ذات صباح تمخضه فجر يوم من أيام فصل ماطر، بدأت السماء تصفو وتكشف حجابها الساتر، فأطلت الشمس خجولة كوجه عروس، تحاول بما أوتيت من أشعتها أن ترش الدفء وتنشر على قتامة الحارة قبسا من نور.
على رأس شارع الحي جمهرة قادمة وهتاف وضجيج ، شباب على رؤوسهم قبعات بيضاء، حركات أيديهم توحي بشيء، كأنهم ينثرون الحَب ، فتتبعثر الأوراق البيضاء في الهواء قبل أن تسقط ليمتصها البلل على قارعة الشارع وتدعسها أقدام المارين..
كان يتوسطهم. يحوم حوله الجميع. شعره الكثيف المشتعل بالبياض ككومة ثلج ناصع، يرتدي بذلة سوداء مع ربطة عنق وقميص شديد البياض، حطت على هندامه الأناقة ، على الثغر ابتسامة عريضة لا تبرح مكانها منذ ولج بها حارتنا المنهوكة، تبدو صفراء اللون شاحبة... ترى كم ستزرع من التأويلات والاستفسارات في عقول أولئك الواقفين خلف نوافذهم يطاردون بعيونهم في خلسة الموكب الأغر بصمت مرير، يراقبون سيره عبر طريق حارتهم المتزين بالحفر و العائم في مياه الأمطار المحبوسة التي لم تجد لها مسربا.
نساء من فوق أسطح البيوت ترفع الحناجر: "صلاة والسلام على رسول.."، زغاريدهن تشق عنان السماء، تكاد ترج ما تبقى من الغيم هناك ليمطر.
سار الموكب في زهوه. ذو الشعر الأبيض يمشي الخيلاء، مظهره كالعائد بالنصر. يوزع التحيات ذات اليمين وذات الشمال، يسرف تارة في خطواته، ويقتصد حينا، يجعل لكل قدم على حدة مكانا سالما للهبوط. سرواله الأسود الأنيق لم يسلم من رشقات الوحل، لم يكترث ،"الهدف حين يكون كبيرا ليس من المنطق أن نهتم بالعراقيل الصغيرة"، حدثتني نفسي هكذا وأنا أراقب من قريب. تخيلت الرجل أنه مستعد أن ينزع حذاءه ويغوص بأقدمه في الوحل!، العبور ليس سهلا على طريق تقشفت حالته، نعم ليس سهلا.. ولكن "ما أسهله إن كان على ظهور المغفلين".
انتشلني من شرودي زعيق أحدهم، سحبني الصوت من نشوة المشهد...
- "سّي محمد.. وَا سّي محمد... نْهَار كبير هذا!! "
التفت الجميع بفضول… تقدم "با عبد القادر" بخطوات واثقة يدهس بأقدامه الأرض غير عابئ حيث يجعلها... التمس له مكانا بجانب الرجل الأنيق بعد أن تدافع وسط الزحام. مد إليه كفه للمصافحة فسحبه "با عبد القادر" إلى حضنه... قبلة على الرأس الأبيض أعادت له الافتخار، ورفع هامته باعتزاز كمن حقق مجدا.
"با عبد القادر" الذي " يطبل ويزمر" لصغير الأمور وكبيرها، يحشر أنفه في كل شيء... مؤهلاته: حنجرة قوية، وتملق شديد كمرض مزمن!، تجاوز الخمسين من العمر... عنيد جدا، متقلب لدرجة التناقض. شاهدته قبل يومين بعد أن صلى بنا الإمام العصر يصيح في أهل الحي، ويلقي خطبة عصماء، هز صوته الجَهْوَرِيّ حيطان المسجد: " لا، لن نظل كالألعوبة في يد كل من يأتينا منهم نحن لسنا قنطرة للعبور... بالله عليكم أن تنظروا لحيّكم الموبوء، حتى المسجد صرتم تأتونه قفزا. وا فيقوا أعباد الله".
- "كلامك - با عبد القادر- أحدث خرما في آذاننا، ونفخت بثرثرتك رؤوسنا"
هكذا أسرّ الشباب إلى بعضهم، وكتموا ضحكهم حتى لا ينكشف أمرهم.
