الوصف

الإنتاج المعرفي والتاريخي في ثقافة «سوس»

بقلم: رشيد أمديون

يعد كتاب «سوس التاريخ والثقافة والمجتمع» للباحث أحمد السعيدي؛ بحثا علميا يضم بين دفتيه، مقالات ودراسات، إضافة إلى نصين محققين، ما يشكل هذا المعطى مادة مهمة تهتم بالنتاج المعرفي والتاريخي في الثقافة السوسية الأمازيغية والعربية.

وينقسم الكتاب إلى مقدمة الكاتب، وسبعة عناوين كبرى بمحاورها الفرعية. إضافة إلى تقديم لجعفر بن الحاج السلمي، الذي نوه فيه بمجهود الباحث، مخاطبا القارئ أنه سيجد في هذا الكتاب مبتغاه، بدون زيغ إلى عصبية وشُعوبية، وأن مُنطلَقه هي محبة مفعمة لبلد الباحث سوس الغامرة لكل المغرب، ودار الإسلام ولكل الإنسانية.

العنوان الأول «من تاريخ سوس»؛ يضم هذا الباب ثلاثة محاور، حيث يبرز المحور الأول مظاهر التلقي والاكتشاف لمنجز ابن خلدون من المنظور السوسي للتاريخ. وحضور ابن خلدون لدى المؤلفين السوسيين ابتداء من القرن الثامن عشر. فركز الباحث على أربعة أسماء بارزة التأثير في الثقافة السوسية: محمد الحضيكي (1775) ـ محمد الإكراري (1939) ـ محمد المختار السوسي (1963) ـ إمحمد العثماني (1984). ثم بين أن السوسيين استفادوا من ابن خلدون، وأنهم ناقشوه في بعض القضايا، وانتقدوه فيها بأسلوب علمي، كما اعترفوا له بالريادة العلمية، واقتبسوا من آثاره في مؤلفاتهم وتصوراتهم ومشاريعهم العلمية، وغير ذلك.

وفي المحور الثاني الذي عنونه بـ«مقاومة سوس للوجود الأجنبي من خلال مذكرات القائد النّاجم الأخصاصي». فقد بين بعض مظاهر مقاومة الوجود الفرنسي في سوس، إبان عهد السلطان مولاي يوسف، انطلاقا من مذكرات القائد المذكور. وحدا الباحث إلى إبراز منجزه ضمن المقاومة في الجنوب المغربي خاصة سوس. وما عرفه مساره من تحول من قائد مخزني منذ عصر الحسن الأول إلى مقاوم قبَلي في العهد اليوسفي، إلى حدود الاحتلال التام لسوس سنة 1934. موضحا مسوغات مقاومته ومرجعيتها من خلال سيرته ومظاهر مقاومته بعد انضمامه إلى حركة الشيخ أحمد الهيبة.

ثم تناول في المحور الثالث: «حركة المقاومة في سوس من خلال مخطوط «تاريخ ثورة أحمد الهيبة». وهذا المخطوط يعود للمؤرخ عباس بن محمد التعارجي المراكشي (تـ1959) وقد عرّف الباحث بهذا الكتاب المخطوط وسياق إنتاجه وموجّهات مؤلفه وموضوعه وبعض قضاياه وقيمته ومنهاجه. من ذلك مثلا أن صاحب المخطوط قام بالموازنة بين الوضع العام في المغرب ونظيره في مصر، وبموازنة بين ثورة أحمد الهيبة وثورة عُرابي. وقد أوضح الباحث أن المراكشي مؤرخ رسمي صرف، موقفه متساوق مع منطق المخزن ودولة الحماية، بما يعني أن له موقفا سلبيا كباقي طائفة من العلماء من حركة الهيبة، لهذا يسوق في مخطوطه المناظرة التي كانت بين أبي شعيب الدكالي وأحمد الهيبة.

