الوصف

بنية المكان ودلالاتها في قصة بطالة

كان من حظّ إحدى نصوصي القصصية أن تنال دراسة نقدية من طرف مجموعة من النقاد المختصين في النقد الأدبي، وذلك بعد أن قدمت القصة إلى أستاذنا الناقد عبد الحافظ متولي جزاه الله خيرا. ورأيت أن أنقل هنا إحدى الدراسات التي قامت بها الأستاذة الدكتورة هداية مرزق، وأشكرها على ما منحتني من ثقة بهذه القراءة الواعية.
تجد النص هنا: بطالة

.............................................


قراءة في قصة ( بطالة) لرشيد أمديون
من طرف د/ هداية مرزق

بنية المكان ودلالاتها في القصة

يشكل المكان في النص الإبداعي/ القصة أو الرواية ركيزة أساسية لا يمكن الاستغناء عنها... فسواء احتل المكان مساحة النص، أو جاء عابرا من خلال حركة الشخصية فيه، فانه يعتبر عمود القصة إذ لا يمكن الاستغناء عنه... فلا وجود لأحداث خارج المكان، ولا حركية للشخصيات بعيدا عن المكان، وهذا ما يجعلنا نركز في قراءتنا لقصة البطالة على هذا العنصر الحيوي الذي فرض نفسه على مستوى النص ككل، وبما أن العنوان يحيل على حالة اجتماعية خاصة تبعث على الشعور بالضياع ، يصبح المقهى المكان الأكثر حضورا في مثل هذه الحالة... وقد نجحت القصة القصيرة في التعبير عن الحياة اليومية، والكشف عن العالم الداخلي والخارجي للشخصية التي تعاني من انقطاع عن العالم الخارجي والتواصل مع الناس ليتحول المقهى كمكان إلى معادل موضوعي لحالة الانقطاع/ الاغتراب وهي حالة وجودية محضة تعبر عن الشعور بالعدمية واللا أهمية واللا وجود تعيشها الشخصية عبر رحلة عذاب يومية في البحث عن كينونتها من خلال تحقيق ذاتها بإيجاد عمل،حالة يعاني منها آلاف الشباب في العالم العربي ككل.. ما يخلق لديهم شعورا بالانتماء /وبالتالي الثورة على واقع لم يحقق لهم وجودهم... ونظرا لما يموج به العالم الخارجي من حقائق مسكوت عنها... تجد الشخصية نفسها عاجزة عن مواجهة الواقع وما يدور فيه من صراع.. وبما أن المقهى هو المكان المفضل لهذه الفئة من الناس يلجؤون إليه للشعور بالانتماء من خلال ربط العلاقات مع غيرهم أو تسَقط الأخبار، أو حتى كملجئ يحميهم من ذاتهم ومن غيرهم، أو من غضب الطبيعة في عز الشتاء أو شدة الحر.. يفرون إليه كمأوى/حماية/استكانة إلى الذات/تمرد على الخارج الصاخب الذي يشكل في وعيهم تجاوزا لرغباتهم.
إن القارئ لقصة البطالة لرشيد أمديون يلاحظ أنها تنبني على الشخصية الواحدة والحدث الواحد والمكان الواحد الأمر الذي يجعل من هذه الشخصية شخصية نموذجا تعبر عن كل من يشبهها.. بل هي رمز لعذابات الشباب الذي يعيش معاناة قاسية في واقع يقهر أبناءه ويضحي بهم فيتحولون عنه ويديرون له ظهرهم مستعيضين عنه بتناول الكحول أو المخدرات هروبا ونسيانا لما هم فيه... وبهذا "يتخذ المكان أبعادا، ودلالات خاصة تتباين بتباين الشخصية البشرية وما تضفيه من قيمة على المساحة المكانية " التي تحل فيها ... ونظرا لما للمكان من أهمية في بلورة الرؤية لدى الكاتب بتوظيفه لأماكن مختلفة تحمل دلالات مختلفة حيث نجد الأماكن المفتوحة مثل الشوارع والحارات والحدائق، والتي تحيل على التحرر والانطلاق والرؤية الواضحة، في مقابل الأماكن المغلقة التي تحيل على الانسداد وضيق الأفق ولكنها أيضا تحيل على الخصوصية والحميمية مثل البيت والغرفة... وقد وظف القاص رشيد كلا المكانين ولكن بدلالات مختلفة، حيث تتحول الأزقة والحارات بحياتها االشاحبة من الانفتاح/التحرر /والرؤية الواضحة إلى الانغلاق نظرا لما يجري فيها من ممارسات سلبية تتم في الخفاء، يقابله على الطرف الآخر المقهى/مكان مغلق ينفتح على الخارج من خلال الحياة التي تملؤه جيئة وذهابا، الأفكار المتبادلة، والأجسام المتراخية على الكراسي... وإن كان المقهى كداخل/مغلق يشكل المكان الرئيس في القصة، إلا أن القاص يتجول بنا جولة سريعة في الأزقة والحارات المهترئة والممارسات السلبية التي تعبر عن واقع بائس، ما يجعل أمر الداخل والخارج جدلية لا بد منها، وقد أشار غاستون باشلار في كتابه شعرية المكان إلى أن " الداخل والخارج يشكلان جدلية التمزيق... إنها تمتلك صرامة جد واضحة بخصوص جدل النعم واللا الذي يقرر في كل الحالات " .. وهكذا فان الانطلاق من عنصر واحد في النص/القصة؛ كعنصر مهيمن يشكل بؤرة النص، ورؤية الكاتب وموقفه إزاء القضايا المطروحة في الواقع، عنصر تتكشف فاعليته مع كل نقطة من نقاط القص التي تشكل سلسلة من القضايا الاجتماعية يحيل بعضها على بعض..واذا كانت هوية المكان جزء لا يتجزء من هوية الإنسان تكون علاقة الشخصية في قصة (البطالة) بالمكان /المقهى وما يمثله من دلالات علاقة الذات الضائعة بالمكان/المقهى المكون لشخصيتها ما يجعل المكان/المقهى يتحول إلى رمز له دلالته.. حيث يتخذ المقهى أبعادا جمالية في تركيبته/مقهى عتيق له خصوصياته.. يحيل على زمن بعيد، يوحي بعدم الاستقرار والإقامة المؤقتة للشخصية (س) طبعا أطلقنا عليها س لأنها لا تحمل اسما ما يؤكد تعميم حالتها ودلالتها، فالمقهى الذي تلجأ إليه الشخصية يغدو رمزا وشاهدا على نمط معين من الحياة يظهر هذا في قول القاص: "تعرفني الوجوهُ المألوفة، فاستحالت صورتي في الأعينِ إلى جزءٍ من تفاصيلِ هذا المقهى العتيق. أمْلأُ كلّ يومٍ كرسيًا بجسدي النحيلِ، وأنتظرُ الغيبَ في اصطبارٍ مُتكلّف"، وأما الأزقة والحارات فقد توقف عندها القاص توقفا عابرا على امتداد الحدث في القصة حيث توحي الأزقة العتيقة، والأرصفة المهترئة ذات الحفر التي تركد فيها مياه الأمطار بواقع معيشي سيء للغاية، لا تنبئ بحاضر جديد، أو أمل في التغيير فكل شيء على حاله، يقول:
"الأزقة الضيقة المزدحمة بالعابرين تعرفني، والحارات الممتلئة بضجيج أطفالٍ يلعبونَ في مرحٍ قبل أن تبتلع أحلامهم البريئة وحشية المستقبل الذي يترصدهم من وراءِ حاراتهم المنهوكة، هناك على شارعٍ ببقايا الإسفلتِ على أرضه، بحفرهِ المُمتلئةِ بماءِ المطر، هناك يقفُ لهم كافرَ المَلامحِ، عبوسًا قمطريرًا".
لتنسحب حالة الشخصية على الحيوانات والأشياء عبر لغة توغل أحيانا في الغرابة مثلما نجده في توظيف لفظة قمطريرا، إلى بنية التهكم من خلال فعل التبول للكلاب في قوله: كلاب الشّارعِ المتشردة بنباحها الشبيه بثرثرة فارغة في هواء المكان، تشمئزّ حين تراني جالسًا... أو واقفًا...، وتتعمّدُ رفع رجلها فترسلُ بولها قريبا منّي. تعبّر عن ضجرٍ واستياء، تسقي عمودَ الكهرباءِ المعطّل برشةٍ، ثمّ تمضي بزهوّ مفتعل، مخلّفة وراءها عمودَ الإنارة الميّت، الذي لم ينرْ إلا في فترةِ انتخابات. أذكر كيف أنار... ثم انطفأ!."؛ هذا التهكم الذي يخزن جانباً من حياة العبث اليومية بصورة اعتباطية الغرض منه توجيه رسالة... إلى حالة الجريدة المهترئة لكثرة التقليب فيها لعله يجد عملا وهذا في حد ذاته يعيدنا مرة أخرى إلى العنوان في دلالته على الحالة المزرية التي تعيشها الشخصية في يأسها وإحباطها.. وليظل المكان الموجه القرائي الأول في هذه القصة.....

