الوصف

أشباه (...)! - تنبّأ عاصفة!

(ولكنكم غثاء كغثاء السيل) محمدعليه صلاة الله وسلامه.

أشباه (...)!

سراب..
خيالات رجال
وثرثرة لا تشبع الجوعان
سيوف خشبية وحمير!
بخل الزمان بالفرسان!
لا لا.. لا أطيق،
فقد شبّ فينا الحريق.
عيبنا، أننا فقدنا الطريق !


تنبّأ عاصفة!

تنبّأ..! تنبّأ عاصفة!
من كل صوب تأتيك أنسام بائسة:
فأرض  قدسية
فأحلام  طفل من غزة الشامخة،
تدوسها أقدام في اللعنة ماشية.
اسمع
أصوات غثاء،
بحناجر نابحة..!
وشخير أمة في الذل ناعمة..
.....
فتنبأ..! تنبأ عاصفة!




أبو حسام الدين

نصف العلم ... لا أدري..!


  كثيرا ما يجرفنا تيار النقاش في مجلس ما، أو حين يُثار سؤال في مسألة من المسائل، فيبادر كل واحد بالإجابة...، وقد يتعلق السؤال في بعض الأحيان بالسياسة أو بالرياضة أو الإقتصاد أو غيرها من الأمور التي يمكن للقاصي والداني أن يكون ملما ببعض الجوانب منها لأنها تعد من المتغيرات التي ترتبط بالزمان والمكان، ولكل فرد وجهة نظره الخاصة فيها، لكن عندما يوجه لك سؤال يتعلق بالفقه أو الحديث أو التفسير فإن القضية تأخذ منحا مختلفا، وتجانب بعدا أخر يقتضي الرجوع إلى المصدرين، وحتى ذلك لا يصح لأنه لابد من توفر آلية الإجتهاد التي تعطيك قدرة الإستنباط والقياس وغيرها..  وكان من المفروض أن يوجه هذا إلى عالم أو فقيه، ولكن المسألة هكذا والحال كما نعلم أننا أحيانا نسأل ولا نفكر مسبقا من يجب أن نسأل وعما نسأل. وقد وجهنا الله تعالى بقوله :( واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون )، وبطبيعة الحال اللفظ يفيد الشمول والعموم، فيراد بأهل الذكر في الآية كل من له تخصص سواء كان في الاقتصاد أو في الطب أو في الفقه أو في علم الإلكترونيات و المجالات الأخرى... وأظن أن العيب أحيانا يكون من السائل، ويستفحل هذا العيب وتتسع مساحته إن أجبنا بدون علم، خاصة و أننا مصابون بعقدة الإجابة عن كل شيء، فكلمة لا أدري ليست ضمن قاموسنا اللغوي، ولم نجد لها في ثقافتنا محلا من الإعراب.

بينما كنت أفكر في هذا الموضوع استحضرت موقفا للإمام مالك بن أنس، حين طرحت عليه ثمان وأربعين مسألة، فأجاب عن اثنتين وثلاثين مسألة منها بقوله: لا أدري، وأجاب عن ست عشرة بما يعرف. وتبث عنه أنه  كان يقول: " جُنَّة العالم قوله: لا أدري، فإذا أغفلها أصيبت مقاتله ". سؤال راود الذهن وجعلني أتأمل ما بيني وبين نفسي وأستفسر مليا وبإلحاح، خاصة وأني أقف عند قولٍ صحيح مأثور عن جبل من جبال الفقه والعلم والتقوى والورع... هل فعلا كان الإمام مالك لا يدري ؟ أم هو تواضع السنابل المثقلة؟
حقيقة أشك في ذلك، فمالك مفتي دار الهجرة، قيل عنه: " لا يٌفتى ومالك في المدينة "، إضافة إلى أنه من كبار المجتهدين في عصره وكبار المحدثين، وقطب من أقطاب مدرسة الحديث والأثر، لا يُـتـصور أنه لا يعلم الإجابة عن اثنين وثلاثين مسألة من أصل ثمان وأربعين، أغلب ظني أنه كان يضع أصلا من أصول العلم حتى يُعَلم الفقهاء والطلاب أن لا أدري هي كذلك جزء لا يتجزأ من الفقه والعلم الذي يجب أن لا يغفله الطالب، وكما كان يقال: (لا أدري هي نصف العلم )، فالإجابة بها لا تُنقص العالم قدره و لا تحط منزلته، بل هي حال من التواضع والتحري و الدقة في طلب الحق، ولا بأس إن جهل العالم الإجابة ورجع إلى مراجعه حتى يبحث عنها أو ليتأكد مما توفر لديه وما اهتدى إليه، فالعلم أمانة والعالم حاملها ووارث الأنبياء.
 إن كان الشأن هكذا بالنسبة للفقيه، فما بال من ليس له من الفقه إلا سطورا قرأها، أو حُكما سمعه فأضحى يتشدق به بين الملأ وفي كل مجلس، وربما تحمل المسألة عدة وجوه فقهية وما أكثر ذلك، وهو لا يدري عنها إلا وجها واحدا، فيقيم الدنيا ولا يقعدها، وينكر على الناس فعلهم، مع أن القاعدة الأصولية تقول أن الإنكار يكون في المتفق عليه وليس في المختلف فيه، فالإنكار يجب أن يكون في الأصول، أما الذي عليه الخلاف من الفروع فليس لأحد الحق أن ينكر على فاعله، مادام الفعل يوافق مذهبا فقهيا معتمدا.