حياة الطاهر الإفراني

العنوان الثاني: من الكتابات المنقبية في سوس؛ من محورين. الأول: مناقب الطاهر الإفراني، للفقيه أحمد أبناو، تقديم وتحقيق. وقد تناول الباحث هذا الكتاب المخطوط بالوصف وبيّن سياق إنتاجه. إذ يندرج في الكتابات المناقبية التي يحتفي فيها التلاميذ أو المريدون بشيوخهم، وما جعل استحضار أبناو بوصفه مؤلفا منقبيا لشيخه هو السعي في الترقي بمجتمعه، حيث يقدمه مثالا بتجاوز بعض مظاهر تلك الأزمة، التي زلزلت سوس بعد احتلالها سنة 1934. بمعنى أن الخطاب الذي توجهه هذه الكتابات المناقبية هو الأزمة وكيف الفكاك منها. هذه الأزمة التي تتمثل في احتلال سوس والمغرب عامة. وقد أبرز هذا النص/المخطوط حياة الطاهر الإفراني وشخصيته العلمية والصوفية، وأخلاقه ودوره في إصلاح مجتمعه وأيضا في الإصلاح الديني والسياسي، إذ كان الإفراني داعما لحركة الهيبة ومنضما إليها ويعتبرها حركة جهادية… كما أن صاحب المخطوطة وضع شهادته في حق شيخه معربا عن محبته، بعد أن أثبتت له الولاية والصلاح… وقد أدرج الباحث في هذا الكتاب نص أحمد أبناو في مناقب شيخه وعمل على تحقيقه.

ويأتي المحور الثاني أيضا ضمن الكتابات المنقبية في سوس بعنوان: شيخنا الوالد الفقيه أحمد أبناو. يتناول مخطوطة أخرى لأحمد أبناو؛ فإن كانت الأولى تعنى بشيخه، فالثانية كتبها في حق والده الحسن بن سعيد. وقد وصف الباحث الكتاب/المخطوط وحجمه وبيّن دواعي تأليفه، ثم من خلاله عرض كيف تناول أبناو سيرة والده ومناقبه وأدبه وأخلاقه، متبعا منهج التقسيم: الوالد الفقيه، الوالد المتصوف، الوالد الطبيب، الوالد المربي. ثم أبرز الباحث منهاج المؤلف وقيمة الكتاب الترجمية والنَّسبية والعلمية. وفي الأخير أدرج النص محَققا.

الثالث: في التصوف السوسي؛ وفيه محور واحد، عنونه بـ«ظواهر صوفية في الكناشات السوسية» حيث حدد مفهوم الكنّاش، ونبذة عن التكنيش في سوس، وأن الكناشات مثلت جنسا كتابيا ذا بال في سوس، وجل علماء هذا القطر مكنشون، كما ذهب إلى ذلك محمد المختار السوسي. مما جعل هناك تراكما يمكن من خلاله بيان ظواهر صوفية في بعض الكناشات التي تحصل عليها الباحث من الخزائن العامة والخاصة، وبذلك اشتغل على 1. كناش داود الرسموكي 2. كناش عبد العزيز الأدوزي 3. كناش إسماعيل السكتاني 4. الكناشات السبع لعبد الرحمان الرملي الهوّاري. وانتقى الباحث الظواهر الصوفية من هذه الكنانيش، ممن ينتمي أصحابها إلى طرق مختلفة؛ درقاوية وتجانية وناصرية. ومنهم من لم ينخرطوا في طريقة بعينها. ومن الظواهر التي تعرض لها الباحث:

1. الظاهرة الإصلاحية: إصلاح الصوفية (الطريقة وأصحابها والمجتمع). – إصلاح المخزن من خلال إصدار ظهير شريف.

2. ظاهرة السجال بين الطرق؛ وخاصة السجال الذي كان بين منتقدي الطريقة التجانية وما حُبّر فيه من كتابات وردود بين الطرفين.

تناول المحور الثاني الصلات العلمية بين سوس ودرعة، وأخذ الباحث صلة محمد بن سعيد المرغيتي بالناصريين مثالا متميزا بمختلف العرى الدينية والثقافية والعلمية والإنسانية.. والعلامة المِرغيتي (1089هـ) استطاع المزاوجة خلال سيرته العلمية بين شخصية العالم والرحالة، فسعى في نشر العلم في تمكروت وبدرعة وغيرها.. وساهم في تنشيط الحركة العلمية.

