الوصف

سقطت نجمةُ في الليل



معزوفةُ اللّيل... نباح كلابٍ، ونقيق ضفادع البركة المجاورة كفرقةٍ موسيقية راق لها العزف.
انسحبَ السكونُ الليلةَ من الدوّار بعدما تسلّلَ صوتٌ جديدٌ إلى هذا العزفِ الليليّ فغادر النّومُ عيونَ كل الأهالي.
دارُ "عبدِ السّلام ولْدْ رحمة"، مُتزيّنة بمصابيح ملوّنة، أخضر، أحمر، أصفر. باحتها الأمامية تحولت إلى معتركٍ تُثير فيها الأقدامُ النّقْعَ. فوق الرّؤوس تشكلت سحابة من بياضٍ مُغبرٍ تُرى من بعيدٍ، يعكسها ضوء المصابيح المتوهجة التي تحوم حولها حشرات طائرة وبعض خنافسِ الدوّار التائهة. خرجت من مخابئها باحثة عن مصادر الضوء المشع... خرجت مع من خرجوا لتلبية الدعوة.اشتدّ الرفس بالأرجل والضرب على الطّبل، والدفوف تتراقص في الهواء فرحةً سعيدة. والغايطة تنادي صارخة أنْ هلمّوا إلى "الْهَيتِ"*. فامتلأ سطح الدار وساحتها...
نسوة تسوق زغاريدًا حادة تركبُ أمواجَ الضجيج.
رجالٌ في ركن يتحلّقون حول صينية كبيرة ينتظرون امتلاءَ الكؤوس. وقنينة غازٍ صغيرة عليها مقراج نحاسي عملاق ينفخُ البخار بغضبٍ شديد كبدين أنهكه الركض.
العرْبي نشطٌ، كأنّ نجمة السّماءِ المضيئة الليلة في يده. همس إلى رفاقه، أنّه مستعدٌ لشرب برميل خمرٍ...
فهذه ليلتي التي انتظرتها...
دارتِ الكؤوس في زاويةٍ ما. مشى السّكارى واهتزت أجسادهم بلا استقرار...
الحشراتُ الوافدة من الظلام ترقص محتفلة بضوء المصابيح إلى أنْ تسكرَ فتسقط على الأرض وعلى رؤوسِ الضيوف.

 حضورُ طعامِ العَشاءِ أخرسَ ضجيجَ فرقة "الغايطة والطبّالة"*، وشلّ حركة المترنحين. وحده النباحُ  المتقطع، وصوت سرب الضفادع المستمر امتزج بسكون الليل الرتيب.
انفضّ الناس بعدما شبعوا. غادروا إلا بعضهم. أطفِئت المصابيح. فتلاشت الخنافس والحشرات ابتلعها مكانٌ ما. وبرز نور نجمة السماء، فاختفى العربي بمنكبيه العريضين داخل غرفة وأغلق عليه الباب. جمهور من عائلته وعائلة العروس في انتظاره.
كانت العجائز أمام الغرفة يجلسن على الأرض ينتظرن... اشتد لغطهن إلى أن دبّ المللُ في نفوسهن، فصاحت إحداهن بدا أنها جدة العربي:
- أوْلاد اليوم ما تيحمْروشْ الوجَهْ...*
ردّت عليها فاطْنة كأنها تنهرها:
- وانتِّ اصبري. مالكي على هاذ الزّرْبة*... الرجل يالله دْخل..
هزّت كتفيها الهزيلين، وأطبقت فمًا بلا أسنان، لتُحدثَ صوتا:
- أشمن راجل؟ الرجولة مشات مع جده... سوْليني أنا.
أصاب هذا الحديث آذان رفاق العربي، وكانوا في الخارج عاكفين، فهمس عليّ في أذن جاره مازحًا:
- موحالْ هاذ المسخوط واش اقضيها... لم يمنع عن نفسه خمرا ولا حشيشا.
قامت جدة العربي بعد صبرها المرير تطرق الباب من الضجر. كفها مخضّبة بالحناء حتى اسودّت راحتها. تتمتم: تأخر هذا المسخوط...

