الوصف

لعب.. وحقارة الانتصار


    أذكر أني كنت وأصدقائي - في المرحلة الإعدادية- نلعب بعفوية «لعبة الورق»، نتخذها للتسلية خاصة في أوقات اللهو بعدما ننتهي من حصص الدراسة والواجبات.. كما أن لعبها جاء بعد ما مللنا من ركل الكرة البلاستيكية..

     كنا أربعة؛ تجمعنا الصداقة والمحبة والإخاء، و الدراسة، وأشياء أخرى... كنا نتنافس في اللعب، ونستمتع بالضحك والهزل.
فكرنا يوما أن نضيف إلى لعبتنا محفزا حتى نحارب جيش الملل المتربص بنفوسنا مع تكرار نفس اللعبة. اتفقنا على أن يكون اللعب بالعقوبة، أي أن الفائز له الحق أن يصدر حُكما على المنهزم، وقواعد اللعبة تجعل من يخرج أولا هو الفائز، أما المهزوم فهو من لم يستطع أن يتخلص من أوراقه، ويظل يقاوم إلى أن يبقى بمفرده.
هكذا كانت اللعبة؛ فكان حماسنا يرتفع إيقاعه ويزداد كلما توغلنا في اللعب والمنافسة إلى درجة أن كل منتصر كان يبحث للمنهزم أمامه عن حكم مُحرج ومُعجز. ربما لأن مثل هذا الصنف من الأحكام فيه متعة للمنتصر وكذا لمن نجا من اللاعبين. فازدادت المتعة والهزل والضحك...
انطلق كل منتصر في ابتداع طرقِ عقابية، ومحاولة صياغة فكرة لم يأت بها منافسوه. إنها فرصة بالنسبة لأي منتصر، وأية فرصة! خاصة للذي ذاق ذل الهزيمة مرات متتالية.
(
الغريب أن نفس الإنسان تهوى السلطة واصدار الأحكام ، حتى ولو كان ذلك في إطار اللعب..)

     بعد فترة... لاحظنا أن بعضنا يتملص من تنفيذ الحكم، بذريعة أن ما صُدر في حقه غير منطقي ومُعجز لحد عدم التمكن من تنفيذه. وعندما كثر الاحتجاج والتملص، اتفقنا أن نستخدم طريقة أخرى في العقاب. فجئنا بفكرة كانت رغم قسوتها مقبولة عند جميع الأطراف، ويمكنها أن تُطبّق بدون حرج، وأمامها لا مجال للجدال أو الاحتجاج مطلقا، ومن لم يقتنع فله خيار الانسحاب. كان هذا هو الاتفاق.
نهجنا طريقة العقاب بالضرب على راحة اليد. المنتصر هو من له الحق في ضرب المنهزم، وطبعا عدد الضربات نحددها بعدد أوراق الفوز، والحظوظ تختلف. وقد يظل المنهزم في مرارته عدة جولات، وقد لا يحالفه الحظ  أن يأخذ زمام الحكم إلا مرة في عشر جولات. وبقينا على هذا النمط لعدة أيام.
كان التنافس شديدا، وكل طرف يقاوم ،وكأنه يخوض حربا ضروسا... يجاهد، على الأقل لينجو ويفلت من العقاب إن لم يفز بسلطة إصدار الحكم التي يتمناها كل لاعب حتى يستمتع بعقاب خصمه. تحول اللعب إلى الجد تدريجيا على فترات، إلى أن صرنا - بدون شعور- نلعب من أجل التحدي، ثم من أجل الانتقام، لا من أجل التسلية كما بدأنا الأمر... فنسينا أو تناسينا أننا نلعب فقط.
ساد هاجس الانتقام الخبيث على تصرفاتنا وأفعالنا، ليتحول بعد حين شيئا فشيئا إلى لذة ومتعة شريرة كلما توغلنا في اللعب، وهذا كان يظهر واضحا في الإبداع والتفنن في أسلوب الضرب، فقد اخترنا عصا جيدة، والطرف المنتصر كان يُفرغ جام غضبه على خصمه حين يمسك بعصا الحكم، وكأنه ملَكَ كل شيء ويحق له أن يرفع يده إلى أقصى حد تستطيع أن تصل إليه ذراعه، ثم ينزل بها على راحة يد صديقه بدون رحمة ولا شفقة.
تحول الأمر إلى العداوة والغيرة والحقد الدفين، وسوء الظن وتوجيه التهم. انسحب أحد أصدقائنا من اللعب بعد أن آلت الأمور إلى هذا الحد، وفضل أن يقف موقف المتفرج، بينما نحن الثلاثة نتقاتل، وكل واحد منا يحاول أن ينتصر لنفسه بأية وسلة ممكنة حتى يعاقب خصمه -بل عدوه- بضربات يصب فيها أقصى ما يملك من قوة.
(
من السهل أن تخلق جنسا من البشر يستمتع بتعذيب الآخرين، ما عليك إلا أن تمنحهم عصا السلطة والقوة، ثم تبرمجه على أنه هو الوحيد من له الحق.. سترى العداء وفنونه..).