إلا أنني أشير إلى أن القصة وقعت في هنات لغوية أثرت تأثيرا سلبيا على بعض المقاطع السردية كان بإمكان القاص أن يتحاشاها لو تأنى وأعاد قراءة القصة قبل أن يرسلها... وبصفة عامة فقد استطاع القاص أن يعطينا رؤية عن واقع يعيشه الشباب العربي الذي يعاني من مشكلة البطالة، ما يعزز لجوءه إلى بعض التصرفات السلبية التي تسيء إليه والى غيره.. واقع وجودي/هروبي/مأساوي.. يصبح في المقهى.. وفنجان القهوة والجريدة الشاغل لشباب يعاني من حالة الضياع في ظل واقع مأساوي لا يوفر لأبنائه أدنى حاجاتهم....................

شكرا للقاص أتمنى له مزيدا من التوفيق في نصوصه القادمة ..

6 تعليقك حافز مهم على الإستمرار:

محمد ايت دمنات يقول...

السلام عليكم
هنيئا لك سي رشيد بهذه الثقة التي تستحقها كتاباتك
قراءة موضوعية متميزة
مع متنياتي لك بمزيد من التألق

Bahaa Talat يقول...

مبروك أخي رشيد،،،

رشيد أمديون يقول...

@محمد أيت دمنات
وعليكم السلام السي محمد
شكرا لك، واسعدني أنك قرأت النص النقدي.
لك كل شكري على اهتمامك الدائم
محبتي

رشيد أمديون يقول...

@Bahaa Talat

بارك الله فيك أخي بهاء
شكرا لك على وجودك الجميل هنا
محبتي

أمل حمدي يقول...

رشيد
نص يستحق التناول النقدي والتوجيه الإيجابي
شكرا للناقد
وشكرا لك رشيد

رشيد أمديون يقول...

@أمل حمدي

أمل، شكرا على رأيك المنير
دمت وفية للمكان

إرسال تعليق

كلماتكم هنا ماهي إلا إمتداد لما كتب، فلا يمكن الإستغناء عنها.
(التعليقات التي فيها دعاية لشركات أو منتوجات ما تحذف)

Join me on Facebook Follow me on Twitter Email me Email me Email me Email me

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | تعريب وتطوير : قوالب بلوجر معربة