بدأ الليل يفقد سوادهُ تدريجيا ويستسلم لبعض ملامح الفجر حين انفرج الباب، فاستعدّ الجميع...
النساء تأهبن ليطلقن الزغاريد إعلانا عن تحقيق النصر المنتظر. أخيرًا سيرفعن العلم عاليا أمام أعين الحاسدين، المتربصة التي تتمنى لعائلة "عبد السلام ولد رحمة" الشماتة... وها هن الشابات يستبشرن، وعلى شفاههن أثر نشيدٍ ينتظر الانطلاقة. نشيدٌ يرد بالحجةِ الكيدَ والعار.
انفرجَ الباب، خرجت رائحة العرق، فظهر العربي يترنح. بقع الدم على قميصه بارزة الاحمرار. ينادي على والدته العجوز... أمي و... أمي.
اقتربت منه، سائلة:
- ماذا هناك، واش صافي؟
- لا لا، دخلي شوفي هذي مالها؟
تهمّ باقتحام الغرفة، فتسبقها أمّ العروس...
تطلق من داخل الغرفة صرخة هيّجت نباحَ الكلاب في الخارج، وأخرست غمغمات الحاضرين ووشوشاتهم القبيحة.

صباحًا أرْقَدوا العروسَ في قبرها، كانت كنجمة انطفأ نورها.
تحدّث ناسٌ لم يحضروا العرسَ، أنّ العربي البغل، مزّق رحم عروسه باحثا عن الشّرف.

رشيد أمديون
 21/05/2013
.............................

* رقصة شعبية يختص بها أهل غرب المغرب في البوادي.
* نوع من العزف الشعبي، يستخدم فيه آلة نفخ وطبلة. 
* لا يرفعون رأسك (كناية عن الافتخار بهم)
*الاستعجال

مُنى


مُنى القلبِ

هاتفُ الحبّ جاءني بالسحر

ولاحَ لي طيفك

يَحملُ حُسنًا 

بقربي مرّ، فعبر

ناديتُ: يا منى

سِحر مآقيك عذابٌ

ترك في العمق هذا الأثر

فارحمي قلبًا بكِ هام

طول ليله يناجيك في ضياء القمر

يسافرُ إليك

على بساط الهوى

إذا اشتدّ حنينه

أو اهتزّ منه الوتر

أو احتفى الدمعُ يومًا

بالبكاء...

أو عنه العيونَ سأل

أو أصْخَى لهَمْسِ العاشقين ساريًا

فاعتنق مذهب السهر.


* * *

مُنى القلبِ

هذا الوَجْدُ،

وهذا السّهدُ

وهذا الحرفُ، 

والقلم وما سطر

وهذا قلبي

ما بلغ المنى

ولا عيونكِ يومًا 

أهدتهُ تلك الدرر

ولا العمر مشى الهُوَيْنى

ولا الْتفت

ولا صبر.

26/04/2013

المهرُ الغالي


المهرُ الغالي

عقدَ الشّعرُ قِرانه على ابنة النّثر بعد قصة حبّ عنيفة...
فتنازلَ عن ضيعة الأوزانِ والبحورِ مهرًا لحبيبته.

أشكالٌ هندسيّة

كانت تمضي...
رسمت على الدربِ مستقيمًا.
ذاتَ مساءٍ اعتنقت عقيدةَ الشّارعِ، انكمش المستقيمُ، أعادت خُطاها الرسمَ، فشكّلت شبهَ مُنحرف.

حب الوطن 

قالوا لهُ في الدّرسِ أنّ الوطنَ حبّ شخصٍ! 
فأمضى حياتهُ يصرخُ عاشَ الـ.. عاشَ...

كان يموتُ معَ كلّ صرخةٍ ليعيشَ الوطن.


حكاية لم تكتمل 

أمَرَ شهريارُ الخدَمَ أن يُطفئُوا الأضوَاءَ
وجهُ شهرزاد كان منيرًا
والسّردُ من ثغرِها أسكَرَ الملك حتّى ثمِل
لم تكتمل الحكاية، ضاعَت ليلتُها حين ابتدأ عزفُ الشّخير قبل صياح الدّيك.


