الوصف

أنا أستمتع بالصّمت


أنا أستمتع بالصّمت،

كثيرًا..

كأنـَّــه منكِ

والكلام من عالمٍ آخر

غريب !!

كغربتي بين إلتفاتاتك إلَي..

رشيد أمديون

التدوين النسائي بالمغرب من الإلكتروني إلى الورقي أنطولوجيا نسائية نموذجا

نشر بجريدة المنعطف في ملحقها الثقافي العدد 5131 - الخميس 8 أكتوبر 2015

    لا يمكننا الحديثُ عن التدوين النسائي بالمغرب قبل أن نتحدث أولا عن التدوين الإلكتروني كفعل مشترك يقترفه المدوِّنُ والمُدوِّنةُ معا، باعتباره ممارسة كتابية كانت في السابق غريبة نسبيا في الأوساط العامة، معروفة فقط في أوساط مُحددة إذ في الغالب العام - وقتها- كان مصطلح التدوين أو مُدوِّن، يشكل أمام عيون الناس سحابة استغراب، خاصة من لم يكن لهم دراية كافية بماهية الكتابة الإلكترونية. لهذا كنا نجد من تأخذه الدهشة حين تُطرح أمامه صفة (مُدون)، أو كلمة مُدوَّنة إلكترونية. وهذا طبعا - في اعتقادي- كان راجعا إلى هامشية الفعل على اعتباره ممارسة شخصية لم تتسع لتتطور وترتقي إلى قائمة الاهتمامات الأساسية لكل حاملٍ للقلم، أو ربما لكون التدوين حينها كان مجرد خربشات على جانب حياة كل شخص، يسوق أفكارا لعلها لم تبرح حيز الافتراضي، فحتى القارئ الإلكتروني لم يكن بدوره إلا مُدوِّنا، لهذا ظل هذا المجال مُنغلقا بشكل غريب... ونضيف إلى هذا أيضا أن غالبية المغاربة في فترات سابقة كانت علاقتهم بالانترنت علاقة اكتشاف مهد الطريق أمامهم مباشرة إلى ما يسمى (الشاث) أو الدردشة، ثم إلى المنتديات..، وظل الأمر يتطور ويتجدد بجهود مبذولة من جهة المُدونين (وأخص بالذكر الذين يكتبون بالعربية) كي يفرضوا أنفسهم داخل هذا العالم الافتراضي الواسع، ويساهموا في إغناء المحتوى العربي على الانترنت. إلى أن تصالح التدوين -قليلا- مع الوسيلة الاعلامية وخاصة في فترات ما أصطلح عليه بالثورات العربية، أو قبلها بزمن ليس طويلا، حين استشعر العالم العربي (بالأخص)، أن للمدوِّن دوره في هذه الدائرة الإعلامية والثقافية أيضا، ولم تعد تلك النظرة التقليدية الجافة مقبولة أن كل نشاط إلكتروني ليس إلا تسليةً أو تمضية للوقت. وبهذا استطاع التدوين المغربي بعد ذلك أن يكون له جسدٌ قائم بذاته، ربما لم يكن متماسكا بالقدر الذي كنا نعتقد، لكنه على الأقل حقق أمورا لم تكن متوقعة في بداية تقوقع كل مُدون داخل دائرته الافتراضية، قبل أن يَحملهُم قلق التدوين إلى الحديث عن ماهيته، وأشكاله، وخصوصياته على أرضية الواقع مما حفزهم ذلك على تنظيم لقاءات، وندوات، وورشات.. وطبعا هنا يعود الفضل إلى كل المدونين القدماء الذين ناضلوا من أجل ترسيخ مفهوم التدوين الالكتروني، وتطويره سواء تقنيا، أو حتى فكريا.. كما كان حرصهم دائما على أن يبقى التدوين الالكتروني حرا، بما أنه مساحة شخصية للتعبير عن آراء وأفكار ورؤى الإنسان بعيدا عن التقييد أو ممارسة سلطة الوصاية على الآراء والأفكار، أو تحديد مساحة الكلام وعدد الحروف المسموح بها. ومن الأكيد أنه ليس ثمة وسيلة تتجرد من القيود والوصاية مثله، بهذا فهو منبر من لا منبر له.
    ثم بعد ذلك بدأت في الأوساط التدوينية تطفو فكرة جديدة استطاعت أن تقلب المعادلة التي كان غالبية المدونين يعتقدون بها، أو على الأقل في تقديري لم يكونوا يفكرون في أن التدوين سينتقل من طور إلى آخر. فالكتابة كانت تتم من الواقع إلى الرقمي باحثة عن فسحة أكبر، خاصة وأن مستعملي (النت) كانوا في تزايد دائم، لكن فكرة جمع التدوينات في كتاب ورقي غيَّرت اتجاه المؤشِّر، فصارت الكتابة بعد الرقمي تنتقل إلى الورقي في تدرُّج تام. هذه الفكرة استهوت شريحة من المدونين خاصة من كانت لهم تدوِينات أو مقالات أدبية تستحق أن تزيِّن بياض الأوراق. وفي هذه المرحلة كان العمل يأخذ شكلا فرديا، وفعل النشر التدويني نادر. إلى أن بدأت تظهر مبادرات جماعية على الصعيد العربي فتحت باب المشاركة في الكتب الجماعية بالمجان، وقد ساهمت في المزيد من ترسيخ فكرة النشر الورقي لدى المدوِّنات والمدونين العرب، بل زادتهم تشجيعا، ولقيت المبادراتُ إقبالا كبيرا، وبهذه الطريقة دخل المدونون والمدوٍّناتُ الذين لم يُحالفهم حظ النشر غمار التجربة الورقية أو النشر الورقي، فكانت الكتب تضم مئة مدوِّن ومُدوِّنة تجمعهم لغة مشتركة وهي العربية.
    رغم أن هذه الخطوة سبقنا إليها نشطاء التدوين المصري، وقطعوا بها أشواطا كبيرة لسهولة الطبع والنشر والتوزيع. فإنني أزعم أن الفكرة لم تر الوجود الفعلي في المغرب إلا بعد استقرارها في مصر، ونجاحها أيضا، وأخص بالذكر هنا فكرة النشر الفردي.
وبين هذه الرحلة الطويلة كانت كل المبادرات متنوعة تضم الجنسين معا، بل حتى التدوين كان مجالا متنوعا ما بين الجنسين لم يستقل أحد عن الآخر، حتى ظهرت مبادرة خاصة وأزعم هنا أيضا، أنها مبادرة أولى من نوعها في التجربة التدوينية العربية، وهي أنطولوجيا نسائية، التي استطاعت أن تستقل بخصوصيتها عن الجسد التدويني المغربي، كي يخرج إلى الوجود الثقافي كتاب تميز بالانفراد لكونه يحمل بين دفتيه تدويناتٍ ونصوصٍ أدبية لمجموعة من النساء المغربيات داخل المغرب وخارجه تختلف ميولاتهن، متنوع في مضامينه يحمل أملا بين أوراقه، لأن هذه التجربة أكدت لنا بما لا يدع للشك مكانا، أن التدوين النسائي شهد تطورا ملحوظا، وأنه قادرٌ على الاستقلالية بما استفاده من التجارب السابقة. كما أن هذا العمل وإن كان متأخرا شيئا ما فإنه جاء في وقته المناسب بعدما رأينا فتورا في الفعل التدويني، وكسلا غريبا قد نُرجعُ أسبابه إلى احتمالات كثيرة منها: 