أرسل النظر أحيانا إلى عصر الأئمة فأتأمل كيف كانوا يعالجون قضاياهم في ظل فقه واعي مستمد من الكتاب والسنة - رغم اختلافهم في الفروع - فأعود بنظري فأجد حسرات... وأجد أننا نجيب دائما بغير علم، فنظِل ونُظِل.


أبو حسام الدين

لقاء الغروب

 عشق السماء شكل أخر


أبدى الغروب في أفق السماء احمرارا 

سالت قبلات هذا المساء على خدود البحر انسكابا، و انهمارا

فأهديتك باقة عشق فاح شذاها  

أهديتني ابتسامة غردت مع طير العشي أشعارا

فتحرك بحر هوايَ مذ تشبه القمر بحسنك انبهارا.

أسمعتك لحن الموج في صدري أنفاسا.. أنفاسا..!

وما كتمت الشوق أن بحتُ بالهوى عيانا

أعياني رسم الصمت على محياك

وما تركتك حتى أعلنت من الصمت التحرر، والاستقلالَ 

فشربت من كأس الشوق الراح المعتق

ورشفت ماء الهوى من وجنتيك كالزلالَ 

ومشيت دربك أقطف الهمس انعتاقا

أختال مَرِحا فخورا.

كأني أريد أن أخرق الأرض..!

أن أبلغ الجبال طولا!

لكني أخشى من سهام لحظيك اغتيالا 

فما إن تلفتي يمينا أو شمالا

اهتز وجدي وحسبتـني في العشق عنترة أو قيسا، أو جميلا

إن استدرت..!

فوجه البدر سطع وأدحض عن الليل الظلام

فبانت غرة الحسن..

بأنوار الشهود احترقت الحجب، والأستار

يا سماء الحسن:

هذا مساؤنا تلون بحمرة، فهل خلعت عليه خُجُولا؟ 

فأرخى القبلات على صفحة البحر سلاما

يا عشيقتي في العشي والإصباح سلاما

يا سمائي  في الصفاء، وفي الغيم سلاما

ما أحلاك من نشوة عشقتها

حين أبدى لك الغروب في الأفق احمرار.



أبو حسام الدين

لماذا أدون؟



  في إطار الحملة التي أطلقتها الأخت "لولوكات" في مدونتها المدينة الفاضلة تحت شعار "ليه أنا مدون؟" والتي تركز بالأساس على أن يسأل كل مدون نفسه لماذا هو مدون وما غرضه من إنشاء مدونته؟ على اثر ذلك أكتب هذه السطور معبرا عن هدفي من التدوين من خلال أعمالي التدوينية البسيطة.
أعتبر هذه الأسئلة هي مراجعة نفسية لكل المدونين حتى ننظر إلى ما قدمناه وسنقدمه لعالم التدوين العربي، كما سنحاول أن نخلق لمدوناتنا مسارا معينا يكون ايجابيا.
  لا أنكر أني تعلمت الكثير والكثير من خلال التدوين فهو نافذة للإطلاع على كل الثقافات المختلفة والمتنوعة، وخلق جسور تواصل بين كل المدونين باختلاف أفكارهم وعقلياتهم، كما هو مساحة للتعبير عن الرأي العام ،     ومعلوم أن التدوين صار يشكل متنفسا لشريحة من المثقفين والمهتمين بالمجال السياسي والإعلامي..

