تمر الأيام
والشهور وتحل في كل بداية سنة هجرية ذكرى أكبر حدث في تاريخ الإسلام، حدث هجرة المصطفى
إلى المدينة المنورة بعد ثلاث عشر سنة من الدعوة في مكة لقي فيها من الأذى ما لقيه؛ في كتب السيرة النبوية الكثير والكثير مما قيل عن
الهجرة، مما اعتمدت عليه من الأخبار الصحيحة لتوضيح أحداث هذه الحادثة..
طبعا أنا هنا لست بصدد القيام بتأريخ الهجرة، بل
إني أحاول رمي كلماتي النابعة من خاطري ومن إحساسي بهذا الحدث الإسلامي العظيم،
وما تأثرت به من خلال قراءتي وبحثي في السيرة النبوية الشريفة؛ هذه مجرد خواطر تدفعني أن أكتب وأعبر
وأتعلم أشياء كثيرة من هذا الحدث الذي غير تاريخ أمة من حالة ضعف إلى حالة قوة.
كم هو
صعب على الإنسان أن يغير وطنه ويرتحل إلى
وطن أخر، كم هو صعب عليه أن يخرج من المكان الذي ولد فيه وكبر فيه، كم هو صعب أن
يترك عشيرته وذويه.. ولكن أمام مشيئة الله ثم أمام واجب الدعوة الإسلامية لا مجال
لتفضيل الموطن على الدين، ألم يهرب موسى ببني إسرائيل من مصر خوفا من بطش فرعون لكي
يقيم دولة التوحيد في أرض القدس، وكذلك هروب أهل الكهف من مجتمع الظلم، ألم يقل
الله تعالى في القرآن: ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ
ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي
الْأَرْضِ ۚ قَالُوا
أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّـهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَـٰئِكَ
مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) -النساء97- الهروب
بالدين شيء مطلوب حين يشتد البأس، فلو بقي المسلمون في مكة لم يكونوا ليؤسسوا
فيها دعائم الدولة الإسلامية، لهذا كان البحث عن مكان أخر وأرض أخرى قابلة لاحتواء
هذه الدعوة، ثم بعد ذلك العودة إلى فتح مهبط الوحي الأول بعد أن تقوى الإسلام،
وصارت له نفوذ.
جاء أمر
الهجرة إلى النبي بعد أن أجمع كفار قريش على أن "يضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق
دمه بين القبائل"، هكذا كان مكرهم، ولكن الله خيب ظنهم؛ حاز ابن عمه علي بن أبي طالب شرف
الفداء ليلة الهجرة حين طلب منه وأمره رسول الله أن يبيت في فراشه ويتغطى ببردته؛ إنها المحبة التي تجعل المحب يضحي
بحياته من أجل حبيبه، وهذا ما برهن عليه علي كرم الله وجهه، فدى حياته ليبقى مبعوث
الرسالة الإلهية كي يتم نور الله في الأرض، كم ينقصنا لنفهم هذا المعنى الدقيق؟
معنى الفداء والتضحية من أجل من يحمل مستقبل الإسلام حينها، إن الرسول كان في عين
أصحابه كل شيء، لو طلب حياتهم لمنحوها له، هم كانوا بأنفسهم وأرواحهم فدءا للإسلام
ولرسوله.
قال أبو بكر
لحبيبنا محمد حين أزمعا على الهجرة "الصحبة يا رسول الله"، وردّ عليه: "الصحبة
يا أبا بكر"، فقِـهَ صاحبه أنه سيكون رفيق هجرته الطويلة إلى المدينة التي كان
اسمها يثرب قبل أن يحل بها الإسلام؛ احتما الصاحبان بالغار الذي صار بعد ذلك رمزا ومزارا لعديد من المسلمين
فقد أوى أعظم خلق الله، وبداخل هذا الغار خشي أبو بكر أن يرهما رجال قريش عندما
وقفوا على بابه فقال: "يا رسول الله لو أحدهم ينظر إلى قدميه لأبصرنا"، كان
حزنه شديدا مخافة أن يدركوهما، فقال له رسولنا بكل تباث وتقه: "لا تحزن إن
الله معنا".
نفس الكلام قاله نبي الله موسى حين ردّ على
أصحابه عندما فروا من فرعون وجيوشه، فاعترضهم البحر، قال تعالى: ( فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ
مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ
﴿61﴾ قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ
مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) - الشعراء﴿62﴾-
إنه صدق الإيمان بالله واليقين أنه
لن يخذل عباده ولن يتخلى عنهم، إنه مقام عظيم، مقام من مقامات الصادقين المخلصين
الذين يعيشون بمعية الله. " إن الله معنا"، أرى أنه استحضار دائم لعناية
الرؤوف الرحيم.
