وصل في الموعد أو قبله بقليل.. دخل المبنى بخطى يجهل هل سيخرج بمثلها بعد يومين أم أنه سيغادره محمولا... تشجع، وولج عبر باب زجاجي..
بنظرة فاحصة متوجسة لمح أثر السكون يغلب على المكان، والبكور يعلن سلطانه قبل أن يطرده هجوم الحركة المرتقبة. ولّى وجهه نحو الاستقبال، حدقت فيه موظفة بنظرات استفسار تكاد تنطق بالسؤال، ولعله هو من بادرها بالنظرات الأولى.. فألقى التحية مستدركا، وتقدم نحوها، ثم أخرج من جيب معطفه الأسود ورقة بيضاء متوسطة الحجم دفعها بتأن للموظفة قائلا أنا من طرف الدكتور م.ر، تسلمت الورقة وبعد نظرة سريعة فيها أشارت له أن يتفضل بالجلوس..
أمضا فترة الانتظار في تقليب هواجس تحتاج ترتيبا، لكنه على يقين أنه لا يملك فرصة لذلك، كلها صور متماسكة، كشريط لحظات الحاضر والماضي يمر أمامه.. تتداخل الأفكار تتزاحم..
- ما الفائدة؟ أفرِغ مخيلتك من كل وهم.. ركز جيدا.ا الأمر قد يكون بسيطا وأنت تضخمه.
تصلبت عيناه في جهاز تلفاز على الحائط أمامه.. تمنى من الوقت لو يحمله بقفزة إلى الأمام..! قفزة تتجاوز به المرحلة في غمضة عين، فأغمض جفنيه ثم فتحهما.. وجد نفسه ما يزال يجلس في قاعة الانتظار..
- أتكون الغمضة كمثل هذه وينتهي الأمر؟
قال له صديقه خالد في اتصال أمس: لا تقلق لن تحس بشيء إنه كوخز إبرة..
بدأ المكان تحييه حركة الموظفين والعاملين. نادت عليه الموظفة نفسها طالبة منه هذه المرة بطاقة تعريفه، ثم وضعت أمامه استمارة ليملأها مع التوقيع... قرأها فاقتنع أنها بعض الإجراءات الروتينية..ولكن انتظر هناك بند لابد من مناقشته، أشار له :
- جميع المصاريف مدفوعة مسبقا!
- نعم.. نعم، لا تقلق هي إجراءات لا بد منها.
جاءته سيدة ورافقته إلى غرفة في الطابق العلوي، ابتسامتها الحنونة ما فارقت شفتيها. همست له: غدي نطهلا في وليدي (سأعتني بولدي)..صعدا معا.
في الغرفة 22، وضعت أمامه ميزانا لتقيس وزنه، قالت: ماذا؟ 55 كلج فقط !
نظر في تقاسيم وجهها فابتسم، أو أظهر ذلك.. المجهول الذي ينتظره مسح معالم الابتسام من شفتيه.. كل مشاعره تستعد للحظات الآتية، الكلام يمر أمامه متشابها لا يحدث في شعوره تفاعلا..
طلبت منه أن يغير ملابسه ويجرد نصفه الأعلى .. أعطته بزة بيضاء مغلقة من الأمام مفتوحة من الخلف، ثم على سرير مدد جسده، فقامت بتغطيته وقاية من البرد.
بعد دقائق سريعة سمع طرقا على الباب ودخل شاب، وألقى التحية مبتسما.. ودنا إليه، تناول ذراعه اليمنى وقاس الضغط، تم تبسم في وجهه وتوارى خلف الباب.
أشارت إليه السيدة أن يتبعها.. أيقن أنها المرحلة الأخيرة..
في الأسفل وجد غرفة مجهزة بكثير من الأجهزة الطبية سلمته السيدة لأحد الدكاترة واختفت..
استلقى على ظهره في سرير فوقه جهاز..
سلم أمرك لله، أنت الآن قاب قوسين أو أدنا من الغياب..
ظهرت ممرضتان سارعتا بتجهيز اللوازم، بينما الدكتور يزرع إبرة متصلة بأنبوب بلاستيكي في أحد عروق يده اليسرى.. تظهر دكتورة أخرى تمسك حقنة تحتوي سائلا تغرس إبرتها في الأنبوب على مهل..
- أحانت لحظة الغياب؟ ربما انتقل بعد هذا إلى عالم أخر.. ترى ما الذي سأراه ؟
- أشعر بدوار..
أخر ما همس به للدكتورة وهو يحدق في السقف وكأن الصورة تختفي..
- هذا طبيعي إنه مفعول المخدر.
- أفق أفق...
- أين أنا؟؟
- حمدا لله على سلامتك، لقد انتهت العملية...
- ما الذي حدث؟ ما هذا الذوق الذي في فمي..؟!
- سبحان من أحيانا بعدما أماتنا..
إحداهن تقلبه على جنبه..أحس بإبرة حقنة في فخده الأيسر وسائل يسري في عروقه...لم يشعر بألم..
يغيب من جديد..
توقظه أياد تعبت بجثته... وصوت:
- حاول أن تطلق رجليك.. ادفع... اصعد قليلا..
يفتح عينيه، يجد نفسه على السرير في الغرفة 22 وكل شيء حوله يدور ويدور..