الوصف

بطالة

أعيد نشرها بعد أن شاركت بها في إحدى المسابقات.

    كلّ الأرصفةِ المُهترئةِ تعرفني... وكراسي المقهى الشّعبيِّ، الذي ينفثُ دخانَ التّبغِ والحشيشِ..، وأشياءٍ أخرى أتعبت أنفاسنا إلى حدِّ السّآمة. تعرفني الوجوهُ المألوفة، فاستحالت صورتي في الأعينِ إلى جزءٍ من تفاصيلِ هذا المقهى العتيق. أمْلأُ كلّ يومٍ كرسيًا بجسدي النحيلِ، وأنتظرُ الغيبَ في اصطبارٍ مُتكلّف.
الأزقة الضيقة المزدحمة بالعابرين تعرفني، والحارات الممتلئة بضجيج أطفالٍ يلعبونَ في مرحٍ قبل أن تبتلع أحلامهم البريئة وحشية المستقبل الذي يترصدهم من وراءِ حاراتهم المنهوكة، هناك على شارعٍ ببقايا الإسفلتِ على أرضه، بحفرهِ المُمتلئةِ بماءِ المطر، هناك يقفُ لهم كافرَ المَلامحِ، عبوسًا قمطريرًا.
كلاب الشّارعِ المتشردة بنباحها الشبيه بثرثرة فارغة في هواء المكان، تشمئزّ حين تراني جالسًا... أو واقفًا...، وتتعمّدُ رفع رجلها فترسلُ بولها قريبا منّي. تعبّر عن ضجرٍ واستياء، تسقي عمودَ الكهرباءِ المعطّل برشةٍ، ثمّ تمضي بزهوّ مفتعل، مخلّفة وراءها عمودَ الإنارة الميّت، الذي لم ينرْ إلا في فترةِ انتخابات. أذكر كيف أنار... ثم انطفأ!.

القهوةُ السّوداء على الطاولة بردت؛ وكانت تدّخرُ دفئها في فنجانٍ يَضُمّها بضمةِ حبّ تكلّل بالوفاء، كأنها تحمي شيئًا ثمينًا، وتبدي محاولةً فاشلةً لتُحافظَ عليهِ عسى أنْ يَمتدَّ إلى زمنٍ أطول كي يمنحها الإغراء، فلا قيمة لقهوةٍ فقدت الدّفءَ أو انْتُزِعَ منها في محيط ٍ تشوبهُ كلّ المؤثرات المفجعة. الجوُّ بسيوفه الشائكةِ يتربص بها. كان أكثر منها قوةً وأشدّ بأسًا... فاستسلمت للبرودةِ استسلامَ فتاةٍ تحت ضغطِ مغتصبها بعد مقاومةٍ عنيفة.

اعتدتُ أنْ أتصوّر المشهدَ بعد أن أعودَ بذهني الشّاردِ من سَفرِ التأمّل، ساحبًا التّفكيرَ علّني أحظى بما يبعثُ التّـفاؤلَ ويزيلُ أثر الحنقِ القاتل من باحة نفسي المتهالكة في زمن يُمارسُ سطوته كأنّه احْتُـقنَ بالجبروت، أو أصابهُ مسّ من جنون.
نادلُ المقهى بعينٍ شرزةٍ تختلسُ النّظرَ إليّ، يدركُـ أنّي سأطلبُ منهُ تسخينَ نصفِ الفنجان المتبقي من هذا السّوادِ الذي أشاركهُُُ اللّون والمرارةَ المقيتة.
يستجيبُ مُصدرًا صوتًا لا أسمعُ منه غير غمغمةٍ ما عُدتُ أهتمّ بعُنفها ولا بسوطِ جلادِها المتجبّر.
والجريدة المحمولة تتمنى متى أعـتقُها، متى أمنحها الرحمة، لتخلدَ إلى الرّاحة، أو حتّى لتصيرَ ورقـًا يلفّ فيها بائعُ "الفولِ السودانيّ" بضاعتهُ لزبنائه..
صارت تشبهُ خِرقةً باليّةً بعدما استعرتُهَا من زميلِ محنةِ الدّرب. وقد فَضَّت الأيديّ عُذريّتها وغادر بهاؤُها الذي كانت تتمتّعُ به قبل أن تمنحَ نفسها لأوّل قارِئ... ها هي في مستقرّها الأخير بعد أن تنقلت بين القُرّاءِ وجاء بها قدرهَا التعيس عندي...
آهٍ.. كم تتعذّبُ هذه الصّحِيفة بين يديّ وأنا على إيقاعِ الارتجاف، كأنّني مستغرقٌ في رقصةِ "درويش" ولكن بلا نشوةٍ تُدرك... يعزفُ البردُ ما يُهيّجُ حركةَ انتفاضتي، يصيبُ ذاتي بتعبٍ زمهريريٍّ يحرسُهُ جوٌّ شتويّ مكفهرّ الوجهِ غابت عنهُ شمسٌ حنونة تمنيتُها أن تسطعَ لتهدِئَ رعدتي، لتهب النورَ، لتأتي بالعمر الباقي بهيًا...
ترتجُّ الجريدةُ في رحلةِ عذابٍ مرير تذوقه مني، وأنا أترنّحُ، مقلّباً صفحاتها الذابلة باحثًا عن إعلان لوظيفة.

9 تعليقك حافز مهم على الإستمرار:

أمل حمدي يقول...

تستحق الجائزة وأكثر
سلمت يداك رشيد

رشيد أمديون يقول...

@أمل حمدي

أمل دائما سباقة للقراءة والمتابعة
أشكرك من القلب أيتها الصديقة
ودمت بهيّة مميزة
مودتي

محمد ايت دمنات يقول...

السلام عليكم
تستحق اعادة النشر وكذا الجائزة
موفق سي رشيد

رشيد أمديون يقول...

@محمد أيت دمنات

وعليكم السلام
أشكرك سي محمد، وقد حصلت على الرتبة الثانية.
بارك الله فيك

Days and Nights يقول...

يا سلام عليك يا أخ رشيد

دائما مبدع

كل قرائتى لمواضيعك

تجعلنى أنفصل عن الواقع

وأحلق فى الخيال

فى جمال المعانى

وبلاغة التشبيهات

تحياتى لروحك الطيبه

ودمت بكل الود

تامر

الصحيفة الصادقة يقول...

thank you
مدير موقع الصحيفة الصادقة

رشيد أمديون يقول...

@Days and Nights

أهلا بك أخي تامر، أنا جد شاكر لك رأيك الذي أعتز به.

حياك الله أيها الطيب.

رشيد أمديون يقول...

@صحة اون لاين

العفو
أهلا بك

رشيد أمديون يقول...

@الصحيفة الصادقة
مرحبا بك

إرسال تعليق

كلماتكم هنا ماهي إلا إمتداد لما كتب، فلا يمكن الإستغناء عنها.
(التعليقات التي فيها دعاية لشركات أو منتوجات ما تحذف)

Join me on Facebook Follow me on Twitter Email me Email me Email me Email me

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | تعريب وتطوير : قوالب بلوجر معربة