لنتوقف و نرسل النظر في قول النبي محمد، وقول موسى عليهما الصلاة والسلام، لنتأمل "إن الله معنا"
نجدها معية تشمل هذا المعنى: أن الله مع الرسول وأبي بكر، وأن الله لن يتخلى عنهما
في تلك المحنة، وهذا ما زاد أكده النبي حين قال لأبي بكر "ما ظنك باثنين الله ثالثهما".
"إن معي ربي" تشمل هذه
المعية نبي الله موسى رغم أنه برفقة بني إسرائيل ولكن الكلام عائد فقط على موسى،
وكأن موسى وحده من يعتقد بإيمانه ويقينه القوي بمعية الله وحده دون بني إسرائيل.
نعود إلى سيدنا وحبيبنا محمد -صلى الله عليه وسلم- نجد أن
قولته تشف عن الصدق والتوكل على الله حق التوكل بعد القيام بكل الأسباب وهذا ما لم
يغفله نبينا العظيم، فرحلة الهجرة توفرت فيها كل الأسباب المادية فهو لم يتواكل
على الله أبدا رغم أن وعد الله له بالنصر وارد وحتمي. لو حاولنا أن نتتبع سيرة
الهجرة من البداية، سنجد أن حتى راحلته دفع ثمنا من ماله الخاص، وأنه وضع خطة الهجرة مثل قائد
عسكري يضع خطة حربية معتمدا عليها كسبب من أسباب النصر، واتخذا دليلا وزادا لهما ثم
احتميا بالغار، وغيرها من الأسباب... فلم يكن هناك مجال ليقول قائل أن التواكل من
الإسلام وما دمت أني مؤمن فالله يتولى أمري..! ليس لهذا المنطق هنا وجود... ثم إن معجزة
الله لم تتدخل هنا إلا في بعض الظروف ليبين الله للجاحدين ضعفهم وباطلهم ويؤيد
الحق الذي مع محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم- أما عناية الله التي تحفظ رسوله وعباده الصادقين فهي بلا شك
موجودة، ولكن هي ملازمة لفعل الأسباب دائما.
أقام الرسول وأبو بكر في الغار ثلاث ليالي؛ حاولت هنا أن أتصور كيف يكون حال أحد داخل
غار لمدة ثلاث ليالي علما أن المكان مهجور وقد يحتوي حيات وعقارب وعديدا من الحشرات
الصحراوية، قد يظن أحد أن إقامة الغار لم تتجاوز يوم أو نصف يوم فقط، كالذي يختفي
حتى يرجع الباحثون عنه ثم يخرج، ولكن السيرة تؤكد أن الإقامة كانت ثلاث ليالي حتى
اطمئنا أن قريشا يئست في البحث عنهما؛ فالجائزة التي كانت مخصصة لمن يعثر عليهما كانت مغرية فعلا بالنسبة
للكثيرين، فمئة ناقة ليست بالشيء القليل وقتئذ.
كان
عبد الله بن أبي بكر يبيت عندهما ويصبح عند القوم ليأتي بالأخبار أما أسماء بنت أبي بكر تأتيهما
بالطعام، وغلام عبد الله بن أبي بكر يأتي بغنمه قرب الغار حتى يخفي أثار الأقدام. في صبيحة الليلة الثالثة جاء عامر بن فهيرة براحلتين، وعبد الله بن
أريقط دليلهما في الطريق... أرأيتم كيف تسترسل الأسباب : الإرسال في طلب أخبار
قريش، والإتيان بالطعام، ومحو أثار الأقدام، والاعتماد على راحلة واستئجار دليل..
خطة محكمة لا وجود فيها للتواكل، ولا القول أن الله سينصرنا ونحن لا نأخذ بأسباب
النصر التي يقتضيها الزمان والعصر؛ كثيرا ما أسأل نفسي لماذا نحن سلبيون اليوم، دائما ننتظر النصر من الله
دون أن نعمل بأسبابه، نحن متخلفون في الميدان التكنولوجي، إننا أمة مستهلكة فقط ولا تتقن إلا ذلك، لا أدري أننتظر أن يأتينا
النصر بدون عمل، أو أن يأتي النصر بالتمني؛ لا
والله! لن ينصرنا الله
إن لم نجتهد ونعمل للنهوض بالعلوم التقنية حتى نملك القوة ونصبح أمة مصنعة لا
تحتاج لغيرها كي تعيش ولنعلي كلمة الحق عدلا وصدقا: (الذين إن مكنهم في الأرض
أقاموا الصلاة..) فلا فائدة للتمكين إن لم يكن المبتغى هو عبادة الله وإعلاء
كلمته.
