يوم الثلاثاء، لا تشبهه الأيام؛ شمسه ذهبية، رافقت صبحا نفض عن ردائه بقايا كسل ليل ثقيل. باسمة للحياة، ناشرة نورها من أفقها العالي..
في المنزل فرحة مشعة كنور شمس هذا اليوم. أثر بهجة على جدرانه، وعلى كل تفاصيله. حتى رصيف الباب مختلفٌ يوم الثلاثاء.
الفرحة لها مظاهرها تبرز في الحركة الغير عادية لصباح يوم الثلاثاء البهيج.
الأب لم يذهب إلى العمل هذا الصباح، ظل مستلقيا على فراشه إلى الساعة التاسعة.. لم توقظه إلا زوجته بإصرار، وهي تلح عليه بنداءات متكررة، تدعوه...
غمغم من تحت الغطاء قبل أن يجيب:
- ألم أحضِر كل الحاجيات أمس..؟
- قم.. مازلت بعض الأغراض تنقص!.
يقوم مطيعا، ينفد الأوامر الصادرة من ربة بيت تحب كل شيء متقن. لا مجال لديه ليناقشها، تلك معركة خاسرة، أكيد أنها خاسرة.
يحضر ما طُلب منه. يسلمه إلى زوجته التي وضعت له وجبة الفطور. يجلس على الأريكة، ثم يفتح جريدة ابتاعها أتناء خروجه إلى السوق، يتصفح ويقرأ.. أخبار يوم الثلاثاء!.
¤ ¤ ¤ ¤
الأم وابنتها كما العادة تعدان ما لذ وطاب، بل تبالغان اليوم في تحضير كل شيء، تسكنان عالمهما المطبخي، ومختبر تجارب الوصفات الغذائية المتنوعة التي تقصم بعناصرها (المكونة) ظهر الوالد بتكاليفها الباهظة.
سوسن زهرة الدار المدللة، شبت لا يُرفض لها طلب. في ربيعها الثامن عشر. حسناء، شهد الجمال منها يقطر عسلا. وحيدة والديها بعد شقيقها الأكبر. مهوسة كأمها بشؤون الطبخ، حلويات وكعكات، وأشياء أخرى تجعل كل من يدفع ثمنها هو رب الأسرة المسكين.
باكرا استيقظت اليوم، وبنشاط زائد ليس كعادتها، راحت منهمكة تعد الفطور قبل أن تستيقظ أمها، أرادت أن تثبت لها أنها اكتسبت المهارة الكافية، فكان يوم الثلاثاء خير يوم تحدِث فيه أمرا.
بجدٍ كانت تعمل قبل أن تعاودها دوخة خفيفة، لكنها هذه المرة أشد، كادت أن تُسْقطها أرضا لولا أنها اتكأت وأسندت جسمها الرخو إلى الجدار، سحبت كرسيا من جانبها فهوت عليه بكل ثقلها.. يدها اليمنى كانت تتحسس مكانا في جسدها، تلمس ببطءٍ بطنها الصغير، كمن تتفقد شيئا.. يتصاعد نفسها العميق محدثا زفرة حارة.. شاردة الفكر تذكرت ما قالته لأمها قبل أيام:
- يوم الثلاثاء سيأتي مع أهله.. ليكلمكم!.
صوتها كان متهدجا حين قالتها، وحمرة على الوجنتين استقرت كأثر الغروب.. أترى كانت تخجل من أمها كما يخجل الليل من النهار حين يودعه؟
لم تستمد من الغروب حمرة الخجل وحدها بل إنها استعارت رداء الغروب بكل معانيه..
تذكرت جيدا ابتسامة أمها المبهمة المخيفة، ابتسامة رمقتها بلحظ عينها اليسرى.
- عن ماذا سيكلمنا؟
لم تنتظر الأم من ابنتها جوابا، بل ردت وبثغرها ابتسامة مستقرة، منحت سوسن شيئا من الطمأنينة:
- من هو؟.. متى تعرفت عليه؟.. أين وكيف؟..
ومساء ذاك اليوم أسرت لها بكل التفاصيل المملة.
¤ ¤ ¤ ¤
كان يوما ربيعيا مشمسا وجميلا.. سوسن في المكتبة تبحث عن كتاب.. استدارت بخفة، فاصطدمت (دون أن تنتبه) بشخص..
وقع منها الكتاب، وقع أرضا. كقلبها الرقيق وقع...
ابتسم الشخص واعتذر...
انسجمت النظرات.. وأخذهما الطريق معا، (ابتلعهما كالدوامة)...
حديثهما انسجم...
تقارب الزمن حاملا معه لقاءات بمتعة الشوق، تقارب الإحساس أكثر..!.
وسيم، فارع الطول، منسق العضلات، مغري الشعر، عذب الملامح.. هكذا كانت وبمتعة تصفه لصديقتها يوم سألتها باهتمام.
أمها تحذرها ليلتها، قائلة:
- إياك أن تكوني...
- لا، لا.. لم أخرج معه إلى مكان آخر، لم تتجاوز أقدامنا ساحة الثانوية..
