كانت هناك، بجانب الطريق، تمتحُ نضارتَها من طبيعة الريف الخلابة.
في البكور. يمر بجانبها الأول. يتوقف هنيهة، فيلتفت حوله خلسة،. يمد يده، يقطف قطفة، ثم ينصرف...
يمر الثاني على عجل... لم يتوقف!.. يرسل اليد بشكل معتاد.. قطفتان.
يكرر الثالث فعل أسلافه. ثم الرابع والخامس...
غرسها الحاج محمد في بستانه الصغير. قريبا من باب داره. كان مولعا بغرس شجيرات التين في زمن الشباب... تلك أيام مضت قبل أن يثقل كاهله بأعباء الدنيا وهمومها.
رعاها بعناية قلّ نظيرها. نمت وبرزت أفنانها. ثمارها إن أينعت، يسيل لها لعاب الناظرين.
تفرعت أغصانها وامتدت خارج البستان. قطوفها الدانية، قريبة للرائح والغادي.. تمتد إليها الأيادي...
يحلو للحاج محمد وقت العصر أن يستظل بظلها، يضطجع على جنبه الأيمن، مفترشا حصيرا منسوجا من الدوم، تآكلت أطرافه. عابثا بزر مذياعه الأثري، باحثا عن أغنية من الزمن الجميل. يضبط موجة الإرسال على صوت «عبد الوهاب الدكالي الشجي»، وأغنيته المغردة «كان يا مكان»...
أمامه تضع (لالة خذوج1)صينية فضية مستديرة عليها براد وكأسان. يتصاعد بخار يفوح بعطر الشاي المنعنع. يتحول الحاج محمد من وضع الاستلقاء إلى الجلوس. يربع رجليه. يجر إليه الصينية بعناية وهمة، ثم يرفع البراد بيمينه، مرسلا صبيب الشاي وسط الكأس.. يستمتع بصوت الشرشرة، كأنها تزف نكهة أفضل مشروباته على الإطلاق. تتصاعد رغوة تعلو مستوى الشاي داخل الكأس، تتخذ شكل حلقة بيضاء..
تسري النشوة في جسده، يفتعلها ذوق الشاي، حين يمتزج عطره بصفاء ونقاوة الهواء تحت ظل شجرته المفضلة. تكاد لا تحلو له المتعة إلا هناك. في بعض الأحيان يشاركه احد رفاقه من أبناء القرية متعة جلسته العتيقة، يلعبان «الدّاما 2»، أو يسترجعان أحيانا ذكريات الطفولة التي تبعثرت أثارها في أماكن متعددة من هذا الفضاء الريفي الساحر، حين كانا يخرجان لصيد الطيور بالمقلاع المطاطي...
ناول الكأس إلى زوجته وهو يقول لها، (وكأنها لا تعرف):
- هذه الشجرة غرستها قبل زواجنا... إيه.. أيام..!
تهز رأسها:
- نعم.. أعرف... سبعين مرة يا حاج وأنت تكرر هذا الكلام، أنا أعرف، ذلك..
زفرة تنبعث من جوفه، وهو يفرك لحيته المخضرمة بالشيب:
- لقد تعبت من أجلها يا (خذوج).. حتى صارت بهذا الجمال...
- تعبت من أجل من..؟
كاد يقول.. لولا حدة سؤالها المقصود. أكيد أنها تعلم جيدا إلى ماذا يشير. إحساس الأنثى دقيق، دقيق جدا.
ما أجاب. أخذته سكرة الصمت بين أجنحتها، وكأنها طارت به إلى الماضي، بعيدا إلى أيام الشباب.
السيدة خذوج أو (لالة خذوج) كما يناديها أهل الدوار، هي زوجته الثانية تصغره بخمسة عشر عاما. أنجب منها توأمين، ثم اكتفى.
كانت عائشة زوجته الأولى التي اعتبرها أول امرأة دقت باب فؤاده الهصور. حرمه الموت منها يوم الوضع، ماتت بحملها، فما خلفت له ما كان يتمناه في عنفوان شبابه. ظل أرملا لعدة سنوات، لم يتزوج بعدها إلا حين تجاوز سنه الأربعين، وغزت بعض شعيرات البياض صدغيه، فأضحى الخجل حليفه كلما أحرجه أصدقاؤه الجريئون، بعبارات النصح والتأنيب، التي ملها.
غرس شجرة التين بطلب من عائشة التي كانت تعتني دوما بها ولم تفتر يوما.. فورث حبها كما ورث سنة الاعتناء بما خلفت له من تركة. فقد شعر أن هذه الشجرة مسؤولة منه بعد رحيلها عن الحياة. سلب الموت خليلته. ظلت تراوده رغبة الحديث عنها إيماء أو إشارة مضمرة، كلما أتيحت له الفرصة تحت ظلال شجرته الوارفة...