     ذات يوم، قررنا أن لا نعود إلى مزاولة هذه اللعبة، توقفنا لنعيد التفكير في سلوكنا، ولنحرر أنفسنا من سلطة الأنا، التي قيدت تفكيرنا، حتى صرنا عبيدا لها، كما أن هذه الأنانية اتخذت من ميدان اللعب مساحة تمارس فيها كل أساليبها الوقحة والديكتاتورية.
هجرنا اللعبة اللعينة، وما رافقها من أحكام وعقاب. لم نستفد شيئا، وحتى ما كنا نرجوه من متعة التسلية... لم نجدها، بل كدنا نفقد كل شيء، (الصداقة والمحبة والأخوة...)
لعبة أوشكت أن تكون السبب في استئصال جذور غُرست من سنوات الطفولة، كادت أن تشتت شملنا وتقضي على وحدتنا، لولا أن أدركنا الأمر وإن تأخرنا.
(
الأمور التي تكون ثانوية أوفرعية إما أن يعذر بعضنا بعضا، وإما أن نلغيها حفاظا على الأصل...)

      إنني أخطأت وأصدقائي، لكنني تعلمت حينها شيئا مهما جدا، تعلمت أن بداخلنا نحن البشر نوازع الشرّ، قد تطفو على السطح، وتبرز في تصرفاتنا، وفي ما نزاوله من شؤون الحياة: -لا تقل لي ذاك فكر الطفولة والمرحلة، لأن الواقع يؤكد أنه لا فرق بين الكبير والصغير في هذا الأمر،- في السياسة وأساليبها، في النقاش والحوار، في العمل والمنافسة وفي...
هذه النوازع لو امتلكتنا فعلى الدنيا السلام، ونحن فقط من بيدنا سلطة الاختيار إما إيقافها وزجرها، أو تركها تسوقنا إلى الهاوية فنكون عبيدا لها، تسوقه كالقطيع إلى حافة الحقد والبغض والعداوة، وسوء الظن...
(
فلا تندم بعد السقوط إن رضيت أن تكون آلة في يد الشر).

     ومن هنا أقول: لعل كل شخص –أو تنظيم أو مؤسسة- يجد نفسه داخل لعبة يمارسها في معترك الحياة، ليست بالضرورة أن تكون كلعبة الورق التافهة، بل أكبر من ذلك وأشد بأسا، وقد تكون من الأمور المتعارف عليها دوليا وإقليميا، لكنها ربما أو تكاد تقضي على علاقته بأقرب الناس إليه، أولائك الذين يربطه بهم رباط الأهل، والوطن، والدين..
ولن أزيد على هذا القول: «الفاهم يفهم»!.

والسلام.
رشيد أمديون/ أبو حسام الدين

24 تعليقك حافز مهم على الإستمرار:

مغربية يقول...

ذكرتني بلعبة الورق التي كانت دوما تبدأ بتسلية وتنتهي بمشاجرة
الشر موجود في كل واحد فينا، اظهاره في أحيان عديدة يكون نقمة أكثر من كونها وسيلة للدفاع عن النفس أو ابعاد الأذى
كنت هنا يا أبا حسام الدين
سلامووو

محمد الجرايحى يقول...

نحن جميعاً أخى : رشيد
نعيش فى لعبة كبيرة لانستطيع الخروج منها ولادفع ضررها......

تقبل خالص تقديرى واحترامى
وبارك الله فيك وأعزك

مصطفى سيف الدين يقول...

انها ذات اللعبة التي قتتلون من أجلها سعيا ورائها
اعجبتني التدوينة التي عكست قهر الشعوب في لعبة ورق
مليون لايك اخي العزيز
دمت مبدعا

ليلى الصباحى.. lolocat يقول...