تذكرة جهاز

على المقهى، كان جالسًا مع فنجانه.
أمامه مرت سيقان تتبختر في دلال، فزاغ البصر وتتبع الخطوات...
أعاد بصره بعد سياحة ساهية، ليقرأ على شاشة المحمول: أستغفر الله..



رشيد أمديون

بطالة

أعيد نشرها بعد أن شاركت بها في إحدى المسابقات.

    كلّ الأرصفةِ المُهترئةِ تعرفني... وكراسي المقهى الشّعبيِّ، الذي ينفثُ دخانَ التّبغِ والحشيشِ..، وأشياءٍ أخرى أتعبت أنفاسنا إلى حدِّ السّآمة. تعرفني الوجوهُ المألوفة، فاستحالت صورتي في الأعينِ إلى جزءٍ من تفاصيلِ هذا المقهى العتيق. أمْلأُ كلّ يومٍ كرسيًا بجسدي النحيلِ، وأنتظرُ الغيبَ في اصطبارٍ مُتكلّف.
الأزقة الضيقة المزدحمة بالعابرين تعرفني، والحارات الممتلئة بضجيج أطفالٍ يلعبونَ في مرحٍ قبل أن تبتلع أحلامهم البريئة وحشية المستقبل الذي يترصدهم من وراءِ حاراتهم المنهوكة، هناك على شارعٍ ببقايا الإسفلتِ على أرضه، بحفرهِ المُمتلئةِ بماءِ المطر، هناك يقفُ لهم كافرَ المَلامحِ، عبوسًا قمطريرًا.
كلاب الشّارعِ المتشردة بنباحها الشبيه بثرثرة فارغة في هواء المكان، تشمئزّ حين تراني جالسًا... أو واقفًا...، وتتعمّدُ رفع رجلها فترسلُ بولها قريبا منّي. تعبّر عن ضجرٍ واستياء، تسقي عمودَ الكهرباءِ المعطّل برشةٍ، ثمّ تمضي بزهوّ مفتعل، مخلّفة وراءها عمودَ الإنارة الميّت، الذي لم ينرْ إلا في فترةِ انتخابات. أذكر كيف أنار... ثم انطفأ!.

القهوةُ السّوداء على الطاولة بردت؛ وكانت تدّخرُ دفئها في فنجانٍ يَضُمّها بضمةِ حبّ تكلّل بالوفاء، كأنها تحمي شيئًا ثمينًا، وتبدي محاولةً فاشلةً لتُحافظَ عليهِ عسى أنْ يَمتدَّ إلى زمنٍ أطول كي يمنحها الإغراء، فلا قيمة لقهوةٍ فقدت الدّفءَ أو انْتُزِعَ منها في محيط ٍ تشوبهُ كلّ المؤثرات المفجعة. الجوُّ بسيوفه الشائكةِ يتربص بها. كان أكثر منها قوةً وأشدّ بأسًا... فاستسلمت للبرودةِ استسلامَ فتاةٍ تحت ضغطِ مغتصبها بعد مقاومةٍ عنيفة.