احتمال عام: 

المتغيرات السياسية في العالم العربي والمغربي بالخصوص، والتحولات التي شاهدناها في السنوات الأخيرة، جعلت غالبية المدونين وبالأخص الذين يعلِّقونَ على الأحداث ويطرحون آراءهم تصيبهم خيبةُ أمل، ولَّدت فتورًا في النفوس، لم تعالجه مستجدات أخرى، ولم يستفق الكثيرون من صفعات الصدمات المتوالية.

احتمال إيجاد بديل: 

انتقال غالبية المدونين إلى الشبكات الاجتماعية "وأهمها الفيسبوك" الذي منحهم بالأخص مساحة أوسع وأسرع للنشر والتفاعل والنقاش، بحيث أن هذا الانتقال راجع إلى أن الشبكة الاجتماعية يكسب فيها المدوِّن قراء آخرين من غير المدونين ولا المهتمين به، فهو خروج من مجال ضيق إلى مجال أوسع، وأكثر شعبية. فحدث الانتقال بشكل تدريجي حتى هجر أغلبهم مدوناتهم.
وجود مواقع أخرى انخرط فيها المدونون المدوّنات أتاحت لهم فرصة النشر أيضا وإن كانت بشكل مقيد نسبيا بالمقارنة مع المدوَّنة الشخصية، وهذا ما سمي بالصحافة الالكترونية.

احتمال خاص: 

انغماس أغلب المدونون والمدوِّنات في مشاغل الحياة ودوامتها التي لم تعد تترك لهم فرصا للتدوين، اللهم بعض التغريدات السريعة على التويتر أو الفيسبوك.

    لهذا فإن هذا الكتاب المتمثل في أنطولوجيا نسائية الذي صدر في بداية هذه السنة جاء في وقته المناسب، ولعله يعيد للجسد التدويني نشاطه السابق منذ سنوات ظهوره، أو لعله نبوءة جديدة لفعل تدويني نسائي قد يحقق ما لم يحققه المدونون المغاربة في فترة سابقة حين كانت هناك فكرة انشاء كتاب جماعي تشغل الجميع وتسطو على السطح وتُطرح للنقاش. وقد حاز الكتاب على ثناء الجميع وتم الاحتفاء به بتنظيم حفل توقع له في نشاط ثقافي نظمته مندوبية الثقافة بمدينة آسفي بشراكة مع رابطة كاتبات المغرب في إطار فعاليات الأيام الثقافية وذلك 13 -14- 15 مارس المنصرم. وقدم د. عبد الله اكرامن قراءة شمولية للكتاب والمدوِّنات التسع في ندوة عن التدوين النسائي بالمغرب. كما احتفت الرابطة الفرنسية باسفي بدورها بهذا الكتاب في أمسية قدمتها ونشطتها الأستاذة زهرة رشاد.

    لكننا اليوم نقف لنتساءل بعد كل هذه المراحل والسنوات والتجارب: هل يمكن للنشر الورقي أن يؤثر على التدوين الالكتروني وعلى رأسه التدوين النسائي، هل هذا الزحف أو الانفلات من الرقمي إلى الورقي في صالح التدوين الإلكتروني؟ هل هي هجرة أم عودة من الافتراضي إلى الواقعي؟ 
سابقا حين كان التدوين ملاذَ أغلبِ الذين يطرحون أرآهم وأفكارهم عبر الانترنت ومنتدياته، أحسَّ العديدُ من الكتاب والكاتبات والصِحَفيون بأهميته، لمصلحة الثقافة والإعلام، فكنا ومازلنا نجد لهم مدوَّنات تحمل أسماءهم أو أسماء مستعارة، على اعتبار التدوين أداة تواصل أفضل وطريقة أقرب للقارئ والمتلقي. حتى بثنا وقتئذ نتساءل هل يمكن للكتاب أن ينقرض بعد سنوات معدودة، أو هل يمكن أن يستغني الكاتب عن الطبع الورقي، لمَّا أصيب الجميع بدهشة الإعجاب بهذه الوسائل الإعلامية الجديدة المتاحة، بيدَ أننا صرنا اليوم نعتقد العكس حين رأينا هذه العودة الجديدة إلى أحضان النشر الورقي الذي صار همَّ الكثيرين والكثيرات، مما يؤكد لنا أنه لا استغناء عن الكتاب لأنه هو الأصل، والعودة إليه حتمية، كما أن التجربة التدوينية هي في نظري محطة أساسية للتواصل مع العالم، واكتساب التجارب، والاطلاع من خلاله على الهموم الحقيقية للإنسان العربي دون رتوش، ومعرفة أفكاره ومعاناته في مواجهة الحياة العامة، بعيدا عن مقص الرقيب، أو سلطة الناقد.. أعتقد أن التدوين حقق ما لم يُحققه الإعلام العربي الرسمي، بل صارت وسائل الاعلام العربية تعتمد في فترة على المدونات العربية في الخبر، والصورة، والآراء.

