غائمة هي سماؤكِ منذ رحل تاركاً في أرض اشتياقكِ بذرة أملٍ لم تَنْمُ.
لم يمنعك كبرياؤك المارق من التّمسح بذات الجدار، تمرين بقربه وتسحبين الخطى مجهدة، كمن أنهكتها الهزيمة. النظرات منك تختلس ما يُمتِعُ شهوة الذكرى في عمقك. تمتزج ببعض الحنق. تمتحُ ما يَروي صحراء إحساسك العطشانة لضمته العتيقة الغابرة التي ولى عهدها...
لم تُنسِكِ الأيّـّامُ دفأه رغم تنقلِك بين الأحضان كمحطات الحياة البائسة.
نعم؛ هو الجدار نفسه، ثابت مكانه. كان يُسندُ إليه ظهره عند كل لقاء مختلس، حين تقابلينه وتهبينه ما خبّأتِ بين جناحيك من ودٍ طافح بلغ مبلغ السّكر، وما طاب به سخاءُ شفاهك من بسمات حارقة لكيانه الصبور...
هو نفس الجدار، لم يتزحزح كما الزمن والحال. ولم يؤثر عليه البلى.
كان يمجّـدك بقول يذيب فؤادك. كأنه يمنحك مركبة خيال تعرجين بها إلى السّماءِ، تلمسِين الثريّا، تخلصِين إلى المُثل الأفلاطونية... وهناك، ذاتَ يَومٍ نسيت ذاتك فانتزع التّمرةَ المشتهاة. انتزاعَ رِضى.
ما كُنتِ تـفتحينَ عيونك حين كان يُرتّل حديثه الشّبيه بتغريد العندليب. يأخذك الانشغال بلحنه الماتِع بعيدًا. ما كان جسدُك يقوى على الوقوف لولا أنّكِ تصمدين وتقاومين في إصرار، فتستمدّين شحنة النّشوة من همسهِ المُفعَم الباذخ، كي تعودَ إليكِ لذّتها في خلوتكِ مساءً حين يصفو حولك المحيط وتسكنُ حركات الجميع، وتُـفتح لك عوالمَ الأحلام ذات البعد الآخر.
هكذا أنت اليوم؛ بيتٌ مهجور بسقف آيل للسقوط.
هيكلٌ ما عاد فيه للإحساس أثر.
ذبل الزّهر من ربوتك حتى صار القفر أجمل وأمتع.
الخواء، والفراغ صار عنوانك في كل ميدان حتى خِلتك خشبة مسندة. لا حياة لك سوى بين الأحضان...
غادر قلبك النبض... غادر قلبكِ النبض.
تتعطرين بأغلى العطور، تُسْجفين خَنزك الباغي. تنتقمين من جمالك – مشرقًا بالنور كان- بأحمر شفاهٍ خسيس.
تبيعين الهوى تحت جناح السواد، في شارع حالك تُعمّدُه أعمدة من النور بضياء ميت.
تسلكين سُبُـل الهلاك بعد زلّـة قدم ما ثبتت على أرض صادقة. تلاحقك النّـظراتُ والإشاراتُ وأشباه رجال يسيل لعابهم، يستهويهم خنزُك المعطّر بذوق مفتعل. يبتلعكِ الطريقُ مانحاً إيّاك لعنة العُهر، تسخرُ منكِ أثناءَ انقضاء كل ليلة تافهة.