الرابع: أعمال المختار السوسي؛ وهو من محورين، الأول: «مترعات الكؤوس في آثار طائفة من أدباء سوس» للعلامة محمد المختار السوسي. بيّن الباحث أن في عنايته بالتراث الثقافي السوسي استحضار لرؤية محمد المختار السوسي في التعامل مع هذا التراث، وهو السعي بالعناية بالجزء في سياق الكل، والانطلاق من الخاص إلى العام. فهو تراث مغربي بوصفه صادرا عن مكونات ومؤثرات وروافد مشتركة وإن اختلفت بعض الشيء.. ثم وضح دواعي اختياره الموضوع، الرغبة في خدمة التراث المغربي عامة والسوسي خاصة، وخدمة تراث محمد المختار السوسي، والإسهام في توفير المواد الخام لأبناء اليوم والغد.. ثم عرض الباحث تصميم البحث ومنهجيته في اشتغاله على المتن المحقق «مترعات الكؤوس» وخطاطة التحقيق.

أما المحور الثاني، فقد اعتنى فيه بالعلامة محمد المختار السوسي وجهوده في الاعتناء بالتراث المخطوط، باعتبار تراث الرجل يتميز بالتنوع والغنى (التاريخ، الأدب، العلوم الشرعية والإنسانية)؛ فتناول الباحث فكرة الاعتناء بالتراث عند المختار السوسي باعتباره جامعا للتراث المخطوط، وبيّن منهاجه في الجمع الذي يقوم على الرحلة، والعلاقات الاجتماعية، والاستعارة، والنسخ، وفوق هذا، خصاله التي مكنته من تحصيل المصادر، والتواصل مع النخب الدينية والعلمية والسياسية.. وأضاف أنه في سوس تطرح مسألة مهمة وهي إتقانه اللغة الأمازيغية… ثم أشار الباحث إلى أن المختار السوسي، يعد مفهرسا ومحققا للتراث المخطوط.. ثم تصرف السوسي في النصوص التي وردت في موسوعته «المعسول» بالتلخيص، الاقتباس، الغربلة، والتهذيب، والتنقيح… لأنه يعقد علاقة مع قارئ عصري، مراعيا له… كما أن تراث السوسي هو سعي إلى نشر المعرفة التراثية وتيسير سبلها للباحثين. وبهذا يكون المختار السوسي في هذا الشكل قد تجاوز حدود التراث السوسي للاهتمام بالتراث المغربي والإسلامي عامة، وذلك برز من المخطوطات النادرة التي وقف عليها، وكان سببا في نشرها وتحقيقها وذيوعها كرسالة سعدية، والذخيرة في محاسن أهل الجزيرة وغيرها.

الخامس: التعليم في سوس؛ يضم محورا واحدا عنوانه «إصلاح المدارس العتيقة، نموذج مدرسة سيدي وكَاكَ». ويتناول في هذا المحور الرغبة التي كانت لدى علماء سوس في إصلاح المدارس العتيقة في سوس، ومنهم السوسي، أحمد شاعري الزيتوني، وقد تحدث المختار السوسي في نص سردي متخيل عن نهضة جزولة العلمية والدينية، فتخيل الجامعة الوكاكية كمؤسسة حديثة مجهزة بوسائط تعليمية عصرية. وهذا يوضح الحاجة الماسة إلى التحديث آنذاك وهاجس الإصلاح.

السادس: صلات سوس بفاس ودرعة؛ من محورين. الأول: «سوس والسوسيون في سلوى الأنفاس للكتاني» وهذا المحور يحاول البحث في آثار منطقة سوس العلمية والولوية في تضاعيف كتاب تراجم فاس، سلوة الأنفاس. من خلال عرض بعض أسماء علماء وصلحاء سوسيين. وتصور الكتاني لسوس وحضوره بجغرافيته وأعلامه..

وتناول المحور الثاني الصلات العلمية بين سوس ودرعة، وأخذ الباحث صلة محمد بن سعيد المرغيتي بالناصريين مثالا متميزا بمختلف العرى الدينية والثقافية والعلمية والإنسانية.. والعلامة المِرغيتي (1089هـ) استطاع المزاوجة خلال سيرته العلمية بين شخصية العالم والرحالة، فسعى في نشر العلم في تمكروت وبدرعة وغيرها.. وساهم في تنشيط الحركة العلمية..