    بهذا فلا يمكن القول أن التدوين قد يموت أو يفنى بسبب النشر الورقي أو بسبب هذا التحول الجديد، بل يمكن القول أن التدوين قد يأخذ اتجاها جديدا، مختلفا بعد هذا الركود، وهو ما جاءت به الشبكات الاجتماعية الحيوية. وهذا -كما نرى- في خدمة هذا، الرقمي في خدمة الورقي. ثم إنه كما ظهرت وسيلة التدوين الالكتروني وتطورت إلى مساحة للتعبير فقد تظهر أيضا وسائلُ أخرى مستقبلا، حتى لو افترضنا أن التدوين انتهى عمره وتجاوزته المرحلة، أو تلاشى مع الأعوام القادمة، فالإنسان طلبا لغايته يبحث عن الوسيلة، ولن يعدمها مادام الانترنت موجودا، ورغبة الاكتشاف والابتكار سائرة.

     وبعيدا عن التفكير في الإشكالية برمَّتها، فمن الجميل أن نرى التدوينات صارت بين دفتي كتب ورقية تزاحم كتب مؤلفات العديد من الأدباء والمفكرين، ويساهم المدوِّن والمدوّنة في فعل الثقافة الورقية وتنوعها في زمن لم يعد حضن الكتابة قاصرا على كُتَّاب معروفين، هم من يستأثرون بالمشهد الثقافي والكتابة، فنحن في عصرِ ترويض الحروف والأقلام، وفي عصر يجب أن يتيح للأغلبية أن يكتبوا ويدوِّنوا، أو بتعبير أستاذنا الحبيب الدائم ربي: "لقد انفرط عقد "المؤسسة الحاضنة " لمعبد الكتابة في فوضى خلاقة اختلطت فيها الحوابل بالنوابل، هو ذا الانفجار الأعظم الذي سيطوح بأوهام الكتاب ويعولم الكتابة" انتهي كلام أستاذنا.
وأقول بدوري: فالزمن وحده كفيل بأن يغربل، فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.

الحلم الخيال ولغة الجسد مرتكزات السرد والحكي في مجموعة "قلت لي" لعبد الرحيم التدلاوي


