإن اختلفت بعض الشيء.. ثم وضح دواعي اختياره الموضوع، الرغبة في خدمة التراث المغربي عامة والسوسي خاصة، وخدمة تراث محمد المختار السوسي، والإسهام في توفير المواد الخام لأبناء اليوم والغد.. ثم عرض الباحث تصميم البحث ومنهجيته في اشتغاله على المتن المحقق «مترعات الكؤوس» وخطاطة التحقيق.

أما المحور الثاني، فقد اعتنى فيه بالعلامة محمد المختار السوسي وجهوده في الاعتناء بالتراث المخطوط، باعتبار تراث الرجل يتميز بالتنوع والغنى (التاريخ، الأدب، العلوم الشرعية والإنسانية)؛ فتناول الباحث فكرة الاعتناء بالتراث عند المختار السوسي باعتباره جامعا للتراث المخطوط، وبيّن منهاجه في الجمع الذي يقوم على الرحلة، والعلاقات الاجتماعية، والاستعارة، والنسخ، وفوق هذا، خصاله التي مكنته من تحصيل المصادر، والتواصل مع النخب الدينية والعلمية والسياسية.. وأضاف أنه في سوس تطرح مسألة مهمة وهي إتقانه اللغة الأمازيغية… ثم أشار الباحث إلى أن المختار السوسي، يعد مفهرسا ومحققا للتراث المخطوط.. ثم تصرف السوسي في النصوص التي وردت في موسوعته «المعسول» بالتلخيص، الاقتباس، الغربلة، والتهذيب، والتنقيح… لأنه يعقد علاقة مع قارئ عصري، مراعيا له… كما أن تراث السوسي هو سعي إلى نشر المعرفة التراثية وتيسير سبلها للباحثين. وبهذا يكون المختار السوسي في هذا الشكل قد تجاوز حدود التراث السوسي للاهتمام بالتراث المغربي والإسلامي عامة، وذلك برز من المخطوطات النادرة التي وقف عليها، وكان سببا في نشرها وتحقيقها وذيوعها كرسالة سعدية، والذخيرة في محاسن أهل الجزيرة وغيرها.

الخامس: التعليم في سوس؛ يضم محورا واحدا عنوانه «إصلاح المدارس العتيقة، نموذج مدرسة سيدي وكَاكَ». ويتناول في هذا المحور الرغبة التي كانت لدى علماء سوس في إصلاح المدارس العتيقة في سوس، ومنهم السوسي، أحمد شاعري الزيتوني، وقد تحدث المختار السوسي في نص سردي متخيل عن نهضة جزولة العلمية والدينية، فتخيل الجامعة الوكاكية كمؤسسة حديثة مجهزة بوسائط تعليمية عصرية. وهذا يوضح الحاجة الماسة إلى التحديث آنذاك وهاجس الإصلاح.

السادس: صلات سوس بفاس ودرعة؛ من محورين. الأول: «سوس والسوسيون في سلوى الأنفاس للكتاني» وهذا المحور يحاول البحث في آثار منطقة سوس العلمية والولوية في تضاعيف كتاب تراجم فاس، سلوة الأنفاس. من خلال عرض بعض أسماء علماء وصلحاء سوسيين. وتصور الكتاني لسوس وحضوره بجغرافيته وأعلامه..

وتناول المحور الثاني الصلات العلمية بين سوس ودرعة، وأخذ الباحث صلة محمد بن سعيد المرغيتي بالناصريين مثالا متميزا بمختلف العرى الدينية والثقافية والعلمية والإنسانية.. والعلامة المِرغيتي (1089هـ) استطاع المزاوجة خلال سيرته العلمية بين شخصية العالم والرحالة، فسعى في نشر العلم في تمكروت وبدرعة وغيرها.. وساهم في تنشيط الحركة العلمية..

العنوان السابع: سوس في الكتابات الأجنبية. من محورين. تناول الأول ما ورد في الكتابات الاستعلامية عن سوس، من خلال تقرير الكابتن سارتر عن منطقة «إيرزان» بنواحي تارودانت. وقد وصف الباحث التقرير وتاريخ الجمع في الرحلة التي استغرقت من 24 إلى 26 يناير/كانون الثاني 1935. وتاريخ الفراغ من كتابته 25 مارس/آذار 1953. والمعطيات التاريخية والجغرافية ولمحات إثنوغرافية اقتصادية التي يعطيها عن إيرزان. ثم دراسة أقسام القبيلة. وهذا التقرير الذي قدمه لسلطات الحماية هو بمثابة خدمة نفعت المحتل وقتها، كما هي أيضا خدمة للباحثين في تاريخ المنطقة.

«سوس في الرحلة الفرنسية المعاصرة»

أما المحور الثاني «سوس في الرحلة الفرنسية المعاصرة» فقد ركز الباحث فيه على منطقة تافراوت كنموذج، فعرض صورة تافراوت في رحلة بيير لوكو، ومارك دو مازيير. وخلص إلى أن الأول تعرف رحلته ضمورا من الناحية الاثنوغرافية، ما جعل رحلته إلى تافراوت عبارة عن تأملات في فضائها وأشيائها، وتأثره بالطابع الجمالي الفلسفي، وهذا ما جعل رحلته تحتفي بأدبيتها.. فحضرت صورة تافراوت في رحلته بشكل شاعري. أما رحلة دومازييىر فطغى عليها الوصف الاثنوغرافي، حيث نقل الرحالة مشاهداته ما بين تزنيت وتافراوت… وقيمة رحلته تتلخص في عرض لمرحلة تاريخية من الخمسينيات أواخر الحماية.. وقيمتها من الناحية الاقتصادية والاجتماعية. ثم بين الكاتب أن الرحالتين لم يستطيعا الفكاك من النظرة السلبية، فالأول يراها بنظرة استعلاء، والثاني يعد السكان مجرد جبليين يروضون الثعابين…

«سوس التاريخ والثقافة والمجتمع » كتاب موسوم بالتوثيق العلمي الرصين، يقدم مجهودا قويا يسعى من خلاله أحمد السعيدي إلى اكتشاف واستخراج خبايا تاريخ سوس العالمة، الزاخرة برجالات العلم والمعرفة والتصوف منذ عرف هذا الربع الإسلام بعد الفتح الإسلامي للمغرب، وهذا الكتاب أراه امتدادا لمشروع محمد المختار السوسي، الذي لا ننسى فضله في تحصيل مواد تراثية علمية وأدبية للباحثين، ومساهمته الفاعلة في استخراجها والتعريف بها. وإكمالا لهذا المسعى فالثقافة السوسية «تحتاج اليوم إلى جهود رسمية وعلمية ومدنية بحيث ترتقي من مجرد فولكلور يُستدعى كلما دعت الحاجة إليه، إلى درجة الإسهام الفعلي في بناء المجتمع» لهذا فالأولى الخروج بنصوص هذه الثقافة من عصر المخطوطات إلى عصر التحقيق والطباعة والنشر والعكوف على دراستها لتشكيل تاريخ ثقافي جديد وشامل لمنطقة سوس وتلك كانت رؤية المختار السوسي لمَّا ألف موسوعته «المعسول» حيث صرح قائلا: نطلب من الله أن يأتي بمن يستتم ما ينقص في الموضوع، أو يصحح الأغلاط».


Join me on Facebook Follow me on Twitter Email me Email me Email me Email me

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | تعريب وتطوير : قوالب بلوجر معربة