لمعرفتى القريبة بك اخى العزيز اشعر ان لك تلميحات عظيمة
ونصيحة غالية تريد ان يستمع اليها البعض فى هذا الوقت الذى نحياه وظروفه العصيبة .
لقد اوضحت بشكل مرتب متتالى شرح الاية الكريمة
لا تتبعوا (( خطوات )) الشيطان
ولنا ان نطبق مفهوم الاية الكريمة فى كل نواحى حياتنا سواء على نطاق بسيط مثل حياتنا الطفولية
او نطاق اوسع فى شبابنا او الاوسع فى الحياة السياسية والدولية

وليس هناك اقذر من لعبة السياسة فيمكن من خلالها ان يرتفع الانسان لقمة الصلاح او لقمة الفساد والظالمين ...هذا لو انتبه كل شخص لقوانين اللعبة ومايريد من خلالها
الخير ام الشر

نسأل الله تعالى التيسير وان يصلح حالنا وحال جميع المسلمين
ولك ارق تحية وتقدير

حنين محمد يقول...

مساء الغاردينيا ابوحسام
حقاً أصبحنا اليوم في شعوبنا العربية كـ معترك لعبة ورق
أصبح من يتولى سياط سلطة يمارس وحشيته على رعيته ..
أسودت النفوس وأضمحلت القلوب النقيه "
؛؛
؛
مبدع وربي راقت لي تدوينتك المميزة
لروحك عبق الغاردينيا
كانت هنا
reemaas

زينة زيدان يقول...

كأنك تصور حياة بمجتمعتها و بشعوبها في لعبة ورق يلعبها أربعة أشخاص ..
حادثة لخصت من خلالها أسبار النفس البشرية ومكنوناتها
بالفعل لقد كانت اللعبة بكل مراحلها تلخص مراحل سلطوية واسعة و وما تؤول له النفس البشرية من متغيرات مرتبطة بالسلطة والحكم..

تحيتي لقلمك الواعي
و رسالتك الهادفة

رشيد أمديون يقول...

@مغربية
نعم أختي مغربية، هي لعبة لعبها جل الأجيال.
بخصوص الشر هو فعلا موجود فينا، أما اظهاره للدفاع عن النفس فهذا أمر اخر، فالشر لم يكن وسيلة أبدا للدفاع، مادمنا ظلمنا فالدفاع ليس شرا بل حق. لكن الشر إن سيطر فلن نستطيع أن نسميه دفاعا عن النفس على حد قولك. هذه نقمة وأية نقمة.. لا تنسي أن الامور تتطور..

تحيتي لك يا ابنة الحمراء.

رشيد أمديون يقول...

@محمد الجرايحى

أستاذ محمد
هذا هو مربط الفرس، أننا لا نستطيع الخروج منها..
مرحبا بك دوما سيدي
تحيتي

رشيد أمديون يقول...

@مصطفى سيف الدين

واللعبة لا تنتهي، وكثير لا يستيقظ بل يظل يلعب..
حياك الله أخي مصطفى
تحيتي وشكري.

رشيد أمديون يقول...

@ليلى الصباحى.. lolocat

أختي ليلى
صدقت فعلا أن صياغتنا للعبة هو الأهم، لأن نوازع الشر هي من تحدد غرض اللعبة أللخير ام للشر، لكن يبقى الغرض وإن كان للخير قد تسيطر عليه عوامل النفس التي قد ترجعه نقمة لا نعمة...
بارك الله فيك على التعليق، وشكرا.

رشيد أمديون يقول...

@ريـــمـــاس

أسعد الله أوقاتك أختي ريماس.
شكرا لمداخلتك
ورأيك في التدوينة المتواضعة
حياك الله.

رشيد أمديون يقول...

@زينة زيدان

التوغل في اللعب بهذه القواعد الموضوعة هو التوغل في التسلط والانتقام..
حياك الله أختي زينة، وشكرا على تعليقك.

Unknown يقول...

السلام عليكم..
أعجبتني التدوينة وما احتوته من قصة معبرة..
لفتت هذه القصة انتبهي إلى عدد من الآيات القرءانية الكريمة التي تتحدث عن عقاب الآخرين في المجتمع الواحد على أساس أنه عقاب للنفس، كالآيات: "فاقتلوا أنفسكم.."، "ولا تلمزوا أنفسكم"، "ثم أنتم هؤلاء تخرجون أنفسكم من دياركم.."، وغيرها كثير.. وهي جميعا تعبر عن أن عقاب فرد في المجتمع كعقاب اي فرد آخر، بل إنه عقاب للمجتمع كله، بما فيه من قام بعملية العقاب!
وبالتأكيد فإن من اشترك في الاتفاق على نوعية العقاب وأداته وطريقته فهو قد اختار الكيفية التي سيعاقب بها نفسه!
تقبل تحياتي...