يكون المسعى نحو قراءة النص القصصي قراءة واعية حين يكون الكاتب مؤثثا لغته وحريصا على بنائها وتنميقها وجعلها سهلة التناول، وفي الآن نفسه لا تتخلى عن عنادها وامتناعها وصعوبة استسلامها بسبب ما يميزها من عمق دلالي مؤثر على القارئ - كمتلقي- تأثيرا ينتج منه استجلاب الفكرة وتقريرها، متناولا (أي الكاتب) قالب القص باختزال وتكثيف حتى يحتّم على القارئ عملية الاستفزاز لطرح التساؤلات ووضع علامات التعجب أثناء فعل القراءة بناء على ما يصادفه من عناصر الدهشة المرتكزة في النص بتعمد ومع سبق الإصرار. تلك الدهشة التي تتغذى من عوالم التخيُّل والتي هي بمنزلة منصة مهمة لتشكيل ملامح الفكرة وتوريط القارئ في عملية التفسير والتأويل وتبرير العجائبي والغرائبي كي يوافق المألوف وينسجم مع الواقعي دون نشوز ولا تنافر. هكذا بنفس المسعى يمكن قراءة مجموعة "قلت لي.." للقاص عبد الرحيم التدلاوي. 
تضم المجموعة 22 قصة قصيرة، تتنوع مواضيعها التي تمتاحها من الواقع وتختلف باختلاف ما يُشغل تفكير الإنسان في الحياة، وما يقلقه من متغيرات طارئة على المجتمع وعلى الناس: كفعل الوصاية الفكرية والثقافية مثل ما جاء في قصة "طارق"، وقضية الإرهاب مثل قصة " انحسار"، أو رصد متغيرات المجتمع والحياة الحديثة وما لها من أثر سلبي على الإنسان ونفسيته، ومع محاولة استحضار أمجاد قديمة في ظروف هذا الواقع المنهزم المنبطح، مثل ما تناولته قصة "طيات" التي لعبت على العنصر المكاني وهو مدينة مكناس/ ساحة الهديم / حلقة الحكواتي فكانت هذه الأماكن منصة مجازية لتأسيس فكرة النص العامة، والتي -نسبيا- تؤطر قناعة المغربي - ضمن القصة- بأن الماضي خير من ورطة الحاضر. ثم بعملية مزج بين ما هو واقعي وما هو خيالي جاء النص كأنه يعرض جزءا من تاريخ المدينة وحاضرها بشكل موجز وسريع مع تحديد المفارقات..، وفي شكل إشارة خاطفة ومتخيلة استطاع الكاتب أن يجعل شخصية النص تستحضر السلطان إسماعيل ليورطه في حوار افتراضي، به يربط ما بين الماضي والحاضر، ربطا يُسفر عن أنه ليس كل ما يروى عن شخصيات الماضي قد يكون صحيحا وأنه ليس من المنطق محاكمة أفعالهم بمنطق العصر وبناء حكم على أسس عصرية، ثم إن هذه الشخصية التاريخية أو غيرها لها أيضا ما تنتقد به الواقع المعاصر لو افترضنا حضورها الآني: » إن عظامنا لتتقلب في التراب ألما على ما أنتم عليه«، بيد أن بطل القصة أو السارد لم يتخلص من انهزاميته إذ في النهاية يفضل النوم والأحلام على أن يواجه حاضره بنوع من الشجاعة، اختار النوم في انتظار معجزة ما تغير الواقع وتنشئ الناس نشئا آخر. 
ولنفس الفكرة نجد بين سطور قصة "رمية سحر" ما يوافقها ولو كان على شكل سخرية من واقع مر » فضح الراهن المتشرذم (...) فضح الفرقة والاختلاف وإدانتهما بالقياس إلى ما كان يجب أن يكون، أي بالقياس إلى حقبة زاهرة وضعت الأشياء في نصابها«1 واقع يستدعي الحسرة مادامت الحقيقة لا تستجيب أو لنقل لا تجد من يستجيب لها حالا فتستحيل (على سبيل السخرية كما في القصة) إلى حلم مرعب لا يتوافق مع الواقع الحاضر ولا ينسجم معه، وهذا مادام » لا يقوى النوع البشري كثيراً على تحمل الواقع" كما قال توماس إليوت فيلجأ إلى الأحلام. نقرأ: » استيقظت بهمة ونشاط غير عاديين، نفضت عني حلما مرعبا، رأيت فيه العرب قد اجتمعوا على كلمة واحدة بجيش قوي استعاد لحن الفتوحات«. ومن نفس القصة نستطيع أن نستشف قدرة القاص على تشكيل الرمز كلبنة أساسية للفكرة من دون إبرازها ولا تحديد ملامحها بالمباشر بل هي ضمن النص كله باسطة ذراعيها تدعو القارئ أن ينالها بقدر من النباهة، فلو نظرنا إلى شخصية النص الساردة قد نكتشف أن الكاتب اتخذها رمزا للواقع الذي غالبا ما يتحدث الجميع عنه ما بين من ينتقد ومن يدافع، ومع ذلك لا أحد يعي هذا الواقع وعيا دقيقا أو يلم بكل الحلول لمشاكله، نقرأ هذه القرينة: » توجهت إلى رفاقي، كانوا متحلقين حول طاولتهم المعتادة منكبين على الحدث، يقرؤونه من زوايا مختلفة، كما تعودوا أن يفعلوا كلما داهم زلزال واقعنا الراكد...
ما أثار استغرابي أني سمعتهم يتحدثون عني، بعضهم ينتقدني بشدة، وبعضهم كان إلى جانبي يدافع عني ويبعد كم الاتهامات غير الصادقة في حقي.(...) ولا أحد أعارني لفتة انتباه انصرفت خائبا.. «
كيف يتم معالجة واقع لا يُدرك إدراكا تاما، بل يتم تجاهله وتجاهل مشاكله وتنعدم رؤيته بفعل الاعتياد على نمط لا يتبدل. أفبهذا يحتاج هذا الواقع "رمية سحر" أو معجزة الزمن الأخير، أم أن وَهْم الحل يبقى حبيس سلطة الحلم فقط؟.
رغم أن هذه النصوص تمارس نقدا وتتناول موضوعات ذات نزعة إنسانية واجتماعية إلا أنها لا تقدم حلولا، إذ وظيفة القصة القصيرة هي رصد الحالة وتوظيف الصورة بتقنية حتى يتولّد السؤال الذي هو مبدأ الإشكالية أو تتناسل الأسئلة في ذهن القارئ الذي هو الطرف الثاني في بناء النص... وحتى لو اتفقنا مع تشيخوف أن القصة كذبة يتفق الكاتب والقارئ عليها ضمنيا فإننا نؤمن - على المستوى الأول- أن كذبها صادق إذ إنها تطرح إشكاليات المجتمع وتنتقدها.. فالحدث متخيل وهو ما نسميه كذبة متفق عليها، ولكن المضمون صادق والفكرة صحيحة وحقيقية.

وفي نص "تحليق" يتناول قصة مدرس يتوسل بخياله لتصوير وهم عميق يفصله عن الواقع والمكان الذي هو حجرة درس تشبه زنزانة، فيختلط لديه الحلم باليقظة وبالوهم فيحلق به بعيدا في الوقت الذي ينشغل التلاميذ بملء أوراق امتحانهم. 
وقد اعتمد الكاتب في هذه القصص خاصية مزج السرد بين الخيال والحقيقة، وتداخل هذا في ذاك، فشخوص هذه القصص تبني حقيقتها على الخيال باعتباره فسحة أوسع قادرة على احتواء وتشكيل ملامح الحقيقة أو بتعبير رالف والدو: » يكشف الخيال ما تخفيه الحقيقة «.

كما أن حضور المرأة يلفت انتباه القارئ، فالمرأة كأنثى تستأثر بلب الرجل وتشكل تفاصيل تناقضاته فهي مرآة عاطفته، وهي حلمه كما في قصة "نظرات"، أو في "أنا وهي والغروب". أما في قصة "بلوغ" و"هيت لك" فيُبرز الكاتب ضعف عاطفة الرجل أمام إصرار الأنثى، وفي قصة "شريط" و"انحسار" : حاجة الرجل إلى المرأة كحاجته إلى الحياة. أما قصة "في عشق النساء" فتصور عشقا صوفيا مجردا من كل القواعد والضوابط، تفنى أمامه الماديات، وبهذا العشق النسائي كان هلاك بطل القصة في نهاية تمزج بين روح السخرية والأسلوب الشاعري...
وبهذا فإن محكيات عبد الرحيم التدلاوي في "قلت لي" تتخذ الحلم والخيال مرتكزا لبناء النص والجسد سارية » لحكي مثير يحول ظاهر الأشياء إلى معاني ودلالات مفتوحة على تأويل متعدد يحمل في طياته بشاعة الفقد والتلاشي والفناء «.2
كما لم يركز الكاتب على تحديد أسماء شخوصه، ولا القارئ أيضا قد يُعير لذلك اهتماما لسبب أعتقدُ أنه أساسي وهو أن شخصية كل نص لا تختزل ذاتها ووجودها في اسم تحمله بل في نمط تفكيرها وطرق تصرفها وعمق الفعل الذي تأتيه سواء اقتادها العقل، أو اقتادتها العاطفة، أو الشهوة بإغراءات الجسد، أو دوافع الحلم الملحة. فهذه الأربع هي على شكل تركيبة إنسانية حقيقية، منها تتشكل شخصية الإنسان وتناقضاته مع نفسه ومع مجتمعه ومفارقاته الكثيرة في الحياة، ومنها أسس الكاتب ملامح شخصياته في هذه المجموعة طبقا لطبيعة الإنسان على أرض الواقع فالقاص لم يتكلف في صناعة أو رسم ملامح الشخصية المثالية المزيفة أو التي تدعي التحليق في سماء المثالية، ولعل النص الأول "قلت لي" الذي افتتح به الكاتب المجموعة يشير ضمنيا إلى هذا الطرح: » أول مرة أراني مباشرة، ومن دون رتوشات، أقصد من دون أن تتدخل ريشة التعديلات المحققة للزيف (..) وتركتني عاريا أوجهني بمقت«.