العنوان السابع: سوس في الكتابات الأجنبية. من محورين. تناول الأول ما ورد في الكتابات الاستعلامية عن سوس، من خلال تقرير الكابتن سارتر عن منطقة «إيرزان» بنواحي تارودانت. وقد وصف الباحث التقرير وتاريخ الجمع في الرحلة التي استغرقت من 24 إلى 26 يناير/كانون الثاني 1935. وتاريخ الفراغ من كتابته 25 مارس/آذار 1953. والمعطيات التاريخية والجغرافية ولمحات إثنوغرافية اقتصادية التي يعطيها عن إيرزان. ثم دراسة أقسام القبيلة. وهذا التقرير الذي قدمه لسلطات الحماية هو بمثابة خدمة نفعت المحتل وقتها، كما هي أيضا خدمة للباحثين في تاريخ المنطقة.

«سوس في الرحلة الفرنسية المعاصرة»

أما المحور الثاني «سوس في الرحلة الفرنسية المعاصرة» فقد ركز الباحث فيه على منطقة تافراوت كنموذج، فعرض صورة تافراوت في رحلة بيير لوكو، ومارك دو مازيير. وخلص إلى أن الأول تعرف رحلته ضمورا من الناحية الاثنوغرافية، ما جعل رحلته إلى تافراوت عبارة عن تأملات في فضائها وأشيائها، وتأثره بالطابع الجمالي الفلسفي، وهذا ما جعل رحلته تحتفي بأدبيتها.. فحضرت صورة تافراوت في رحلته بشكل شاعري. أما رحلة دومازييىر فطغى عليها الوصف الاثنوغرافي، حيث نقل الرحالة مشاهداته ما بين تزنيت وتافراوت… وقيمة رحلته تتلخص في عرض لمرحلة تاريخية من الخمسينيات أواخر الحماية.. وقيمتها من الناحية الاقتصادية والاجتماعية. ثم بين الكاتب أن الرحالتين لم يستطيعا الفكاك من النظرة السلبية، فالأول يراها بنظرة استعلاء، والثاني يعد السكان مجرد جبليين يروضون الثعابين…

«سوس التاريخ والثقافة والمجتمع » كتاب موسوم بالتوثيق العلمي الرصين، يقدم مجهودا قويا يسعى من خلاله أحمد السعيدي إلى اكتشاف واستخراج خبايا تاريخ سوس العالمة، الزاخرة برجالات العلم والمعرفة والتصوف منذ عرف هذا الربع الإسلام بعد الفتح الإسلامي للمغرب، وهذا الكتاب أراه امتدادا لمشروع محمد المختار السوسي، الذي لا ننسى فضله في تحصيل مواد تراثية علمية وأدبية للباحثين، ومساهمته الفاعلة في استخراجها والتعريف بها. وإكمالا لهذا المسعى فالثقافة السوسية «تحتاج اليوم إلى جهود رسمية وعلمية ومدنية بحيث ترتقي من مجرد فولكلور يُستدعى كلما دعت الحاجة إليه، إلى درجة الإسهام الفعلي في بناء المجتمع» لهذا فالأولى الخروج بنصوص هذه الثقافة من عصر المخطوطات إلى عصر التحقيق والطباعة والنشر والعكوف على دراستها لتشكيل تاريخ ثقافي جديد وشامل لمنطقة سوس وتلك كانت رؤية المختار السوسي لمَّا ألف موسوعته «المعسول» حيث صرح قائلا: نطلب من الله أن يأتي بمن يستتم ما ينقص في الموضوع، أو يصحح الأغلاط».


0 تعليقك حافز مهم على الإستمرار:

إرسال تعليق

كلماتكم هنا ماهي إلا إمتداد لما كتب، فلا يمكن الإستغناء عنها.
(التعليقات التي فيها دعاية لشركات أو منتوجات ما تحذف)

Join me on Facebook Follow me on Twitter Email me Email me Email me Email me

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | تعريب وتطوير : قوالب بلوجر معربة