همسات الروح والخاطر
أوشكت همسات الروح والخاطر أن تكمل عامها الأول، فقد أنشئت في يناير الماضي، وقد انتهجت طريقا أدبيا عاطفيا وروحيا وأحيانا فكريا... تحاول أن تشق مسارها بعيدا عن غفلة الإنسان عن المجال الروحي والعاطفي و أن تجسد في نصوصها معاني الحب والمودة التي قد تغيب من حين إلى أخر في واقع طغت فيه المادية أكثر.
همسات الروح والخاطر هي همسة في أذن هذا الإنسان ليوازي في نظرته ما بين المادة والروح، ولنعلم أن لكل شيء في هذه الحياة هيكل ورسم، وشيئا أخر غير مرئي وغير محسوس، فقط هي القلوب من تدركه وبالذوق تعرفه، ونستمد منه المعنى لنفهم جوهر الأشياء كما هي.


أضواء على العالم
طبعا ليست هناك غفلة عن الواقع، فالاهتمام بالشأن الأدبي والعاطفي والروحي لا يعني العيش في سماء الخيال، فجاءت مدونة أضواء على العالم كتكملة لعمل همسات الروح والخاطر، ففي شهر فبراير الماضي أنشأتها لتكون منبرا يعرض ما يمكن عرضه من مستجدات محلية أو عالمية، وكذلك للتعرف على أوطان و أماكن قد تكون مجهولة، وإلقاء الضوء على جانب من الموروث الثقافي الشعبي.
العمل مازال متواصلا، وينقصه الكثير ومازلت أجتهد و أعمل كي أرقى بها إلى الأحسن بإذن الله.

أمة اقرأ... تقرأ
كان لي شرف أن أنضم مع مجموعة من المدونين المغاربة منهم والجزائريين إلى مدونة خاصة تهتم بالقراءة وذلك بالمشاركة بتلخيص بسيط للكتب التي نقرأها، والمشاركة فيها عامة. وذلك لإحياء رغبة القراءة في أوساط الشباب والتحفيز على اتخاذ الكتاب أنيسا كما كان في الأجيال السالفة.


أبو حسام الدين

حياتي في جملة!

  أكيد أن الحياة مراحل متعددة، وسنوات مترابطة، وعقود متماسكة، يصعب كثيرا تلخيصها في جملة متناسقة.
هذا ما طلب مني كي أنجزه في تدوينة خاصة، فلنعتبره واجبا تدوينيا جديدا كما يبدو عليه فعلا.
سأحاول هنا أن أعتصر العبارات عساني أحظى من مخيلتي بتعبير يليق بما قد أوجز به بعضا من محطات حياتي.
طبعا تلقيت الدعوة من الأخ جلال الدين صاحب مدونة Dr-Web.Net ، وقد أسعدتني المبادرة فالشكر موصول لك أخي العزيز ولجميع أصدقاء وزوار همسات الروح والخاطر.

1- لخص حياتك الدراسية في جملة
          كد واجتهاد وتعب، ثم متعة!
2- لخص حياتك اليومية في جملة
          دائما انتظار وتوق للأفضل..
3- لخص حياتك العاطفية في جملة
          في أحضان الزواج تستقر العواطف.
4- لخص مجمل ما عشت في جملة
          مسار ثم انكسار، ثم نقطة تحول!
5- أرسل الواجب إلى أربعة من أصدقائك المدونين.
          الدعوة ستكون هذه المرة من نصيب كل من:
         - أمل العلوي صاحبة مدونة هوس الحلم
         - فـؤاد صـاحـب مـدونة فـؤاد
         - ولد الحومة صاحب الظل الخفي مدونة عندما يحلم القلم.

أبو حسام الدين

من وحي الهجرة.