إن هذه المجموعة تنتقد طبيعة الإنسان دون أية رتوش، فهي تنتقد علاقة الرجل بالمرأة كنصف المجتمع، والمرأة كأنثى وعاطفة وجسد، وعلاقة الإنسان العربي بحاضره ومستقبله، علاقة الإنسان بنفسه أولا وبمجتمعه ثانيا، وعلاقته بالسياسة والانتخابات مثل ما حدث في قصة "شقاوة" تارة بشيء من السخرية وتارة بجدية وحزم، ومع أن هذا النقد لا يبرز بشكل واضح غير أنه يسيطر على نصوص المجموعة كلما توغلنا في الولوج إلى عوالم المبدع عبد الرحيم التدلاوي. كما أن الكاتب يلجأ إلى التناص ليضفي على إبداعه بعدا جماليا مبني على قدرة في التوظيف، وتقنية فنية تخرج النص القصصي عن النمطية والتقليد، أو تكرار نفس البناء السردي.

وبعد، هذا ما ألهمته أثناء قراءتي للمجموعة، ولكل قارئ قراءته.

---------------------

1- محمد السرغيني قراءة في ديوان يتيم تحت الصفر لمحمد عزيز الحبابي.
2- حميد ركاطة/ ألم الكتابة وكتابة الألم في ضمير مؤنث لحميد الراتي.

المقالة سبق أن نشرت في المنعطف الثقافي 17/09/2015


شاي وبعض تاريخ


حديثُ الكؤوسِ

بين جلَّاسي،

بَهيٌّ..

أوَ لا تدري؟..

كم كان أروعَ!

شرشرةُ شَاي

صداها

كموالِ أطلس

تغنّى التاريخ به

وإلينا

أو بنا أسرعَ

إلى ذكر بن تاشفين

فأندلس

شتاتا كانت

حين يوسفُ إليها أزمعَ

ثم السقوط..

ذكرنا حقبةً

فبلغ الحديثُ فينا

عمقا وأوجعَ

وشربنا على ذكر الجزيرة

خمرة قصيد

فأرثى الشعر

حتى جفنُه أدمعَ

وكأن "ابن البقاء"* بيننا أنشدَ

كأنه لذا الزمان أسمعَ.

وسبعة رجال*

مناراتٍ

حسبنا التاريخ

لأسمائهم ما ضيَّعَ

بركات علم وولاية،

مراكش..

هذا القلبُ هواكِ ما ودَّعَ

تحلو الطقوس في حضرة الشاربين

حين الساقي لتلك الكؤوس وزَّعَ

فيا جلسة قام فيها الشايُ أميرًا

عليه كلُ مغربيّ أجمعَ.

رشيد أمديون

* ابن البقاء الرندي صاحب قصيدة رثاء الأندلس
* سبعة رجال هم سبعة علماء وأولياء دفنوا بمراكش من بينهم القاضي عياض..

أنظرْ إني أرى..


