لا غرابة في أن المرء يميل أحيانا إلى العزلة والاختلاء بذاته، والدخول في عالم لا مرئي غير أنه محسوس، لكن عزلة عن عزلة تختلف!
أعني أن هناك من يستغلها في ممارسة ما يخشى أن يمارسه في العلن وأمام الملاء. وهنا لن أتحدث عن الوجه السلبي لهذا المفهوم بل عن الوجه الإيجابي، وعن العزلة التي تترك أثرها في نفس الإنسان فيقر بحقيقته التي قد يخفيها عن الغير...
فمثلا الذي يرائي الناس ويخدعهم لا يستطيع أن يخدع نفسه عندما ينفرد وحده، ولا مجال عنده للمكابرة أمام حقيقته الواضحة..
وهناك من يُمدح ويُثنى عليه (بضم الياء) فهل يا ترى يذم نفسه لما يعلمه من نقص فيه؟
قال ابن عطاء الله السكندري: «الناس يمدحونك لما يظنوه فيك، فكن أنت ذاما لما تعلمه منها».
شكر الناس وثنائهم ومدحهم قد يوجه لنا، لكن كل واحد أدرى بحقيقة نفسه « فأجهل الناس من ترك يقين ما عنده لظن ما عند الناس».
فلنحذر غرور النفس الذي يأتي من مدح الآخرين لنا.
أمراض كثيرة تتراكم في نفوس البشر لا يعالجها طبيب بدواء، ولا عطار بأعشاب، لكنها تتجدر إن لم تكن هناك محاولة للتغيير والإصلاح والتصويب وتكملة النقائص. هناك من تفسد نفسه فسادا لا يمكن أن تستبين الحق فيها من الباطل، وربما تعودت العيش في ضلالتها وغيها كما يتعود جامع القمامات العيش بين الفضلات والأقذر دون أن يزكُم أنفه من روائحها أو تؤديه مقابحها..
تنظيف البدن من الأوساخ، والبيوت من النفايات أمر جميل تقتضيه النظافة للحفاظ على حسن المنظر، لكن هل من محاولة لتنظيف القلوب وتنقية النفوس، أو بالأصح تزكيتها ، لما الهروب من نقض الذات ولما الهروب من الاعتراف بالذنب.
أعود فأقول: أن العزلة مفتاح لباب التزكية وتطهير النفس من شوائب كثيرة، كما أنها يقظة يراجع الإنسان حينها أفعاله التي كثيرا وكثيرا جدا ما يخطئ فيها، وقليل ما يعترف بخطئه - (وكان الإنسان أكثر شيء جدلا) قرآن - وكأنه يملك ناصية الصواب دائما.
إن القلوب والخواطر لا يعلمها إلا عالم السر وما يخفى، لكن الأفعال تترجم النوايا والخفايا و تترك الأثر في كل تصرف، وبتطهير الباطن يسلم الظاهر وتنحل عقدة التناقض التي كانت بينهما.
والعزلة والخلوة لمدة قصيرة قصد المراجعة وتهذيب سلوكيات النفس، تعطي المرء الطمأنينة والثقة بذاته.. فتغيير كل المشاعر الخبيثة (الرياء والحسد والحقد والبغض..) أمر مطلوب لأنها تُظلم القلب وتعمي البصيرة، فيا سعد من غير ما بنفسه ونظر إلى حاله وأمعن وتدبر..
أكد ابن عطاء الله السكندري هذا المعنى حين قال حكمته الجميلة:
« ما نفع القلب مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة»
لأن المرء قد لا تفيده كثرة مخالطة الناس في تغيير سلوك أو فكرة أو تحديد هدف .. لكن قد تفيده خلوة أو عزلة يدخلها- طبعا لمن كان له قلب وبصيرة - فتفتح له بابا من التفكير والتدبر والتأمل مما يكوِّن له حركة عقلية يهتدي على إثرها إلى إدراك الخطاء و الصواب.