الوصف

دور المنبر


كنت ومازلت أؤمن أن لخطبة الجمعة - إن أُحسِن تناولها - دورا مهما وأساسيا في تغيير المجتمع وضبط سلوكيات المسلمين، وهذا لا يختلف عليه عاقلان. وكم هو مشين أن ترى قوما لا تحدث فيهم موعظة واعظ أثرا إيجابيا، ولا يحاولون تغيير سلوكياتهم إلى الأفضل.. الإنسان بروحه وعقله؛ روح ترتقي إلى أن تسمو وتتعالى عن الدرك، وعقل يميز بين الحسن والقبيح، ثم يهتدي إلى الصواب. تعلمنا أنه ليس العيب أن أخطئ، ولكن العيب أن لا أهتم، وأكرر نفس الخطأ!
تعلمنا أن تغيير الطريق لا ينقص من قيمتي أبدا إن أيقنت أن تلك الطريق لا تؤدي إلى الصواب.
نعم، الخطبة التي لا تترك أثرها في نفس المصلي وتزوده بشيء لا أعتبرها خطبة، فاعتبرها ما شئت!. والخطيب الذي لا يؤثر في محيطه ولا يهتم بصغار أموره ونوازله فليس بخطيب، قد يكون رجلا جاء من كوكب أخر ليلقي ويسرد كلمات كتبت في ورقة ثم ينصرف إلى فلَكه. ولطالما انتقدت خطبة الجمعة التي تكرس مفهوم الجمود ومحتواها فارغ، كجعجعة ولا نرى لها طحينا.. خطابا رسميا أجوف.. أو رحى تدور بعيدا عن واقع الناس.

في الآونة الأخيرة غيرت مسجدي ورحت أبحث عن موضعِ أخر يكون لي مسجدا، وخطيبٍ أخر ليكون لي واعظا. أقطع كيلو مترين لأصل إلى مسجد صغير في قرية.. وأعترف أني قد وجدت هناك بعض ضالتي، وكما يقال: "يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر"، فالمسجد رغم بساطته وتواضعه يتوفر على خطيب مؤهل، ويعمل في سبيل إحداث تغيير ولو بسيط في محيطه. لا يكفي أن يكون المرء على علم ودراية ليقول بماذا سيفيدني هذا أو ذاك؟ لأن أي مسلم مهما كان لابد له من مذكِّر (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)
(1).
اليوم وهو يلقي خطبته عن الصبر والابتلاء، ويُعرِّج على قصة سيدنا يوسف عليه السلام، لأول مرة أرى من يوقف خطبته ويغير مسارها إلى خطاب موجه ليس بالتحديد أن يخصص الشخص ولكن الكلام قد يصير عاما إن تشابه السلوك. هكذا فعل في الخطبة الثانية وعظ أحدَهم من فوق المنبر أحدث صوتا وهو في حالة تثاؤب، بدون مراعاة ولا احترام، وقد يستنكر ذلك الصوت كل عاقل، لأن الإنسان بكل ما كرمه الله به فقد نهاه أن يتشبه بالحيوان في أي فعل من أفعاله، لدرجة أنه حتى في سجودنا نضع الكفين فقط ولا نبسط المرفقين مخالفة لفعل الحيوان عند وضع أعضائه على الأرض
(2). وفي القرآن الكريم قال تعالى: ( إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)(3). أوقف الخطيب خطبته وأظهر غضبه لله فوعظ وختم بالدعاء، ولم يكمل الخطبة بعد موعظته لأنه في نظري لم يعد لأي كلام مكان إن فقد المسلم احترامه للمسجد... 

قارنت هذا الخطيب الشاب مع خطيب مسجد حينا فوجدت فرقا كبيرا، بين من يرى السوء بعينيه ولا يحرك ساكنا، ويرى افتراش الأرجل، ونوم البعض لأنه وجد الحائط متكأ لظهره... وتخطي الرقاب ووو... وأذية الناس.. وبين من يغضب لله لأن بيته لم يُحترم. وها أنا أقول اليوم: شتان بين الثرى والثرايا، وبين مسابح الأسماك ومدارج الأفلاك.

أردت أن أشارككم هذا الخاطر، وقد لخصت فيه كلاما كثيرا.
أبو حسام الدين

* * * * * * * * * *
(1)- الآية 55 سورة الذاريات. لا أعلم كم ذكر وردت في القرآن الكريم.
(2)- كما ورد في حديث ابن عباس (أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ )
(3)- الآية 19 سورة لقمان.
- الصورة لمنبر مسجد الحسن الثاني بالبيضاء.