لا يسلم من تهكمهم ومن السخرية والغمز واللمز بسبب تصرفاته المتهورة التي تبدو دائما صبيانية، ينعتونه ب"رجل المواقف الانتهازية" يعتبرونه من مخلفات سنين الجهل والتخلف.
كل شيء حوله تغير، وحده بقي وفيا لطبعه العتيق. كبرت أجسادنا وعقولنا، وظل هو بعقله يصغر ويصغر..
عدّل على رأسه طاقيته المزركشة، ونفث دخان سيجارته الحقيرة ذات الرائحة النتنة "كازا" ثم همس في أذن الرجل صاحب الشعر الأبيض، يشير له في اتجاه بيته بكف مد منها السبابة والوسطى وسيجارته الرخيصة.
رفع صوته كما العادة:
- "عليّ بالِيْمِينْ حتى تدخل... وَاخّا غير كَاسْ أتاي وسِيرْ.(1)
انحرف الرجل يمينا، ملبيا الدعوة بعد أن تحطمت كل المبررات أمام صلابة وقوة عناد "با عبد القادر"، فتقدم بخطوات لاهثة سرعان ما توقف سيره. ظل عاجزا عن التقدم. سنه لا يسعفه ليمارس رياضة القفز الطويل. هرول "با عبد القادر" كالمنفذ، نط وسط الوحل فرّج بين رجليه، بَسَط ذراعه في الهواء، أشار إلى قدمه اليمنى:
-"يالله أسِّي محمد احَطّ رجلك هْنَا، أوْ على هذيك الحجرة" (2)
- زٍيد اقْفـــزْ بشوية عليك.. (3)
واحد...اثنان... ثلاثة.
لقد عبر.
1- عليّ باليمين (قسم)... ولو كأسا من الشاي فقط، وبعدها اذهب.
2- هيا سيدي محمد ضع رجلك هنا، وعلى ذلك الحجر.
3- تقدم، اقفز على مهلك..
على رأس شارع الحي جمهرة قادمة وهتاف وضجيج ، شباب على رؤوسهم قبعات بيضاء، حركات أيديهم توحي بشيء، كأنهم ينثرون الحَب ، فتتبعثر الأوراق البيضاء في الهواء قبل أن تسقط ليمتصها البلل على قارعة الشارع وتدعسها أقدام المارين..
كان يتوسطهم. يحوم حوله الجميع. شعره الكثيف المشتعل بالبياض ككومة ثلج ناصع، يرتدي بذلة سوداء مع ربطة عنق وقميص شديد البياض، حطت على هندامه الأناقة ، على الثغر ابتسامة عريضة لا تبرح مكانها منذ ولج بها حارتنا المنهوكة، تبدو صفراء اللون شاحبة... ترى كم ستزرع من التأويلات والاستفسارات في عقول أولئك الواقفين خلف نوافذهم يطاردون بعيونهم في خلسة الموكب الأغر بصمت مرير، يراقبون سيره عبر طريق حارتهم المتزين بالحفر و العائم في مياه الأمطار المحبوسة التي لم تجد لها مسربا.
نساء من فوق أسطح البيوت ترفع الحناجر: "صلاة والسلام على رسول.."، زغاريدهن تشق عنان السماء، تكاد ترج ما تبقى من الغيم هناك ليمطر.
سار الموكب في زهوه. ذو الشعر الأبيض يمشي الخيلاء، مظهره كالعائد بالنصر. يوزع التحيات ذات اليمين وذات الشمال، يسرف تارة في خطواته، ويقتصد حينا، يجعل لكل قدم على حدة مكانا سالما للهبوط. سرواله الأسود الأنيق لم يسلم من رشقات الوحل، لم يكترث ،"الهدف حين يكون كبيرا ليس من المنطق أن نهتم بالعراقيل الصغيرة"، حدثتني نفسي هكذا وأنا أراقب من قريب. تخيلت الرجل أنه مستعد أن ينزع حذاءه ويغوص بأقدمه في الوحل!، العبور ليس سهلا على طريق تقشفت حالته، نعم ليس سهلا.. ولكن "ما أسهله إن كان على ظهور المغفلين".
انتشلني من شرودي زعيق أحدهم، سحبني الصوت من نشوة المشهد...