هي ذي الفقاعاتُ كأحلامٍ شاردة..
كعطرٍ تنفسَهُ الوجودُ فسارت ذراتُهُ على حِدَة.
حياةٌ تتموسقُ على إيقاعٍ مُرتخِيِّ الصَّمتِ، عميقٍ لهُ بالجمال صِلَة..
هي ذي يا صديقي، تطير من فوق سطح منزل. كم هي بديعة! دعنا نقتربُ قليلا لعلنا نستمتع بقدرٍ زائدٍ من الرؤية البريئة...
...
أتَراها؟ إنها كثيرةٌ تملأ هذا الرّحب وكأنها آمالهُ الصغيرة الوديعة، يحاولُ أن يطلعنا عليها جهارا، نهارا.. أليس المنظر جميلا وممتعا يا صديقي؟ أحسُّ أنَّ الطفل يدخل في تجربة استمتاع يتوَحّد من خلال فقاعاته مع العالم كأنها تحمل روحه الطاهرة الصادقة، ويراقبها باهتمام بليغ، في محاولاته أن يغطي الهواءَ، أن يعيدَ رسم ملامحَ هذا العالم الكاذب بالفقاقيع الطائرة، والسلام المحلق معها..
أنظر يا رجل... لماذا تحدِّقُ فيَّ هكذا كالأبله. أغلق فمك الفاغر. أنظر ألا تراه؟
- مَن؟
- الطفلُ.. الطفل الذي أحدِّثك عنه وفقاعاته الصافية.
- اها.. نعم نعم، أراه بوضوح تام كما أراك أنت.. بل إنَّي أراه أفضل منك. أوليس هو الآن يصنع فقاعة عملاقة بحجم منطاد صغير.. بدأت تطير ببطء.. أنظر..
- أين..؟
- ألم أقل لك أني أرى أفضل منك، اذهبْ وضع نظارتين كي تبصر جيدًا لقد بدأت في سن الشيخوخة...
- تبا لك، أنا لم أتجاوز بعد الستين...!!
- الهواء يعيد الفقاعة الكبيرة في اتجاه الطفل. تلتقي، تلتصق به.. يا إلهي..! تبتلعه وترتجُّ، تضطرب حركتها.. تبتعد. إنه بداخلها.. الطفل بداخلها..!
- ماذا تقول! هل أنت تحلم؟ أين..؟ كيف تطير فقاعة صابون بطفل؟! إما أنك لا ترى بوضوح، أو أنك تهلوس بوضوح..
- بل الحقيقة ما قلته.. أنا عاقل أكثر منك..
- لا لا، أظن أنه (طَارَ لكَ الفَرخْ) وليس الطفل هو من طار، وغصت في الجنون وتريدني أن ألحق بك ها ها ها..
- بل أنت ماكر، تنقص أهمَّ شيء من الحقيقة. الجناحان، بغيرهما، كيف تريد للحقيقة أن تظهر أن تحلِّقَ، أن تنعم بالوضوح.. أنت تنقل الخبر مبتورا. هب أني لست مبصرًا، أو أني لم أكن شاهد عينٍ. طبعا كنت سأصدق تعتيمك اللئيم، وهكذا تفعلون دائما لا تنقلون الحقيقة كاملة وتدَّعون المصداقية والنزاهة...
- وما شأني أنا بهذا الكلام، أنا لست صحفيا ولا كاتبَ تقرير.. إنك تبالغ يا صديقي العجوز..
- أنظر، الطفل داخل الفقاعة محلق في الهواء يكادُ يختفي... طائر "البلَّارج"... حقير..
- أين هو..؟
- هناك.. نقر الفقاعة فتلاشت. سقط الطفل... أوووه، لقد ارتطم بإسفلت الشارع، يا للمسكين وقع على وجهه!.. والدم...
- أقسم أنك مجنون يا هذا، أنت تؤلِّفُ قصة من نسيج خيالك، بل وتقول ما لا يمكن للعقل أن يقبله قطعا. يقولون أن الرجال حين تشيخ تُخرِّف، "يحسن عونك"... هو ذا الطفل مازال فوق سطح المنزل، أنظر مجددًا لعلك تهتدي، بالله عليك أن تعيد النظر، ها هو يلهو بفقاعاته ألا ترى إشارته الصغيرة نحونا، لقد تفطن لوجودنا وجدالنا. كم هو وسيم.. وضحكته بريـ...
- يبدو أنك ستصيبني بدوار. هل أكذِّبُ أمّ عيني وأصدقك. تعال لنقترب من مكان سقوطه، فهناك الناسُ يجتمعون، يحلقون حوله، ويحاولون إنقاذه.. ربما.. ومنهم من يحمل هاتفه ليصوِّر المشهد. ليتهم صوَّروا الفقاعة التي أسقطته على الأقل كنتُ سأجد ما أثبت به كلامي، أما أنا فلا أملك هاتفا. أحدهم خارج الحلقة يتصل بسيارة الإسعاف كي تأتي بسرعة.. أفلا تسمعه..؟ آخرون يهرولون نحو الحادث. أنت وحدك من لا تصدق ما حدث، أنت وحدك من لا ترى إلا الأشياء التي تريد، ولا تصدق إلا ما تريد..
- أيّة إسعاف وأيّ ناس الذين تدعي وجودهم في هذا المكان الذي يكاد يكون خاليا، لا يوجد فيه إلا أنا وأنت وذلك الطفل الذي يطل علينا من سطح منزلٍ، وبعض المارة من حين إلى آخر، والمنزل في الجهة الأخرى من الرصيف. ثم كيف تريد إقناعي بهرائك، وأنا مازلت أبصر فقاعات الصابون من يده يلاحق بعضها بعضا، بل..
- وما شأني أنا بما ترى عينك، أنا أحدثك بما أراه الآن هناك على الواقع.. على بعد عشرين مثرًا أو أكثر.. أيكون الطفل قد مـ..
- وأنا عما أحدثك، أَأُحدثك عن ما رأيته منذ عام مضى، هل تهزأ بي؟.. "طارت معزة" أم طارت فقاعةٌ بطفل؟.. كيف لي أن أثبت لك وهمك؟ أوووف، لا يوجدُ بهذا المكان شخص غيرنا حتى نحتكم إليه...
- بل يوجد، أنت من لا تبصرهم يا أعمى. هناك أشخاص كثيرون، لنسأل أول شخص يقبل في اتجاهنا.. ها هو واحد منهم يمر من الرصيف، على ما يبدو أنه من هذا المكان.
- اسأله إذن لتعرف أنك في ضلالك المبين.

- هييه.. تعال من فضلك: ما تفاصيل الحادث الذي وقع هنا؟.. الحادث.. كيف، لم يقع أي حادث! لا لا انتظر... أقصد الطفل.. الطفل الذي سقط من فقاعة الصابون.. ابن الحرام "بلارج" نقرها... لقد تأخرت سيارة الإسعاف كثيرًا أليس كذلك؟، دائما متأخرة.. هل مازال حيا؟.. كيف..؟ لا، من فضلك أنا جاد في كلامي... ماذا؟ ليس هناك أحد، ولا أحد.. هل أنت متأكد؟ وماذا عن فقاعة الصابون.. العملاقة؟ ماذا..لا..
- مهلا مهلا سأسأله أنا، إنه دوري: هل ترى يا عزيزي ذلك الطفل فوق سطح البيت الذي قُبالتنا؟.. ماذا! الطفل.. نعم..هناك، أنظر جيدا من فضلك... الطفل الوسيم الذي يلهو بفقاعات الصابون فوق سطح المنزل أنظر هناك في الجهة المقابلة.. لا لا، كيف لا يوجد هناك بيت.. أنا أراه وصاحبي أيضا يراه... انظر جيدا من فضلك... تعال تعال.. انتظر.. عد.. عد..
(ارجع البصر كرتين..)
إني
أراه
إني
أرى.