  تمر الأيام والشهور وتحل في كل بداية سنة هجرية ذكرى أكبر حدث في تاريخ الإسلام، حدث هجرة المصطفى إلى المدينة المنورة بعد ثلاث عشر سنة من الدعوة في مكة لقي فيها من الأذى ما لقيه؛ في كتب  السيرة النبوية الكثير والكثير مما قيل عن الهجرة، مما اعتمدت عليه من الأخبار الصحيحة لتوضيح أحداث هذه الحادثة..
 طبعا أنا هنا لست بصدد القيام بتأريخ الهجرة، بل إني أحاول رمي كلماتي النابعة من خاطري ومن إحساسي بهذا الحدث الإسلامي العظيم، وما تأثرت به من خلال قراءتي وبحثي في السيرة النبوية الشريفة؛ هذه مجرد خواطر تدفعني أن أكتب وأعبر وأتعلم أشياء كثيرة من هذا الحدث الذي غير تاريخ أمة من حالة ضعف إلى حالة قوة.
   كم هو صعب  على الإنسان أن يغير وطنه ويرتحل إلى وطن أخر، كم هو صعب عليه أن يخرج من المكان الذي ولد فيه وكبر فيه، كم هو صعب أن يترك عشيرته وذويه.. ولكن أمام مشيئة الله ثم أمام واجب الدعوة الإسلامية لا مجال لتفضيل الموطن على الدين، ألم يهرب موسى ببني إسرائيل من مصر خوفا من بطش فرعون لكي يقيم دولة التوحيد في أرض القدس، وكذلك هروب أهل الكهف من مجتمع الظلم، ألم يقل الله تعالى في القرآن:  ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّـهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) -النساء97- الهروب بالدين شيء مطلوب حين يشتد البأس،  فلو بقي المسلمون في مكة لم يكونوا ليؤسسوا فيها دعائم الدولة الإسلامية، لهذا كان البحث عن مكان أخر وأرض أخرى قابلة لاحتواء هذه الدعوة، ثم بعد ذلك العودة إلى فتح مهبط الوحي الأول بعد أن تقوى الإسلام، وصارت له نفوذ.
جاء أمر الهجرة إلى النبي بعد أن أجمع كفار قريش على أن "يضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه بين القبائل"، هكذا كان مكرهم، ولكن الله خيب ظنهم؛ حاز ابن عمه علي بن أبي طالب شرف الفداء ليلة الهجرة حين طلب منه وأمره  رسول الله أن يبيت في فراشه ويتغطى ببردته؛ إنها المحبة التي تجعل المحب يضحي بحياته من أجل حبيبه، وهذا ما برهن عليه علي كرم الله وجهه، فدى حياته ليبقى مبعوث الرسالة الإلهية كي يتم نور الله في الأرض، كم ينقصنا لنفهم هذا المعنى الدقيق؟ معنى الفداء والتضحية من أجل من يحمل مستقبل الإسلام حينها، إن الرسول كان في عين أصحابه كل شيء، لو طلب حياتهم لمنحوها له، هم كانوا بأنفسهم وأرواحهم فدءا للإسلام ولرسوله.

قال أبو بكر لحبيبنا محمد حين أزمعا على الهجرة "الصحبة يا رسول الله"، وردّ عليه: "الصحبة يا أبا بكر"، فقِـهَ صاحبه أنه سيكون رفيق هجرته الطويلة إلى المدينة التي كان اسمها يثرب قبل أن يحل بها الإسلام؛ احتما الصاحبان بالغار الذي صار بعد ذلك رمزا ومزارا لعديد من المسلمين فقد أوى أعظم خلق الله، وبداخل هذا الغار خشي أبو بكر أن يرهما رجال قريش عندما وقفوا على بابه فقال: "يا رسول الله لو أحدهم ينظر إلى قدميه لأبصرنا"، كان حزنه شديدا مخافة أن يدركوهما، فقال له رسولنا بكل تباث وتقه: "لا تحزن إن الله معنا".
 نفس الكلام قاله نبي الله موسى حين ردّ على أصحابه عندما فروا من فرعون وجيوشه، فاعترضهم البحر، قال تعالى: ( فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴿61﴾ قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) - الشعراء﴿62﴾-
إنه صدق الإيمان بالله واليقين أنه لن يخذل عباده ولن يتخلى عنهم، إنه مقام عظيم، مقام من مقامات الصادقين المخلصين الذين يعيشون بمعية الله. " إن الله معنا"، أرى أنه استحضار دائم لعناية الرؤوف الرحيم.
لنتوقف و نرسل النظر في قول النبي محمد، وقول موسى عليهما الصلاة والسلام، لنتأمل "إن الله معنا" نجدها معية تشمل هذا المعنى: أن الله مع الرسول وأبي بكر، وأن الله لن يتخلى عنهما في تلك المحنة، وهذا ما زاد أكده النبي حين قال لأبي بكر "ما ظنك  باثنين الله ثالثهما".
"إن معي ربي" تشمل هذه المعية نبي الله موسى رغم أنه برفقة بني إسرائيل ولكن الكلام عائد فقط على موسى، وكأن موسى وحده من يعتقد بإيمانه ويقينه القوي بمعية الله وحده دون بني إسرائيل.
نعود إلى سيدنا وحبيبنا محمد -صلى الله عليه وسلم- نجد أن قولته تشف عن الصدق والتوكل على الله حق التوكل بعد القيام بكل الأسباب وهذا ما لم يغفله نبينا العظيم، فرحلة الهجرة توفرت فيها كل الأسباب المادية فهو لم يتواكل على الله أبدا رغم أن وعد الله له بالنصر وارد وحتمي. لو حاولنا أن نتتبع سيرة الهجرة من البداية، سنجد أن حتى راحلته دفع ثمنا من ماله الخاص، وأنه وضع خطة الهجرة مثل قائد عسكري يضع خطة حربية معتمدا عليها كسبب من أسباب النصر، واتخذا دليلا وزادا لهما ثم احتميا بالغار، وغيرها من الأسباب... فلم يكن هناك مجال ليقول قائل أن التواكل من الإسلام وما دمت أني مؤمن فالله يتولى أمري..! ليس لهذا المنطق هنا وجود... ثم إن معجزة الله لم تتدخل هنا إلا في بعض الظروف ليبين الله للجاحدين ضعفهم وباطلهم ويؤيد الحق الذي مع محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم- أما عناية الله التي تحفظ رسوله وعباده الصادقين فهي بلا شك موجودة، ولكن هي ملازمة لفعل الأسباب دائما.