- "سّي محمد.. وَا سّي محمد... نْهَار كبير هذا!! "
التفت الجميع بفضول… تقدم "با عبد القادر" بخطوات واثقة يدهس بأقدامه الأرض غير عابئ حيث يجعلها... التمس له مكانا بجانب الرجل الأنيق بعد أن تدافع وسط الزحام. مد إليه كفه للمصافحة فسحبه "با عبد القادر" إلى حضنه... قبلة على الرأس الأبيض أعادت له الافتخار، ورفع هامته باعتزاز كمن حقق مجدا.
"با عبد القادر" الذي " يطبل ويزمر" لصغير الأمور وكبيرها، يحشر أنفه في كل شيء... مؤهلاته: حنجرة قوية، وتملق شديد كمرض مزمن!، تجاوز الخمسين من العمر... عنيد جدا، متقلب لدرجة التناقض. شاهدته قبل يومين بعد أن صلى بنا الإمام العصر يصيح في أهل الحي، ويلقي خطبة عصماء، هز صوته الجَهْوَرِيّ حيطان المسجد: " لا، لن نظل كالألعوبة في يد كل من يأتينا منهم نحن لسنا قنطرة للعبور... بالله عليكم أن تنظروا لحيّكم الموبوء، حتى المسجد صرتم تأتونه قفزا. وا فيقوا أعباد الله".
- "كلامك - با عبد القادر- أحدث خرما في آذاننا، ونفخت بثرثرتك رؤوسنا"
هكذا أسرّ الشباب إلى بعضهم، وكتموا ضحكهم حتى لا ينكشف أمرهم.
لا يسلم من تهكمهم ومن السخرية والغمز واللمز بسبب تصرفاته المتهورة التي تبدو دائما صبيانية، ينعتونه ب"رجل المواقف الانتهازية" يعتبرونه من مخلفات سنين الجهل والتخلف.
كل شيء حوله تغير، وحده بقي وفيا لطبعه العتيق. كبرت أجسادنا وعقولنا، وظل هو بعقله يصغر ويصغر..
عدّل على رأسه طاقيته المزركشة، ونفث دخان سيجارته الحقيرة ذات الرائحة النتنة "كازا" ثم همس في أذن الرجل صاحب الشعر الأبيض، يشير له في اتجاه بيته بكف مد منها السبابة والوسطى وسيجارته الرخيصة.
رفع صوته كما العادة:
- "عليّ بالِيْمِينْ حتى تدخل... وَاخّا غير كَاسْ أتاي وسِيرْ.(1)
انحرف الرجل يمينا، ملبيا الدعوة بعد أن تحطمت كل المبررات أمام صلابة وقوة عناد "با عبد القادر"، فتقدم بخطوات لاهثة سرعان ما توقف سيره. ظل عاجزا عن التقدم. سنه لا يسعفه ليمارس رياضة القفز الطويل. هرول "با عبد القادر" كالمنفذ، نط وسط الوحل فرّج بين رجليه، بَسَط ذراعه في الهواء، أشار إلى قدمه اليمنى:
-"يالله أسِّي محمد احَطّ رجلك هْنَا، أوْ على هذيك الحجرة" (2)
- زٍيد اقْفـــزْ بشوية عليك.. (3)
واحد...اثنان... ثلاثة.
لقد عبر.
أبو حسام الدين
25/03/2012
25/03/2012
1- عليّ باليمين (قسم)... ولو كأسا من الشاي فقط، وبعدها اذهب.
2- هيا سيدي محمد ضع رجلك هنا، وعلى ذلك الحجر.
3- تقدم، اقفز على مهلك..
24 تعليقك حافز مهم على الإستمرار:
قصة تعكس للأسف واقعنا البائس
إن مقومات الفساد هي مشجعيه والنفاق الذي يعتنقونه
والملل التي يعتنقونها كل يوم
أراد له أن يعبر
لأنه يثق بأن بعبوره سيحصل هو أيضا على عبور
وراء كل فرعون هامان يوهمه بعدله
ينافقه
ويشجعه
ليصبح فرعون
تحيتي لأسلوبك الشائق المتميز
في السرد وفي اختيار الفكرة
صورة حية لمجتمع مغلق ويربطه بالماضى عبق الوصال ويهمس فى حاضره أما أن له الزوال ولعل إعادة صياغة الواقع تحتاج إلى تربية النفس والضمير بدءا من رحم ولود بالخيرات لننعم جميعا بعيش السعداء فهل من أمل ؟ ( عرفات )
وسيعبرون دائما بوجود با عبدالقادر وبقية المغفلين.