كبر التوأمان. التحقا بالمستوى الإعدادي بعدما أتما دراستهما الابتدائية في مدرسة القرية. زادت أعباء الحياة على كاهل الحاج محمد، ورَبتْ همومه. ما كان يتصور يوما أنه سيفارق فضاءه الممتع إلا بعد أن يستوفي أيامه المقدرة عليه في الدنيا. ودّع طبيعة الريف الخلابة الهادئة متجها مع أسرته إلى مجتمع الصخب والضجيج، مكْرها كان. أصرت زوجته بعد إلحاح يذيب الحديد أن سكنهما في المدينة أفضل لهما بكثير، خاصة من أجل مستقبل أبنيهما.
خرج من جنته وأسرته. القرية ودعها بقلب واجف.
يأتي به الحنين والشوق إليها بين الحين والأخر، يحاول أن يعالج بستانه ويمنحه نفس العناية القديمة، لكن قوته لم تعد كما سابق عهده. من الذي لا يفتر؟ كل شيء يفتر. إلى شجرته العزيزة كان ينظر، بشفقة عينه تتفحص، وكأنه يرثي حاله فيها، حرم ظلها وثمارها الشهية، وجلسة العصر.. شرشرة الشاي المنعنع.. تغريد الزمن الجميل.. نسيم الريح المداعب لأنفاسه، حرم حتى متعة الذكرى بجوارها. كان يرى طيف زوجته الأولى حائما حول المكان، تطل عليه من بين أغصانها المورقة، يحمل وجهها علامة انزعاج، وانعدام رضا، عابسة يراها، كما كانت تصنع في حياتها إن انزعج من أمر ما. تندفع بداخله حسرة فيشعر بوخزها الشديد. مؤلم جدا! يدرك أنه مقصر لا محالة..
شعر أن الرياح تجري بما لا تشتهي سفنه، وأن الزمان يعانده. حتى تلك الثمار التي كان يأتي ليقطفها لم يعد يجد منها إلا النزر القليل. تأكد أنها لم تعد من نصيبه، أيادي خرساء تعبث بثمارها في فترة غيابه.
غاضبا ذات مرة. زوجته لم تره غاضبا كما ذاك اليوم. صرح لها: «ليتهم يستأذنون بدل السلب والسرقة».
تباعدت زياراته على مدار السنة حتى بدت موسميّة... في عطل الصيف، لا أقل ولا أكثر. ذهبت متعته مع الأيام، أخذتها كما تأخذ الريح الأشياء، وكما تبعدها عبر المدى. التاعَ فؤاده، استَحَال إلى جمرة متقدة. الإهمال صار حليف شجرته، خاصة بعد أن أعجزه المرض عن العودة إلى مرتع الشباب.
انقطعت أخباره.
بعد يد الحاج محمد الرحيمة من ذا يسقيها ويعتني بها كما السابق؟
قد مرّ عام جذب، لم تستحمل لفح القيظ والهجير، تساقطت أوراقها الخضراء بعد شحوب. ذهبت عنها نضارتها، تلاشت، فتحولت إلى جدع خاو فارغ من الحياة. هكذا الموت!.
مجالس الغيبة والنميمة لا تخلو من الحديث عنها. ألسنة النساء الثرثارة لا تلتمس الأعذار.. أكان رحيله إلى المدينة سبب هلاكها المشهود؟ استنكرن بشدة. حديثهن لا ينتهي ولن ينتهي..
رجال القرية، أشفق عليها بعضهم. الآخرون يمصمصون شفاههم بحسرة مفتعلة.. ومع أكواب الشاي الساخن ينصهر الكلام بينهم، يتحول إلى نمط ولون متشابه. اتفاق غير منطوق على فكرة واحدة: الأمر لا يعنينا! هو صاحبها، هو المسؤول!. مازال بينهم من يتلمظ ذوق تمارها الشهية.
شاحبة، كانت تحتضر. يتغير لونها وشكلها يوما بعد يوم، كأنها تستجدي الرحمة من أيادٍ أنكرت المعروف. لم تقل يوما لمن مد يده، لا. الجحود طبع بشري!.
أتناء الاحتضار، تنكر لها أصحاب حركات القطفِ خُلْسَة. ما عادوا يلتفتون إليها كما كانوا. ما عاد شيء يُقطف. انطفأت جذوتها. انطفأت الحياة.
لا شيء فعلوه من أجلها.. غير ثرثرة من الموت لم تنجها...
تمت
بقلم: رشيد أمديون/ أبو حسام الدين
1- خذوج هو تلخيص لاسم خذيجة.
2- الداما: لعبة شعبية تُلعب على رقعة بها مربعات بيضاء وسوداء، تشبه الشطرنج