الإرث الثقافي بين الضياع والتلاشي


شهد تاريخ المغرب علماء ومفكرين علّموا العلم ونشروه  داخل البلد وخارجه، منهم من دوّن وألّف وصنّف. لكنهم قلة إذا قارناهم مع من لم يتركوا إرثهم العلمي، أو تركوه فكان عرضة للضياع، كالسّرقة أو الإهمال، أو حتى ما هو مخزون في الخزانات ولم يخرج لنور الطباعة والنشر. نعم، هناك من المؤلفات المخطوطة ما هو محبوس في الخزانات المغربية، ينتظر الأضواء أن تسلّط عليه، ومنها ما هو معروف فقط لدى المتخصصين والباحثين.
إنه إرث علمي متنوع؛ لكننا في زمن قلّ فيه القراء، زمن ملّ أهله كلّ شيء لأنهم ملكوا كلّ شيء، ولكن بدون أن يُستغل. 


شهد المغربُ بعد الفتح الإسلامي عهوداً وحقبا متنوعة، كأيّ بلد أخر تعاقبت عليه دول مختلفة بداية بحكم الأدارسة إلى العلويين، وكان لكل حكم ايجابياته وسلبياته... ومن الطبيعي أن تشهد الحركة الفكريّة في كل حقبة تقدما أو تدهوراً، لأن ذلك له علاقة بالأحداث السياسية الخاصة والعامة، فالتغيّرات التي تحدث في العالم شرقاً وغرباً لها أثر في الحركة الفكرية والثقافية والعلمية...

ومن بين العهود التي عرفت حركة فكرية، عهد السّعديين، وذلك بعد أن تدهور هذا المجال إبّان حكم الوطاسيين بعد ما عرف ازدهاراً هاماً في سنوات المريني.
السلطان السعدي أحمد المنصور الذهبي(1578-1603م) شهد عصره تقدماُ في شتى النواحي الثقافية: فقهيّة وأدبيّة وفكريّة، كما أن في ولايته بلغت الدولة السّعدية أوج قوتها، كان فقيهاً عالماً ومثقفاً، أخذ العلم عن جملة من الفقهاء واستجاز بعض أساتذة مصر كما أورد ذلك النّاصري في الاستقصا، وألّف كتاباً في الشؤون العسكرية والسياسية، وقد شجع الحركة العلمية في زمنه، واهتمّ بالعلماء، وكان مولعا ًبجمع الكتب وتحبيسها للطلاب حتى يستنفعوا بها، وما زالت القرويين تتوفر على مخطوطات محبسة (1) باسمه(2)، فنشطت حركة التأليف في شتى العلوم والفنون والآداب.. وهذا طبعا ًراجع لعوامل منها هجرة نوابغ الفكر من الأندلس إلى المغرب واستقرارهم به بعدما سقطت بلادهم في أيدي الاسبان، فلم يجد الكثيرون منهم ملجأ يلجؤون إليه هرباً من مضايقات الاسبان، إلا بلاد المغرب.(3)