أقام الرسول وأبو بكر في الغار ثلاث ليالي؛ حاولت هنا أن أتصور كيف يكون حال أحد داخل غار لمدة ثلاث ليالي علما أن المكان مهجور وقد يحتوي حيات وعقارب وعديدا من الحشرات الصحراوية، قد يظن أحد أن إقامة الغار لم تتجاوز يوم أو نصف يوم فقط، كالذي يختفي حتى يرجع الباحثون عنه ثم يخرج، ولكن السيرة تؤكد أن الإقامة كانت ثلاث ليالي حتى اطمئنا أن قريشا يئست في البحث عنهما؛ فالجائزة التي كانت مخصصة لمن يعثر عليهما كانت مغرية فعلا بالنسبة للكثيرين، فمئة ناقة ليست بالشيء القليل وقتئذ.
 كان عبد الله بن أبي بكر يبيت عندهما ويصبح عند القوم  ليأتي بالأخبار أما أسماء بنت أبي بكر تأتيهما بالطعام، وغلام عبد الله بن أبي بكر يأتي بغنمه قرب الغار حتى يخفي أثار الأقدام. في صبيحة الليلة الثالثة جاء عامر بن فهيرة براحلتين، وعبد الله بن أريقط دليلهما في الطريق... أرأيتم كيف تسترسل الأسباب : الإرسال في طلب أخبار قريش، والإتيان بالطعام، ومحو أثار الأقدام، والاعتماد على راحلة واستئجار دليل.. خطة محكمة لا وجود فيها للتواكل، ولا القول أن الله سينصرنا ونحن لا نأخذ بأسباب النصر التي يقتضيها الزمان والعصر؛ كثيرا ما أسأل نفسي لماذا نحن سلبيون اليوم، دائما ننتظر النصر من الله دون أن نعمل بأسبابه، نحن متخلفون في الميدان التكنولوجي، إننا أمة مستهلكة فقط  ولا تتقن إلا ذلك، لا أدري أننتظر أن يأتينا النصر بدون عمل، أو أن يأتي النصر بالتمني؛ لا والله! لن ينصرنا الله إن لم نجتهد ونعمل للنهوض بالعلوم التقنية حتى نملك القوة ونصبح أمة مصنعة لا تحتاج لغيرها كي تعيش ولنعلي كلمة الحق عدلا وصدقا: (الذين إن مكنهم في الأرض أقاموا الصلاة..) فلا فائدة للتمكين إن لم يكن المبتغى هو عبادة الله وإعلاء كلمته.
هجرة النبي فيها من الدروس والعبر ما تقصر العبارة عن توضيحها، كما أني لست أريد أن أتناول الأحداث كلها ولا أن أسردها سردا تاريخيا جافا خاليا من روح العاطفة التي تربطنا بهذا الحدث العظيم، فالكل يعلم أحداث السيرة النبوية، ولكن أرمي هنا إلى أن نقف عند بعض الجزئيات ولو بسيطة، أو كلمة ولو صغيرة لندرك أن هذا الدين لم يقدَّم لمحمد -صلى الله عليه وسلم- على طبق من دهب، أو أنه جاء هدية إكراما لمحبة الله لنبيه، فلم تعلو كلمة التوحيد في أرجاء الجزيرة العربية إلا على دماء أول شهيدة في الإسلام سمية بنت خياط وزوجها ياسر، وسيد الشهداء حمزة، وسفير الإسلام الأول مصعب بن عمير وغيرهم من السابقين... لم تعلُ كلمة التوحيد إلا بعد جهاد وجهاد ذاق فيه الأولون الأمرين ذاقوا التعذيب بشتى الألوان وصبروا حتى جاء فتح الله ونصره؛ في رأيي المتواضع لو أن هذا الدين تيسرت له كل سبل الانتشار لهان على أكثر المسلمين تركه، كأي مذهب فكري وضعي، ولكن لأنه تطلب تضحيات وتضحيات روحية ومادية، فهو سكن قلوب المسلمين وتبث في وجدانهم أشد تثبيت، إضافة إلى أنه هو الحق ولا شيء فيه إلا الحق، وما كان ارتداد أغلب الناس عنه إلا لأنهم لم يعرفوه ولم يشعروا بعاطفته ولم يدخل الإيمان قلوبهم، كما قال تعالى لبعض الأعراب: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَـٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوا اللَّـهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )-الحجرات (14)-  