رشيد أمديون
24/03/2015


مولد قصيدة


في مولدِ كلِّ قَصيدة

يَأتيكَ فَرحُ صبايا

ينثرنَ البراءة من عيونهن

يأتيك هفيفُ المرح عجولا

يُشاغبُ انفلاتك من زمن الانزواءِ

يُغازلُ روحكَ بعشق قيسيّ 

سافر خلف الجنون وعاد.



منك تولد القصيدةُ وتسرِّح شعرها الغجري على امتداد هذا الخلاص

بعد مخاض يؤلمُ وجودك بين الـ بين بين.



العالمُ فسحةٌ تمتلئ بفيوضات وجدانك الآن..

القصيدةُ من هناك تسعى

من الغيب

شدّت

الرحال.


رشيد أمديون


الجانب الحسِّي في لقاء آسفي


(اللقاءات الثقافية تفاعل حسي قبل أي شيء آخر)

     ما كانت كل آمالنا قادرة على التجلي أمام رغباتنا المِلْحاحَة التي تحدث ضجيجا بداخلنا، تلك الرغبات  التي من بينها - أساسا- الحرص على أن نعيش لحظةَ وجود، لحظة تحقيق آمالنا، لهذا فهي تأتي فرادى وعلى حدَة، قد يُباعدُ الزمنُ بين فتراتها ويتراخى، لأن تحقيقَ كل شيء دفعة واحدة هو نوع من الانطلاقِ المُجازف قد يقتلُ فينا القدرة على المواصلة والاستمرار، أو قد نصاب بالعجز باكرا  قبل أن نقطع ميلا واحدا من تلك الأميال التي تنتظر سَيرنا الحثيث، فالتدرجُ سنة من سنن الحياة والكون. كما أنَّ كل حدث يأتي فنحن بطبيعة الحال من نؤثث له ونهيئ له جوا يليق به وبقدومه. ربما تلبس نفوسُنا هواجسَ الخوف ويسيطر القلقُ من النتائج على تفكيرنا بقوة شديدة المراس، ولكننا نتحدى بإصرار، لنفتعل قوة الإستمرار، لأن الهدف كبير يستدعي ذلك، وما كل حدث مقبلٍ إلا محطة أو درجة من درجات الصعود والتقدم نحو المبتغى.

     إن هذه المقدمة لَهي بمثابة كلام.، قبل أن يرتقي به الحال وهو في تلك اللحظة التي ولد فيها، كان ما يزال نوعا من الإيحاء الذي لم يُفصح بعد، إني ألهِمْتُه في موقف ما، في لحظة ما..، لعله ما قرأتُه في عيون كاتبات أنطولوجيا نسائية الحاضرات في تظاهرة مدينة آسفي التي نظمها فرع رابطة كاتبات المغرب بشراكة مع مندوبية وزارة الثقافة (13-14-15 مارس 20015)، كان يحق لهذا اللقاء -بالنسبة لي- أن يلهمني أشياء كثيرة، أن يسير بي إلى عوالم أفك فيها شفرات الصمت، وما لم يُقل إلا بإيماءات تبدو أثارها على وجوه مستبشرة بالخير. بصدق سعدت بالدعوة، وكنت سعيدا أيضا بهذه الخطوة التي أقبلَت عليها صديقاتي المشاركات في أنطولوجيا نسائية (أمل الصالحي، ولطيفة شكري، وسناء البركي، وليلى أفخاري، وسناء وحنان الحناوي، وأمل أعبور، وحنان الدريسي، ومثال الزيادي)، وإن كنت مشتاقا للقائهن جميعا في زمن واحد ومكان واحد، فمن بينهن من لم ألتق بهن بعد، غير أن الظروف التي حالت بين حضور أغلبهن، كانت سبب عدم تحقق هذه الأمنية. 

   
  أحببت أن أكتب تدوينة عن بعض من قابلتهم في تلك الأيام التي قضيناها في رحاب آسفي، لأن الكتابةَ مجال رحب للتعبير، ووهاد ووديان وميادين تتسع لكل مقال، فهي القادرة على لملمة الشتات وضبطه بالكلمات. الكتابة هي معانقة الشيء حتى يمتلئ دفئا، ثم إرساله لمصير القراءة.
وبهذا، فإنه يحلو لي  أن أتناول الحديث بإيجاز عن صاحبات الكتاب اللواتي حضرن اللقاء، ليس من باب المجاملة ولا قول ما ليس له علاقة بالحقيقة، فأنا لست مرغما ولا ملزما على الكذب، وإنما أكتب من باب الصراحة وقول ما شعرته وأحسسته وتفاعلت معه، وما ترك فيَّ من أثر لا يجب تجاهله، فكما يطيب لبعض المسيئين أن يغتابوا الآخرين من باب النقيصة والانتقاص، فيطيب لي أنا أن أذكر  في الأشخاص ما أراه يستحق الذكر، فمن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والكلمة الطيبة خير مشجع، وإن لم تنفع بشيء، فعسى أن تكون من باب الاستئناس. 

   - مثال الزيادي الآسفيّة - نسبة إلى آسفي- هي المنسقة وصاحبة فكرة الكتاب، مثال الزيادي التي منحتنا بصفتنا مدونين -أولا وقبل كل شيء- ضوءًا أخرَ لا يمكن تحديد لونه وشكله، أو حتى البعد الذي يقف عند حده، هو إشراقٌ جديد، وابتدع إحساس مختلف قد أقول أنه وُزّع على كل قلوب من حضر أنشطة الأسبوع الماضي، وما نقص منه شيء. مثال الزيادي عضو رابطة كاتبات المغرب فرع آسفي، التي أثبتت لي أنا شخصيا وبعد تواصل قد يقرب من عام كامل أنها تمنح وتعطي أكثر مما تأخذ، وما يزيدها ذلك إلا إشراقا لمحياها البشوش، وبسعة صدرها تنال تقدير الجميع.