هجرة النبي فيها من الدروس والعبر ما تقصر العبارة عن توضيحها، كما أني لست أريد أن أتناول الأحداث كلها ولا أن أسردها سردا
تاريخيا جافا خاليا من روح العاطفة التي تربطنا بهذا الحدث العظيم، فالكل يعلم أحداث السيرة النبوية، ولكن أرمي هنا
إلى أن نقف عند بعض الجزئيات ولو بسيطة، أو كلمة ولو صغيرة لندرك أن هذا الدين لم يقدَّم
لمحمد -صلى الله عليه وسلم- على طبق من دهب، أو أنه جاء هدية إكراما لمحبة الله لنبيه، فلم تعلو كلمة
التوحيد في أرجاء الجزيرة العربية إلا على دماء أول شهيدة في الإسلام سمية بنت
خياط وزوجها ياسر، وسيد الشهداء حمزة، وسفير الإسلام الأول مصعب بن عمير وغيرهم من السابقين... لم تعلُ كلمة التوحيد إلا بعد جهاد وجهاد ذاق فيه الأولون الأمرين ذاقوا التعذيب بشتى
الألوان وصبروا حتى جاء فتح الله ونصره؛ في رأيي المتواضع لو أن
هذا الدين تيسرت له كل سبل الانتشار لهان على أكثر المسلمين تركه، كأي مذهب فكري
وضعي، ولكن لأنه تطلب تضحيات وتضحيات روحية ومادية، فهو سكن قلوب المسلمين وتبث في
وجدانهم أشد تثبيت، إضافة إلى أنه هو الحق ولا شيء فيه إلا الحق، وما كان ارتداد
أغلب الناس عنه إلا لأنهم لم يعرفوه ولم يشعروا بعاطفته ولم يدخل الإيمان قلوبهم،
كما قال تعالى لبعض الأعراب: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَـٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوا اللَّـهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )-الحجرات (14)-
الهجرة النبوية تمثل مفرقا بين حالة الضعف والقوة، فبعدها مباشرة تم بناء
ركائز الدولة الإسلامية، ولم يكن بناء النبي -صلى الله عليه وسلم - لمسجده الشريف في
المكان الذي بركت فيه ناقته إلا أنه أسس أول ركيزة لهذه الدولة؛ المسجد بيت من بيوت الله تعالى لم
يكن في عهد النبي مكانا فقط لأداء الصلاة
بل كان مركزا لاستقبال الوفود ومركزا لاجتماعه مع أصحابه ودراسة أمور دينية
ودنيوية تخص المسلمين، هو المكان الذي يربط المسلمين بدينهم هو المدرسة هو
الجامعة، هو كل شيء في حياة المسلمين.
ثم من أعظم
الأشياء التي ركز عليها الرسول أنه آخى بين المهاجرين والأنصار، فجعل لكل أنصاري
أخا له يلازمه من المهاجرين، حتى أن تلك الأخوة كادت تتطور إلى أن يصير الأنصاري
يورّث المهاجري، فأنزل الله تعالى قوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ
فَأُولَـٰئِكَ مِنكُمْ ۚ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ
أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّـهِ ۗ إِنَّ اللَّـهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ( -الأنفال (75)- منتهى الصدق والأخوة ذلك الذي خلقه نبينا بينهم، فالأخوة هي نواة الوحدة والتآلف، انعدامها يجعل بناء دولة الإسلام حلما وهميا ؛ ومعلوم
أن الإسلام قبل ذلك كان قد أصلح ووحد بين قبيلتي الأوس والخزرج اللتان كانتا في
الجاهلية دائمة القتال، وسمهما الأنصار، هذا لأن هذا الدين ليس فيه لمفهوم الفرقة
معنى، هو دين التوحيد والتوحد، -(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّـهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً
فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا
وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّـهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
)- ال عمران (103)- ولم تكن
لأصرة القرابة والعرق مكان أمام أصرة العقيدة.
استمرت الهجرة إلى المدينة حتى عام فتح مكة
ودخول المسلمين في دين الله أفواجا، وبعدها أعلن الرسول أنه لا "هجرة بعد
الفتح، ولكن جهاد ونية..."ومن لم يهاجر وقتها فقد فاته أجر كبير وفضل عظيم، كانت الهجرة واجبا على كل مسلم إلا من أمره النبي بالتأخر مثل علي بن
أبي طالب الذي بقي حتى يرد الآمانات إلتى استودعتها قريش عند النبي. بعد الفتح لم يعد هناك هجرة لأن مكة بعد ذلك صارت دار إسلام؛ لكن معنى الهجرة
والنصرة يبقى دائما كسلوك عملي في حياة أي مسلم فهجرة المعاصي والآثام ومواطن
السوء...أمور يؤكد عليها الإسلام ، وقد قال الرسول صل الله عليه وسلم: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)؛ أما
النصرة فهي نصرة الله ورسوله والذين آمنوا، وهذا واجب على كل معتنق للإسلام.
كل سنة وأنتم بخير، وأرجو أن تدخل علينا هذه السنة بالوحدة والتآلف، والسلم والأمان.