الهجرة النبوية تمثل مفرقا بين حالة الضعف والقوة، فبعدها مباشرة تم بناء ركائز الدولة الإسلامية، ولم يكن بناء النبي -صلى الله عليه وسلم - لمسجده الشريف في المكان الذي بركت فيه ناقته إلا أنه أسس أول ركيزة لهذه الدولة؛ المسجد بيت من بيوت الله تعالى لم يكن في عهد النبي مكانا فقط لأداء الصلاة  بل كان مركزا لاستقبال الوفود ومركزا لاجتماعه مع أصحابه ودراسة أمور دينية ودنيوية تخص المسلمين، هو المكان الذي يربط المسلمين بدينهم هو المدرسة هو الجامعة، هو كل شيء في حياة المسلمين.
ثم من أعظم الأشياء التي ركز عليها الرسول أنه آخى بين المهاجرين والأنصار، فجعل لكل أنصاري أخا له يلازمه من المهاجرين، حتى أن تلك الأخوة كادت تتطور إلى أن يصير الأنصاري يورّث المهاجري، فأنزل الله تعالى قوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَـٰئِكَ مِنكُمْ ۚ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّـهِ ۗ إِنَّ اللَّـهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ( -الأنفال (75)- منتهى الصدق والأخوة ذلك الذي خلقه نبينا بينهم، فالأخوة هي نواة الوحدة والتآلف، انعدامها يجعل بناء دولة الإسلام حلما وهميا ؛ ومعلوم أن الإسلام قبل ذلك كان قد أصلح ووحد بين قبيلتي الأوس والخزرج اللتان كانتا في الجاهلية دائمة القتال، وسمهما الأنصار، هذا لأن هذا الدين ليس فيه لمفهوم الفرقة معنى، هو دين التوحيد والتوحد، -(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّـهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّـهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ )- ال عمران (103)- ولم تكن لأصرة القرابة والعرق مكان أمام أصرة العقيدة.
استمرت الهجرة إلى المدينة حتى عام فتح مكة ودخول المسلمين في دين الله أفواجا، وبعدها أعلن الرسول أنه لا "هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية..."ومن لم يهاجر وقتها فقد فاته أجر كبير وفضل عظيم، كانت الهجرة واجبا على كل مسلم إلا من أمره النبي بالتأخر مثل علي بن أبي طالب الذي بقي حتى يرد الآمانات إلتى استودعتها قريش عند النبي. بعد الفتح لم يعد هناك هجرة لأن مكة بعد ذلك صارت  دار إسلام؛ لكن معنى الهجرة والنصرة يبقى دائما كسلوك عملي في حياة أي مسلم فهجرة المعاصي والآثام ومواطن السوء...أمور يؤكد عليها الإسلام ، وقد قال الرسول صل الله عليه وسلم: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)؛ أما النصرة فهي نصرة الله ورسوله والذين آمنوا، وهذا واجب على كل معتنق للإسلام.

كل سنة وأنتم بخير، وأرجو أن تدخل علينا هذه السنة بالوحدة والتآلف، والسلم والأمان.

أبو حسام الدين

Join me on Facebook Follow me on Twitter Email me Email me Email me Email me

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | تعريب وتطوير : قوالب بلوجر معربة