اعتدتُ أنْ أتصوّر المشهدَ بعد أن أعودَ بذهني الشّاردِ من سَفرِ التأمّل، ساحبًا التّفكيرَ علّني أحظى بما يبعثُ التّـفاؤلَ ويزيلُ أثر الحنقِ القاتل من باحة نفسي المتهالكة في زمن يُمارسُ سطوته كأنّه احْتُـقنَ بالجبروت، أو أصابهُ مسّ من جنون.
نادلُ المقهى بعينٍ شرزةٍ تختلسُ النّظرَ إليّ، يدركُـ أنّي سأطلبُ منهُ تسخينَ نصفِ الفنجان المتبقي من هذا السّوادِ الذي أشاركهُُُ اللّون والمرارةَ المقيتة.
يستجيبُ مُصدرًا صوتًا لا أسمعُ منه غير غمغمةٍ ما عُدتُ أهتمّ بعُنفها ولا بسوطِ جلادِها المتجبّر.
والجريدة المحمولة تتمنى متى أعـتقُها، متى أمنحها الرحمة، لتخلدَ إلى الرّاحة، أو حتّى لتصيرَ ورقـًا يلفّ فيها بائعُ "الفولِ السودانيّ" بضاعتهُ لزبنائه..
صارت تشبهُ خِرقةً باليّةً بعدما استعرتُهَا من زميلِ محنةِ الدّرب. وقد فَضَّت الأيديّ عُذريّتها وغادر بهاؤُها الذي كانت تتمتّعُ به قبل أن تمنحَ نفسها لأوّل قارِئ... ها هي في مستقرّها الأخير بعد أن تنقلت بين القُرّاءِ وجاء بها قدرهَا التعيس عندي...
آهٍ.. كم تتعذّبُ هذه الصّحِيفة بين يديّ وأنا على إيقاعِ الارتجاف، كأنّني مستغرقٌ في رقصةِ "درويش" ولكن بلا نشوةٍ تُدرك... يعزفُ البردُ ما يُهيّجُ حركةَ انتفاضتي، يصيبُ ذاتي بتعبٍ زمهريريٍّ يحرسُهُ جوٌّ شتويّ مكفهرّ الوجهِ غابت عنهُ شمسٌ حنونة تمنيتُها أن تسطعَ لتهدِئَ رعدتي، لتهب النورَ، لتأتي بالعمر الباقي بهيًا...
ترتجُّ الجريدةُ في رحلةِ عذابٍ مرير تذوقه مني، وأنا أترنّحُ، مقلّباً صفحاتها الذابلة باحثًا عن إعلان لوظيفة.

امرأة وأنثى


كانت الضّاوية مشمرة عن ساعديها تحلبُ بقرتها الوحيدة وسط الإسطبل المبني بالطين. بينما كان عزّوز في الخارج يفترش التّبن، سابحا في اختلاجات نفسه، مستمتعا بنشوة دخان (السبسيّ)(1)، بعدما تعب من اللّف والدوران حاملا يديه خلف ظهره حيث كان يتجول بجوار البيت والزريبة...
استلقى على ظهره فوق كومة التّبن مانحًا لجسده الراحة. تبسّم ملْء شِدقيْه...فجمع المطويّ (2)، ثم أخفاه في جيب سرواله الفضفاض. تذكّر أن صديقه علال رَكّبَ البارحة على سطح منزله صحنا هوائيًا يأتي بالعجائب والجمال.
استدعاه عشية أمسٍ وأراه كيف ترقص سوسو!!.
عدل طاقيته البيضاء على رأسه الأشيب، ثم جمع كفيه الواسعتين خلفَ قفاه مدّ رجليه، وردّد في نفسه:
- سيستمتع علال، ما أسعده!!
فأرخى العنان لناظريه...

لمحَ قُبالته قدّا مياسا. أنثى ذات شعر متهدّل بلونه الفحميّ مقبلة نحوه... تتغنّجُ بقوام ممشوق. فرك عزوز عينيه بحدّة ليزيل الشك باليقين، فجحظتا...
دنت منه وألقت بجسدها البضّ بين أحضانه، فترنح فوق كومة التبن. طوقته بيديها العاريتين، حتى صار وجهُها المتلألئ في وجهه الأسمر المتجعّد، ثم سحبت يدها اليمنى...
أحس بدغدغة تحت ذراعه اليسرى، فاهتز مرسلا قهقهات صاح على إثرها:
- لا لا مشي تمّاك اسوسو..(3)
فشعر بوكزة عنيفة تخترق أضلاعه، كادت تكسِرُها..  
تألّم ففتح عينيه على وجه الضاوية في قمة الغليان تصيح:
- الله يْلعنْ لِّي ما يحشم يا ولد الحرام.(4)
انتهت
رشيد أمديون
30/04/2013
........................................

1- 2- هو عود طويل  كالغليون يستخدم لتدخين الكيف
3- لا ليس في هذا المكان يا سوسو...
4- لعنة الله على من لا يستحي...

Join me on Facebook Follow me on Twitter Email me Email me Email me Email me

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | تعريب وتطوير : قوالب بلوجر معربة