قصة ممتعة تشد القارئ إلى لوحاتها ولغتها المختارة
.
ومن هنا تحدث الكوارث
ان نعطى قيمة لكل تافه حقير
ونغض الطرف عن النفاق والتملق
حتى يسرى سماً فى جسد المجتمع ينهش كيانه ويجره للهاوية
وحين تهب الثورات تنادى بالحق والخلاص نخسر الاف من ابنائنا تحت اقدام الطغاه...
لقد عبرت استاذى عن شريحة كبيرة فى مجتمعاتنا العربية
ودائما الشعوب هى من تحصد نتيجة هذا الفساد
تحياتى لك وتقديرى
لقد عبر.. وترك آثار حذائ الموحلة على ظهور وأكتاف "باهم عبد القادر وأمثاله"
كم هو صعب المرور الا على ظهر المغفلين و المنافقين
قصة تعكس واقعا مريرا يا صديقي
كالعادة نتعلم دوما من بنائك اللغوي يا استاذي
رائعة بحق
كثيرة تلك الأشكال وتكرر هذه المواقف وتخلق شعوبا تختنق غيضاً وقهرا
ويعبروا الكثيرون للأسف من غير وجه حق
فكرة جديدة في السرد وطريقة مشوقة لمعرفة لهجة مختلفة
دمت بكل الخير
مادام هناك أمثال سي عبد القادر فالطرق ستبقى دائما جاهزة ليعبر الكثيرون منها.
مشهد من مشاهد النفاق المجتمعي الذي نعيشه للأسف..
أعجبتني طريقة السرد :)
بارك الله فيك
لقد عبر
مثلما يعبر غيره كل يوم، بل كل دقيقة
لكن هل يستطيع الرجوع بعد عبوره؟؟
لقد عبر .. وسيعبرون ... وتلك حال المجتمعات تمضي قدماً نحو الهاوية ،، ولا شك ثمة فسحة أمل ..
لغة رائعة وأسلوب سرد مميز
بوركت أخي الطيب
استمتعت جدا بتفاصيل الحروف .. وغصت في أعماقها ..
أستأذنك في نشرها على تويتري ...
لك كامل تقديري واعجابي واحترامي ..
@زينة زيدان
اهلا بك أختي زينة
شكرا لك على التعليق الجميل.
نعم نحن من يصنعهم.
لك التحية
@د محمد عرفات الجمل
دكتور عرفات
أشكرك على تعليقك الطيب والمفيد.
@عبدالعاطي طبطوب
نعم سيعبرون ويعبرون..
لك التحية أخي عبد العاطي
@ليلى الصباحى.. lolocat
أختي ليلى أشكرك على تعليقك الطيب.
بارك الله فيكِ
@خالد زريولي
نعم أخي خالد، لقد عبر عليهم..
@مصطفى سيف الدين
أشكرك أخي مصطفى على رأيك الجميل.
بارك الله فيك
@هيفاء عبده
سيدتي أشكرك على رأيك الجميل.
وأسعدني أن السرد نال اعجابك.
@أمال
نعم أمال هو كذلك، وسيبقى.
لك الشكر على رأيك الجميل
@مغربية
العبور صار سهلا إن بقي با عبد القادر..
شكرا لك مغربية
@نور
ننتظر الأمل بكل ثقة.
أشكرك أختي نور على كلامك الطيب.
@أبـجـديات بندر الاسمري
نعم أخي بندر، تفضل بنشر رابطها ولك ذلك.
باركالله فيك يا طيب
شكرا لك سي رشيد قصة معبرة من صميم الواقع من عين فاحصة
عبر إلى أين ؟ حال كائنات تظهر في مناسبة بعينها لتختفي مستغلة سداجة البسطاء
@محمد ايت دمنات
حياك الله أستاذ محمد
بارك الله فيك على التعليق.
ولست بعيدا عن الواقع المغربي بالتحديد.
الله يهدينا
إرسال تعليق
كلماتكم هنا ماهي إلا إمتداد لما كتب، فلا يمكن الإستغناء عنها.
(التعليقات التي فيها دعاية لشركات أو منتوجات ما تحذف)