ضاقت به الدنيا بعد فراق الحورية الحسناء سالبة العقل والقلب؛ وقد شغفته
حبا! ها وقد حملت منه! وبأجنحتها عرجت إلى عالم
السماء.. صار لا يطعم طعاما ولا يستطيب مناما وكثر سهوه، وقلّ كلامه، فتراكم الهم
والغم في صدره. انجرفت الأيام به على مضض،
ولبس ثوب الشقاوة والعنت، ولازمه هذا الحال دهرا حتى أيقن أن الحل هو اللحاق بحوريته حتى ينعم بجوارها.
فهَمّ بالصعود إلى السماء! طرح بردة الشقاء والحزن أرضا
مودعا أمه الحزينة التي ما تفتأُ تذكر اسمه فتُجهش بأدمعٍ حرّى لا تنقطع .. امتطى
صهوة جوداه وساح في الأرض جاهلا الوجهة، لا يبتغي إلا وسيلة الصعود إلى السماء..
بقي الشاب الوسيم يطوي مسافات الأرض طيا إلى أن صادف رجلا في سن الشيخوخة
كان في معزلٍ من الناس... أرشده إلى جبل عالٍ يلتحف لون الاخضرار، تسكنه الطيور
والجوارح وتعتليه الأسرار، به نسر عظيم أوتي قوة كل النسور والأطيار... قال الشيخ:
تلك وسيلتك الوحيدة في العروج إلى السماء
السابعة، فانطلق ولا تحتار.
تابع حماد اونامير سفره، يطوي الهضاب والوهاد ويتبع الوديان
ومنابت الشجر إلى أن بلغ الجبل. وجد أعشاشا كثيرة ومتنوعة بتنوع الطيور البرية،
وغارا كبيرا يقف في فوهته نسر عظيم الحجم
هائل الصورة. قص عليه أمونامير ما حدث له، فأظهر تعاطفه الشديد وتأثر بقصته بشدة، ولكنه أخبره أنه لا يستطيع أن يلبي طلبه لكبر سنه وضعف قوته وقد تساقط بعض ريشه.. توسل إليه بكل عزيز وغال أن لا يخيّب
أمله.. فرقّ قلب النسر وأشفق عليه لمّا علم أنه قضى دهرا يبحث عنه.. قال: سأحملك
إلى السماء ولكن بشرط.. أن تطعمني من لحم حصانك حتى أستعيد قوتي وقدرتي على
الطيران البعيد.. شعر أونامير بالإحباط، كيف يستطع أن يستغني عن رفيقه وصديقه، وحصانه
الذي اخترق به الوُعُور.
سمع الحصان ما دار بينهما من حوار، فتقدم إليه بعزيمة وقوة معلنا أنه على
استعداد أن يضحي بنفسه من أجل أن ينال
صديقه مبتغاه، وتقر عينه برؤية حوريته. استسلم رفيق سفره للذبح... بكى أونامير من
شدة حزنه ومن شجاعة حصانه وتضحيته.
بعد أن أكل النسر من لحم الحصان عادت إليه قوته واستعادت أجنحته ريشها، ثم احتفظ
أونامير بسبع قطع من اللحم في جرابه...
تهيأ أونامير للرحلة وركب ظهر النسر وحلق به بعيدا. وكلما صعدا إلى إحدى السماوات
أَلْقم نسره قطعة من لحم الحصان، حتى أوشكا على بلوغ السماء السابعة، وبينما يحاول
أن يخرج قطعة اللحم الأخيرة إذ بها تنفلت من يده وتسقط. تحسر كثيرا خاصة وأنه أدرك
أن النسر بدأت قوته تضعف وقد لا يستطيع إكمال الرحلة، فاقتطع من باطن ذراعه حيث
المرفق قطعة لحم فأطعمها له حتى يوصله إلى السماء الأخيرة.. قال له النسر: إن هذا
اللحم ليس لحم الحصان، فأخبرني من أين جئت به. رد عليه اونامير أنه لن يخبره إلا إذا
أعطاه موثقا بأن لا يُسقطه مهما كان الأمر. فعاهده النسر على ذلك، فأخبره أنها من
ذراعه، فغضب النسر منه كثيرا قائلا له: لولا أني أعطيتك عهدا لأسقطتُك من فوق ظهري.
بعد وصوله إلى السماء السابعة وجد حماد أونامير عالما أخر كجنان قطوفها
دانية، وعيون يجري منها الماء سلسبيلا وثمارا غريبة وعجيبة.. فالتجأ إلى مسجد
يرتاح فيه من عناء السفر.. التقى هناك بطالب للقرآن صغير السن تشع أنوار الحسن من
وجهه، كما أن الطفل تأثر بجمال أونامير
كذلك، وحين ذهب إلى أمه أخبرها أنه رأى في المسجد رجلا فائق الجمال، حسن الصورة
رشيق القوام، فطلبت أوصافه بدقة فوصفه لها
بتفصيل ممل. أمرته أن يُحضره إلى المنزل.. عاد الطفل أدراجه إلى المسجد ليستدعي
اونامير، فقَبل دعوته. وعندما التقيا علم أن الطفل الذي استدعاه لم يكن إلا ابنه الذي
لم يكتب له القدر رؤيته... هلت الفرحة عليهم بعد أن اجتمع شمل أسرته، وسعدوا باللقاء.
اشترطت الحورية على حماد أونامير إن أراد أن يسكن معها أن لا يقرب مكانا يوجد
بمنزلها به حجر مسطح يأخذ شكلا دائريا يخفي خلفه فوهة.. لم تخبره بسرها، كل كلامها
كان تحذيرا حتى لا يفكر يوما في تحريك هذا الحجر مهما كان الأمر.
تسارعت الأيام في الانقضاء عاشها حماد أونامير مع حوريته وابنه في سعادة
وحب، حتى أقبل يوم عيد الأضحى فأحس بالحنين إلى والدته الحنونة، تمنى لو يراها
وينعم بنظرة واحدة فقط، أو يسمع صوتها، أو حتى يأتيه مجهول بأخبارها.. ساقه شعوره
بالحنين إلى أن يدفعه الفضول لمعرفة ما خلف ذلك الحجر وما السر ورائه! لماذا كانت الحورية تحذره وتوصيه باجتناب مكانه؟ فلجأ إليه وأزاحه
بقوة، آملا أن يجد شيئا هناك يفيده في معرفة أخبار والدته. اكتشف فوهة وثقبا يطل على
الأرض، نظر من خلاله فرأى والدته تشكو
وحدتها وتمسح دمعتها وقد ابيضت عيناها من الحزن، وهي ممسكة بحبل قصير قد ربطت فيه
خروف العيد وتنادي: ترى أين أنت يا حماد أونامير؟؟ أين أنت يا بني؟؟ ليتك تأتي
لتذبح لي بيدك أضحية العيد.. لم يتمالك نفسه من شدة ما رأى، زعق بقوة كي تسمعه
ولكن بدون جدوى.. فدفعه شوقه وحنينه لأمه فتجاهل تحذير الحورية له، واستجاب
لندائها الحنون معلنا بقوله في السموات: لبيك أمي.. أنا قادم إليكِ... فألقى بنفسه
من فوق السبع العاليات، تهوي به الرياح وتمزق
جسده.. فلم تصل منه إلى البسيطة إلا قطرات من الدم، واحدة على عنق الخروف فذبحته، والثانية سلخته
وجزرته، والثالثة سقطت على عين أمه فأبصرت، لكنها لن ترى ولدها بعد كل الشوق والحنين
والغياب.
تمت
بقلم: أبو حسام الدين