الجزء الثالث
أمسكَ "عليّ" الرسالة من يد والده بيدين مرتجفتين. اختلط خجله بخوفه وقد صوّب الجميع نظراتهم إليه، كانوا ينتظرون بأمل، ما سيقرأُه على مسامعهم المصغية. تهجّى الحروف والكلمات.. تتعتع شيئا فشيئا حتى أتمَّ قراءتها... رفع بصره عنها ليجد والده والحاضرين ما تزال عيونهم جاحظة مستقرة. قال له والده مستدركًا وآمرًا:
- إيوا.. تابع، اقرأ...
- صافي [1].. انتهيت من قراءتها... كاملة.
نظر إليه والده بنظرة عميقة لا تخلو من القسوة وهو يقول:
- إنك تكذب، لم تكمل قراءتها لأنّي لم أسمعك تقول "والسّلام"... جميع الرسائل تنتهي بـ " والسّلام".
- أقسِم بالله أني أتممت قراءَتها... وهذه الرسالة لم يردْ فيها (والسّلام)..
سمع الجميع كلامه، فاهتزت أجسامهم من الضحك على خيبتهم... كيف يأملون ممن لا يجيد القراءة أن يخبرهم بمحتوى رسالة؟...
أراد "بيهي" أن يضيف إلى الموقف مزيدًا من المرح والفكاهة، فصاح ضاحكًا في وجه ابنه:
- حسنا... قلت يا بني أنّك قرأتها كاملة... إذن، قل لنا ما مضمونها... اشرح ما قرأت فيها!!
رد الولد بحزن:
- لا أعرف!
- لماذا؟ ألم تقرأها كما قلت!
- بلى، لكني لا أستطيع أن أشرح وأبين محتواها، لأني لا أفهم العربية..!
امتلأ المكان بضجيج ضحكهم مرة أخرى، فغضب "عليّ" وتغير وجهه... لم يرض أن يكون عرضة للضّحك فبكى وهو يسرع نحو الباب...
عندما أرخى الليل سدوله متوشّحاً بالظلام، نزل معه شعورُ الحزن على كل أهل القرية، إذ أن غياب "عليّ" عن أهله وعدم عودته إلى الدّار منذ أن خرج من المسجد باكيًا أثار تساؤلَ القلقِ لدى الجميع.
اهتزت القرية بعد اختفائه، فخرج الناس للبحث عنه، حملوا القناديل والفنارات، بحثوا في كل إسطبلات القرية وغرف المؤونة، ثم غرفة المسجد الخاصة بالمواسم والاحتفالات الدينية ومرافقه الأخرى. وفي كل أنحاء القرية، وحتى بجوار البئر لم يجدوه هناك. فلما انتصف الليل ويئسوا من احتمال أن يكون في مخبإٍ داخل القرية... خرج والده مع بضعة رجال قاصدين دار خالة "عليّ" في قرية "تمجلوشت" وراء الوادي. توقعوا أن يكون قد قصدها غاضبا بعدما سخروا منه في المسجد. لكنهم عادوا كما ذهبوا بلا نتيجة...
سكن الفزع قلوبهم، وخشي الجميع أن يكون مكروه ما مسّه حين تأكدوا من عدم ذهابه إلى دار خالته، بل لم يره أحد في تلك القرية... أما "لالّة فاضم" فقد اعتراها حزن شديد حين فكرت أن رسالتها هي السبب في كل ما حدث...
كان الناس يحملون في قرارة أنفسهم خوفًا توجّسته قلوبهم من خبرتهم بالغابة ومخاطرها وما تخفيه من الوحوش... ولم يخطئوا الظن... فقد كاد عليّ أن يكون وجبة للافتراس وسط الغابة حين تربص به الذئب من مكان قريب لولا أنّه فرّ حين أبصر جماعة من الناس تقترب منه. كانوا سياحًا أوروبيين يخرجون مرة في السنة يسيحون بين جبال الأطلس في "سوس"، يكتشفون فجاجها وتضاريسها، ودواويرها الجميلة بطبيعتها الخلابة وكل أماكنها البعيدة والقريبة...
وكأنّ القدر بعثهم لينقذوا "عليّا" من موت محقق، إذ لم يكن هناك أدنى شكّ أنه كان سيتحوّل إلى وجبة تنعم بها بطن الذئب الجائع. وكما أنهم أنقذوه أيضًا من الجوع والبرد، فهما لا يرحمان في غابة مهجورة إلا من المخاطر...
شاركهم الطعام ثم المبيت في خيمتهم إلى أن أقبل عليهم الصبح...
يتابع...
(1) كلمة عامية مغربية، تعني خلاص.
10 تعليقك حافز مهم على الإستمرار:
اتابع معك ان شاء الله الى ان تقول ( صافى ) :)
اشعر انك ستأخذنا معك قصة داخل قصة لكن بتشويق واثارة تجعلنا ننتظر باقى الاجزاء
تحياتى لك بحجم السماء استاذى رشيد
و يستمر التشويق
قرأت هذاا الجزء من القصة علي اظفر بحل لغز الرسالة ومن ثم نهاية معاناة للافاضم واهل القرية لكن دون جدوى بل زاد الوضع تعقيدا..
ليس لنا من حل غير الاستسلام لسلطة السارد و الانتظار..
تحياتي لك سي رشيد
ظننت أن علي الصغير سيحل اللغز أخيرا و تنتهي معه حيرتي و اشتياقي لمعرفة محتوى الرسالة، لكن المسكين لم ييستطع فك رموزها ما زادها غموضا و زادنا تشويقا ..
في انتظار الجزء الرابع تحية متواصلة لجهودك أستاذي
@ليلى الصباحى.. lolocat
ههههه الله يعزك أختي ليلى، ها أنت تعلمت كلمة (صافي)
شكرا على وفائك في متابعة القصة وفائك لهمسات.
القادم أجمل
@محمد ايت دمنـــات
أهلا سي محمد
لو ظفرت بلغز الرسالة لانتهت القصة، ما عليك إلا أن تنتظر إلى النهاية :)
مودتي
@حنان
يبدو أنه تشبت غريق بغريق، ولم يتمكن الصغير من قراءة الرسالة، ما علينا إلا الإنتظار لموعد اخر..
مودتي
الامر يزداد اثارة
معك للنهاية
@مصطفى سيف الدين
أهلا صديقي
ابق معنا، إلى النهاية
مودتي
تحياتى لك استاذ رشيد
@واحد من الناس
أشكرك أخي العزيز
دمت بخير
إرسال تعليق
كلماتكم هنا ماهي إلا إمتداد لما كتب، فلا يمكن الإستغناء عنها.
(التعليقات التي فيها دعاية لشركات أو منتوجات ما تحذف)