د.ريان يقول...

موضوع رائع وجميل سيدي الكريم

بداخل كل نفس خير وشر كعادة كل البشر أنظر إلى بعض المسؤولين

يكون في شباب وفي جامعته مثالاً للأدب والأخلاق حتى يتمكن من منصب

تجده يتفنن في أذية خلق الله ويعذب عباده

أناس كثير حولنا تجذبهم فكرة الفتنة والمشاكل ولا يبقى سوى المؤمن

يحب لغيره مايحب لنفسه كثيرين في حياتي لم يقاوموا تلك الشهوة للإنجذاب في الشر فلغيتهم وضحيت بصحبتهم

موضوع بجد روعة أبو حسام لله درك من كاتب

دمتم بكل ود

تــركــي الــغــامــدي يقول...

تحياتي لشخصك الكريم .. طرح شيق ... يغوص في أعماق النفس البشرية بطريقة جذابة ... وتحليل عميق للسلوك الإنساني في ممارساته المختلفة .

لــــ زهــــــراء ــــولا يقول...

(من السهل أن تخلق جنسا من البشر يستمتع بتعذيب الآخرين، ما عليك إلا أن تمنحهم عصا السلطة والقوة، ثم تبرمجه على أنه هو الوحيد من له الحق.. سترى العداء وفنونه..).

......................................................
تعلمناها لدينا في مصر ومازلنا ندفع ثمنها للأن .




بداخلنا نحن البشر نوازع الشرّ، قد تطفو على السطح، وتبرز في تصرفاتنا، وفي ما نزاوله من شؤون الحياة

..........................................
حقيقة لا يمكن اغفالها لكننا احياناً نغض الطرف عنها


لولا

رشيد أمديون يقول...

@Bahaa Talat

وعليكم السلام.
أشكرك أخي بهاء على الاضافة الجميلة والقيمة. وفعلا من وافق عىل نوعية العقاب... فهو اختار الكيفية التي سيعاقب بها نفسه.

بوركت أخي.

رشيد أمديون يقول...

@د.ريان

أخي العزيز د.ريان
شكرا لك أيها الطيب على تعليقك واضافتك الجميلة.
بارك الله فيك

رشيد أمديون يقول...

@تــركــي الــغــامــدي

أهلا بك أخي تركي، أنرت المدونة.
أسعدني وجودك أيها الطيب
بارك الله فيك

رشيد أمديون يقول...

@لـــولا وزهـــراء

نعم لولا، أينما ولينا وجوهنا سنرى أثرا من ذلك.
تحيتي أختي الكريمة.

كريمة سندي يقول...

إن اللعبة السياسية هي لعبة المعاقين فكريا بسبب التسلط في السلطة تحياتي الصادقة

حنان يقول...

قرأتها متأخرة جدا و علمت أني قد لا أسلم من هذه اللعبة الحقيرة و أنا أخوض غمارها كل يوم و لو في عالم وهمي رغم محاولتي الحفاظ على ذات البين ...
فهمت و فهمت أ أستاذ :) ... "و كان الإنسان أكثر شيء جدلا "

لك بالغ تحياتي أخي رشيد

نيللي علي يقول...

ويوجد نوع من البشر يعاملون الطيبون كأنهم ((العقلاء)) الذين يتحملون أي شئ وبعاملون ((الأشرار)) بكل ذوق تقاء لشرورهم وبهذا يعطون لهم ((العصا)) والسلطة للأشرار لكي يعذبون الأخرين..وأيضاً من يستغل إنه يكبرك سناً فيغيظ فيك لأنه يعلم جيداً إنك لن تقدر في هذا الموقف أن ترد له الموقف..كل هؤلاء يستمتعون بسلطة وهي سلطة الشر وطيبة الأخرين.. والرجل الدي يعتقد أن القوامة سلطة يعذبه بها زوجته ..تحياتي لك رشيد..ولو سمحت ارسل لي الرابط الدي أصوت فيه علي مقالك هدا..وشكرا لك..

سناء يقول...

كلام ومعنى

متفقة مع كل ما كتبت هنا

كنت هنا

إرسال تعليق

كلماتكم هنا ماهي إلا إمتداد لما كتب، فلا يمكن الإستغناء عنها.
(التعليقات التي فيها دعاية لشركات أو منتوجات ما تحذف)

Join me on Facebook Follow me on Twitter Email me Email me Email me Email me

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | تعريب وتطوير : قوالب بلوجر معربة