   - حنان الحناوي، التي إن استرسلت في الحديث، تكلمت بعفوية، هي تعرف ما تريد، وتختار بعناية وبدقة، وتنتظر نقدك خافضة جناح الإصغاء. شاعرة شاركت بقصائدها وغردت فوق منصة مسرح مدينة الثقافة والفنون بآسفي أمام الجمهور الآسفيّ.

   - سناء البركي، الفراشة التي أتت بها ريح مرسلة من فرنسا كي تحضر حفل توقيع كتابها "سِفر التغريد"، وكذا الكتاب الجماعي "أنطولوجيا نسائية"،إنها فتاة تتشبث بخيوط الثقة والعزم، وتشق الطريق نحو الأصعب، قلبها موزع بين الـ بين بين. أناديها دائما بابنة بطوطة، لكثرة تنقلاتها وأسفارها. تقدّر مجهود الآخرين. ويخونها التعبير حين تريد أن تشكر.  

   - سناء الحناوي، (مروكية) الطبيبة والمدونة المجتهدة الناشطة، صاحبة الدمعة النازلة على جفنها في موقفها الإنساني الذي أوقف كل الحاضرين في ندوة التدوين النسائي، كي يصفقوا لها بحرارة وباحترام وتقدير. في باطنها شعلة من المشاعر الإنسانية، وأكثر المدونات حديثا عن المرأة، وتفاصيل العلاقات التي قد لا نعيرُ لها بالا.

     كنت أتمنى أن أكتب عن كل المشاركات في الكتاب، لو كانت الظروف سمحت لهن بالحضور. بيد أني أحب أن آخذ إستثناءً لأشير إلى مدوِنة أخرى كانت قد أزمعت على الحضور إلى أخر لحظة لولا الوعكة الصحية التي حالت بينها وبين ذلك. إنها حنان إدريسي، التي تكتب القصة بشكل جميل، (وأتفق مع الأستاذ الدكتور عبد الله اكرامن الذي أشار إلى ذلك حين تقديمه لكتاب أنطولوجيا نسائية في ندوة التدوين النسائي بالمغرب). حنان إدريسي لديها قدرة رائعة على تطوير نصوصها، في رحلة البحث عن النص الذي تتمناه. إنها زهرة الثلج التي تقاوم وبإصرار. ولعلها كانت حاضرة معنا بروحها وإحساسها في كل أنشطة اسفي.


وكما أني من خلال هذه التدوينة أشكر أشخاصا ربما كان لقائي الأول بهم، أشكرهم لأنهم أبانوا عن معدنهم الطيب:
  •  السيد مندوب وزارة الثقافة بآسفي، السيد لحبيب الأصفر، أشكره لأنه رحب بي شخصيا، وسهر على إنجاح هذه التظاهرة الثقافية والفنية، ووعدني بشيء ما، وفي وقت ما غير محدد... بصراحة نحتاج مثل هؤلاء الذين يعطون للفعل الثقافي حقه.                                                                                
  • الأستاذة رشيدة شاركو، التي تحولت معرفتي بها من الافتراضي إلى الواقعي، وتشرفت بمعرفتها أكثر. 
  • الأستاذة زهرة رشاد، التي قدمت قراءة جميلة لكتاب أنطولوجيا نسائية بالرابطة الفرنسية، تناولت الحديث - قبل أن تفتح باب النقاش- عن ماهية الكتابة والتدوين النسائي، وهموم المرأة المغربية خصوصا والعربية عموما انطلاقا مما تناولته بعض تدوينات الكتاب. كما أشارت إلى مقاربة النوع الاجتماعي، من خلال المحاولة في تجديد العقليات وكسر نمطية التفكير.
    فُتحَ باب النقاش لمشاركة الحضور بآرائهم، ووجهات نظرهم المختلفة، وكل ذلك في جو يسوده التقدير والاحترام، مهما اختلفت الأفكار.
    الأستاذة زهرة رشاد أسمعتنا من إبداعها قصيدتين جميلتين مختلفتين في الزمان مشتركتين في نظرة الإنسان لكل مرحلة عمرية خاصة.                  
  •  الفنان التشكيلي والنحات محمد قلقازي. قلبه قلب فنان مبدع حقيقي، بالنحت يبعث في الموات حياة، تناولنا معا الحديث والشاي بمنزله.                   
  • الصحفي عبد الإله خضيري. أتيحت لنا فرصة تشاركنا فيها الحوار، وتناقشنا طويلا ونحن نتمشى بين شوارع آسفي، في جو مسائي جميل. عبد الإله شاب حيوي ديناميكي، لمدينة اسفي حق الافتخار به وبأمثاله.        
  • الأستاذة الطيبة والمثقفة عتيقة الزاكي، السيدة البشوشة الخلوقة. كنت ألمح في صمتها بهجة وهي تصغي إلينا بعناية واهتمام.                                                                      
  • السيد عبد العزيز الموذن صاحب متحف رائع وغني بكل الأثاث والتحف التاريخية الفريدة، هذا الرجل الذي وهب منزله الأثري ليصير متحفا يختزل بعض تاريخ المدينة وتراثها وثقافتها العريقة، أشكره لأنه لم يبخل علينا بثقافته وبإلمامه المعرفي. رجل يحمل همَّ إبراز جمالية مدينته وقيمتها التاريخية، والتعريف بثقافتها القديمة وتحفها. استرجعت وأنا داخل المتحف ذاكرة الأشياء: الفونوغراف والأسطوانة القديمة، آلات الخرازة وآلات النجارة القديمة، آلات الحجامة.. تشعر أنك مسافر عبر آلة الزمن إلى الماضي.
وأشكر جميع آهل أسفي الطيبين، فنانين، وشعراء، وجمعويين...

Join me on Facebook Follow me on Twitter Email me Email me Email me Email me

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | تعريب وتطوير : قوالب بلوجر معربة