أدارت وجهها عنها متظاهرة بالانشغال في تجهيز لباسها.. لا تملك النظرات أن تخفي الحقيقة وإن زيفتها الكلمات، هي ليست بارعة لحد أن توفّق بين ما ينطق به لسانها وما تخفيه عيونها العسلية الجميلة. ما وراء هاتين الحدقتين هو الحقيقة. أكيد أن أمها إن نظرت فيهما ستقرأ الشفرة، وتفهم المعنى. هي لم تنظر، هي تثق بزهرتها الجميلة. لطالما كانت تفتخر بها بين صديقاتها، وتعتز بخلقها الحسن وبثقتها في فلذة كبدها.. يحلو لها أن تقول أن أبنتها لا تشبه باقي فتيات هذا العصر.. "جمال وأخلاق ما شاء الله".
¤ ¤ ¤ ¤
متفوقة كانت في دراستها قبل أن تعرفه وتحبه.. وقبل أن يأخذها شراع الهوى ليمخر عباب بحر العاشقين. أو قبل أن يتحول فؤادها إلى درة تدور إلكتروناتها في فلك الشغف والصبابة. أخذها الشرود في دوامته فزج بها في التيه..
مر شهر على أول لقاء، صارت لا تستطيع أن يمر يوم دون أن لا تراه، كل يوم لابد أن تنعم أحداقها بنظرة إليه، وتتفرس في الوجوه إن غاب عنها لعلها تعثر على ملامحه صدفة بين المارين..
بدأت تخفي عن والدتها بعض تصرفاتها، ما لم تكن تفعله سابقا.. كانت تنطلق بعفوية وبطلاقة، ما كان لها أسرار تخشى عليها أن تشاع...
شيء ما تغير محدثا الشك بقوة...
بعد أيام معدودة تطور شكها إلى يقين، كان الأمر صدمة عنيفة هزت كيانها.
- لابد أن تأتي لتطلبني من... لابد... أنت تحبني؟ أكيد؟!
كان يطيب قلبها بكلمات بذوق الشهد. يريحها ببعض البسمات، وتنصرف وفي قلبها جزء من راحة غير مكتملة، كمولود لم يكتمل خلقه.
بين نزر من الراحة وقوة الهواجس أحست سوسن بخوف وندم.
تمر أيام كأنها هاربة، حسبتها سوسن تركض بها نحو قدر مخيف. كانت تتحسس مكانا في جسدها فيزداد شعورها المخيف، فتواريه..
تتصل به باكية:
- لابد أن تأتي.. لم أعد أستحمل، ليس عندي حل.
- لا عليك، يوم الثلاثاء سآتي مع والداي. اطمئني!
قالها أخيرا فانبسطت روحها وتوهجت ملامحها.. كزهرة بلّلها قطر الندى..
عادت لمحياها النضارة التي كانت قد انطفأت من كثرة تفكيرها، بالرغم من محاولاتها في عدم إظهار وجومها.
¤ ¤ ¤ ¤
يوم الثلاثاء والدار ترفرف فيها البهجة. الساعة الواحدة بعد الظهر.
سوسن تتزين بعدما أعدت كل متطلبات الضيافة..
موعدهم الآن.. لقد تأخر.. لقد تأخروا..
الساعة في الحائط، تحدث صوتا غريبا يثير أعصاب سوسن، ويغرقها في قاع سحيق مرعب، ثم ينتشلها بقوة.
- ماذا لو..؟ ماذا أفعل؟ الموت أكيد..
في نفسها حديث حارق لا يكاد يخمد لهبه.
يرن جرس الباب فتنتفض (في غرفة الجلوس)، تضطرب تحتار ما بين اليمين والشمال، تجهل الوجهة، تركض سريعا إلى غرفتها.
دخل شقيقها الأصغر محدثا ضجيجا في المنزل، يريد أن يأكل.
هوى قلبها كأنه سقط في مكان عميق جدا..
ليس هو.. حسبته...
لساعة الجدار كلام لا يفهمه إلا سوسن. حديث يوم الثلاثاء، والميعاد قد فات بكثير. والناس تتنقل الخبر بين المتحسر والشامت. من قال أن الأخبار تخفيها الحيطان؟
غدا تسمع سوسن نساء الحي يلكن حديث الثلاثاء..
تتفحص ساعة يدها لتتأكد من الوقت محدثة شهيقا قويا، ثم تتناول المحمول، تعبث بأزراره. المحمول على أذنها، منتظرة تقلب بصرها في الحجرة وما تحتويه من أثاث، يكاد كل شيء يأخذ لون السواد، حتى الضوء المنبعث من زجاج النافذة الشفاف لونه اليوم أسود. تسمع صوتا عبر الهاتف أعاد لها حقيقة قد تاهت منها، حين كانت ترخي أشرعة الحب مبحرة، فاتحة صدرها للهواء والهوى، مرسلة ذراعيها في الفضاء مانحة روحها فرصة التحليق دون قيود، مؤمنة أن الحياة متعة لا تقيد أبدا.
طرق الصوت أذنها من سماعة الهاتف:
- (.. يتعذر الآن الاتصال بمخاطبكم، المرجو إعادة النداء لاحقا..)!.
تمت.
بقلم: رشيد أمديون