الوصف

بصيرة الروح

في الموضوع السابق (بالروح لا بالجسد) تناولت مسألة تكريم الله للإنسان على أنه تكريم للروح لا للجسد، وعليه كان واجب الموازنة بين النسب الإلهي والنسب الطيني ضرورة ليكون هذا المخلوق إنسانا عن حق وعبدا لله تشريفا.
يعتبر البدن قالبا وستارا يغطي روح الإنسان التي تُحجب عنها الحقائق مادامت سجينة بدنها، ولكن حين تنطلق في الملكوت الأعلى وتتحرر من قيد بدنها ترى الحقائق جلية وواضحة وترى الحق حقا كما وُعدت به من لدن خالقها، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة التي توضح مجيء الموت بالحق حيث يقول تعالى: « وجاءت سكرة الموت بالحق» (1) ثم في نفس السياق تأتي الآية الموالية: « لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» وكما قال الدكتور فريد الأنصاري – رحمه الله- أن البصر في الآية ليس هو بصر العين المجردة بل هو بصر الروح التي سترى الحقيقة بحدة ودقة بعد أن يزيل الله عنها غطاء البدن "ولا أبصر لحقائق الوجود من الإنسان عند احتضاره" (2) بحيث أن البدن وما يوفره من الحس، والذوق، والسمع والبصر...هي وسائط ندرك الحق بها، لكن الروح حين تتحرر وتبصر بذاتها ترى الحقيقة كاملة غير ناقصة. وهذا التحرر قد لا يقتصر فقط على لحظة خروج الروح من جسد الإنسان بل قد يكون كذلك في حياته إن هو سار على درب الهدى وزكى نفسه وغلّب جانبه الروحي على جانبه الترابي الذي هو قيد من قيود الشهوات. وعبّد نفسه لله وحقق معنى الربوبية في سلوكه الإيماني حينها يرى بعين روحه، ويبصر بقلبه الذي يسع الإيمان « فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور»(3). وقد عبر الشيخ المغربي أبي عجيبة الحسني - صاحب إيقاظ الهمم شرح متن الحكم (4) - في بيتين عن هذا المعنى بطريقة موجزة ومعبرة، حيث قال رحمه الله:

قلوب العارفين لها عيون ترى ما لا يرى للناظرين
وأجنحة تطير بغير ريش إلى ملكوت رب العالمين.

الهامش:                                                                                                           بقلم: أبو حسام الدين
1- ق: 19       .       2- د.فريد الأنصاري      .      3- الحج: 46      .      4-  الحكم العطائية لإبن عطاء الله السكندري


بالروح لا بالجسد.

لحظات نقضيها أحيانا تأملا في جوانب من حياتنا العجيبة. نرسل النظر تارة ونفعّل ملكة الفكر تارة أخرى. نحاول أن نتأكد من جدية سلوكنا الروحي وسفرنا الإيماني نحو جنة الإحسان ورياضه، والتأكد من تحقق تلك المفاهيم التي أرساها الخطاب القرآني في أكثر من موضع في كتاب الله (ففروا إلى الله (1)- سارعوا (2)- سابقوا(3) - في ذلك فليتنافس المتنافسون (4)- وأنيبوا(5).. خطاب بصيغة الأمر يحمل بين طياته الترغيب، وله دلالة مهمة تتجسد في مفهوم معين كالحركة والانتقال والسفر... لكنها حركة روحية تكون بالروح والمجاهدة وصدق القلب قبل أن تكون بالجسد الطيني، هي بالقلب لا بالقالب، هي بالذوق والإيمان لا باللمس والرؤية والمشاهدة ولا مجال للعقل البشري في تفسيرها. فهل أحسنا التصرف بأن أقمنا ميزان العدل بين متطلبات الروح ومتطلبات الجسد؟ أم أن نسبنا الطيني طغى وغلب على نسبنا السماوي؟ 
بديهيا أن المخلوق البشري هو مادة –الجسم- وروح وهي شيء لا يحيط بعلمه إلا خالقه ، ومن هذين المكونين ومن تمازجهما صار هذا الإنسان وهو الكائن العاقل أو كما يسمى لدى الفلاسفة حيوان عاقل - وإن كنا سنتحفظ من كلمة حيوان فقد ورد اسمها في وصف دار الدنيا في القرآن الكريم-
لم يكن للإنسان قيمة تذكر من قبل أن ينفخ الخالق فيه الروح. مر عليه حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا(6). وفي حوار الله مع الملائكة أخبرهم سبحانه أنه خلق بشرا من طين فلم يأمرهم بالسجود له إلا بعد أن نفخ في أدم الروح(7). فتكريم الله للإنسان لم يأت لكونه مادة أرضية ترابية ، بل التكريم موجه إلى تلك الروح التي حبانا الله بها، وهي الشيء المشترك بيننا وبين الملائكة ذات الخلق النوراني.
لا اعتبار للمادة الترابية التي ينتسب لها جسد الإنسان، بل الاعتبار يكون للروح التي تسكن ذلك الجسد. لهذا كانت الروح ولا تزال تحن إلى العلو والسمو تحن إلى أصلها الطاهر، لكن عمى البصيرة وغواية الشيطان قد تجعل الإنسان يخلد إلى الأرض ويتّبع هواه. فالتكريم ليس للمادة والهيكل الذي يحوي الروح بل هو للجوهر والمحتوى، وهو نفحة روح الله التي ألقيت في أجسادنا وجعلتنا نتصف ببعض من صفات خالقنا كالقدرة والكلام والسمع والبصر والرحمة.. 
وأستحضر قول الشاعر الحكيم: (8)

يا خادم الجسم كم تشقى بخدمتــــــه  ***  أتطلب الربح فيما فيه خسران 
أقبل على النفس واستكمل فضائلها  ***  فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان

التوازن بين النسبيين مطلب لابد له أن يتحقق في سير المؤمن وسلوكه الروحي حتى لا تطغى نزعات الطين والمادة الأرضية على النسب السماوي الإلهي فيصير الإنسان ممتلئا شرا، غارقا في ظلمات الظلم والضلالة والغفلة وحب الفانيات.


الهامش:                                                                                                             بقلم: أبو حسام الدين


1- الذاريات (50) . 2- آل عمران (133) . 3- الحديد (21) . 4- المطففين (26) . 5- الزمر (54) . 6- الإنسان (1) . 
7- الحجر(29) . ص (72) . 8- من قصيدة طويلة لأبي الفتح علي بن محمد بن الحسين البستي.

Join me on Facebook Follow me on Twitter Email me Email me Email me Email me

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | تعريب وتطوير : قوالب بلوجر معربة