في سنة 1612 م، خرج ابن أبي المحلي ثائراً ودخل مراكش مع أتباعه، "فبعث السّلطانُ زيدان بن أحمد إليه جيشاً كثيفا فهزمه أبو المحلي وتقدم فدخل مراكش واستولى عليها وفرّ زيدان إلى ثغر آسفي وهمّ بركوب البحر إلى بر العدوة"(4) وجمع نفائسه من ضمنها مكتبته الزاخرة بأنواع العلوم والأدب و ما حازه من مكتبة والده ومن سبقوه من الحكام السّعديين ففر بها إلى آسفي حيث استأجر سفينة فرنسية حمّل فيها متاعه ليبحر إلى ميناء أكادير، ومن تمّ إلى الأندلس، ولكن السفينة وهي في عرض البحر تعرضت لسطو قراصنة إسبان فتوجهوا بها إلى اسبانيا لتنتهي رحلة هذه النفائس بكل ما فيها من كتب ومخطوطات إلى مكتبة الاسكوريال باسبانيا، إلى يومنا هذا... يقول الناصري في الاستقصا: (إن قراصين الاصبنيول غنمت في بعض الأيام مركبا للسلطان زيدان فيه أثاث نفيسة من جملتها ألاف الأسفار من كتب الدين والأدب والفلسفة وغير ذلك).(5)
لنعدْ للثائر ابن أبي المحلي الذي ليس هو الأول الذي خرج على السلطان زيدان، أو بالأحرى على سلاطين الدولة السّعدية؛ اسمه الكامل أحمد بن عبد الله السجلماسي ويكنى بأبي العبّاس، وهو معروف بابن أبي المحلي، كان فقيها له قلم بليغ كما أورد ذلك الناصري في الاستقصا، وألف عدة كتب عناوينها غريبة كلها تتحدث عن أصله العبّاسي الذي ادعاه، ككتاب : (اصْلِيت الخِرّيت في قطع بلعوم العفريت النّفريت)، وبعضها للرد على من أنكروا نسبه، منها: (منجنيق الصخور لهدم بناء شيخ الغرور ورأس الفجور).. ما يهمنا هنا ليس الخلاف السياسي بالضبط، بل ما نتج عن ذلك من التأليف والتدوين، وما كان عليه هؤلاء من الاطّلاع على التاريخ وشتى العلوم المتوفرة في زمنهم...
كانت واقعة سرقة المكتبة الزيدانية وصمة عارٍ حقاً في جبين المغرب، رغم أنّ الظروف السياسية هي السبب الأساسي، وفي المقابل فقد خسر إرثاً علميا استغلّه الاسبان وحُرٍمه المغاربة بسبب التقاتل والتلهف على السّلطة، ولعلّ هكذا كان أغلب العرب والمسلمين في حقب مختلفة، علما أن أطماع العثمانيين كانت تتجه نحو المغرب الأقصى وقتها لأنه هو الوحيد الذي ظل مستقلا عن نفوذها.. وكل هذه الصراعات تفتح ثغرات للغرب ويستغلها لصالحه، ولم يكن سقوط الأندلس إلا عن صراع بين ملوك الطوائف... للأسف في خضم الصراعات السياسية بين أبناء نفس البلد أو الدين يضيع الإرث الثقافي، كما سفكت دماء علماء ومفكرين اتهموا، أو كانت لهم آراء سياسية معينة.
حاول ملوك المغرب من السعديين وغيرهم أن يسترجعوا الإرث المفقود، وطالبوا بإعادة هذه المكتبة إلى حضيرة الوطن، ولكن بدون جدوى.

    يذكرني ضياع هذه المكتبية النفيسة، بضياع مكتبة بيت الحكمة في عاصمة الخلافة العباسية بغداد، والتي ساهم في إثرائها الخليفة المأمون(215هـ)، الذي كان بدوره من أبرز الخلفاء العباسيين علما ًوفقها وأدبا ًوثقافة واطلاعا،ً وله دور عظيم في أن حاز على كم هائل من كتب الحكمة اليونانية ومخطوطات في علوم مختلفة، بعد أن كانت في حوزة الرّوم مهملة في هيكل قديم، -لأنها اعتبرت بعد تنصر الروم كتبا ًمخالفة للعقيدة المسيحية- وبعد اتفاق بين المأمون وملك الروم حول شروط تعاقد الصّلح بعث له هذا الأخير خمسة أحمال منها.(6) فنشطت الحركة الفكرية والترجمة إلى العربية بشكل واضح ومزدهر.. ولكن للأسف أن محتوى بيت الحكمة ضاعَ مع ما دمره الغزو المغولي بقيادة هولاكو (1258م)، بحيث أن نهر دجلة كان مأواها.

هكذا نرى أن التاريخ يخبرنا عن إرثٍ علمي فقده العرب، سواءً في المغرب أو المشرق. غير أن ما ضاع في بحيرة دجلة ذهب وانتهى أمره، أما ما فقده المغرب فهو موجود، باستثناء ما تعرض منه للحرائق، لكنه للأسف في ملك دولة أخرى.



أبو حسام الدين
...................................................................................................................................................

(1) محبسة بمعنى وقف للدراسة فقط، فلا يتصرف فيها.

المراجع المعتمدة :
(2) المغرب عبر التاريخ ص:452 - ج:2- ابراهيم حركات
(3) المفيد في تاريخ المغرب 206- محمد الأمين - محمد علي الرحماني.
(4) الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى - ص: 31 الجزء6 - الشيخ أبو العباس أحمد بن خالد الناصري.
(5) المرجع السابق - ص:70 - ج:6.
(6) تاريخ الفكر العربي ص: 195- د.عمر فروخ


Join me on Facebook Follow me on Twitter Email me Email me Email me Email me

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | تعريب وتطوير : قوالب بلوجر معربة