الوصف

مصائر

 مقدمة لا بد منها

 في الحقيقة لم يسبق لي أن نشرت أية قصة على شبكة الانترنيت، ربما لأني لم أهتم بكتابة القصة من قبل، واليوم أضيف إلى تصنيفات المدونة صنفا جديد أسميته "دمعة وابتسامة" طبعا الإسم كان قد استعمله جبران خليل جبران عنوانا لكتاب له، وصدقوني لم أجد أفضل من هذا الإسم لكون الحياة كذلك دمعة وابتسامة، أفراح وأتراح. في هذا التصنيف الجديد سوف أضع كل ما سيهمس به الخاطر من سرد وحكي وقصص، وكلها ستكون من وحي الخيال، وأي تطابق في الأسماء أو تشابه في الوقائع فهو من محض الصدفة، ولا شيء غير ذلك.
أرجو أن أوفق في هذا العمل وأن يرقى إلى مستوى القارئ العزيز، وطبعا يبقى رأيكم ونقدكم عنصرا مهما في أن أتقدم بهذا العمل البسيط إلى الأمام. وأتمنى لكم قراءة ممتعة.

 القصة


 في عتمة المساء حين اجتمع الظلام وشكل وشاحا انسدل من السماء إلى أن سقط أخر طرف منه على الأرض، وفي الوقت الذي خلت الطرقات من المارة وعم السكون نسبيا بعض أوجه المدينة القديمة، التي صارت كأرملة طاعنة في السن لم يعد أحد يتطلع إلى أن ينظر إليها... خرج سمير من المنزل يمشي كعادته على الرصيف بعد أن قطع أزقة الحي الملتوية والمتعرجة تارة ذات اليمين وتارة ذات الشمال، فقد تعود أن يهرب من الحي ويسير جنب الشارع لساعة وساعتين مُطأطأ رأسه وكفيه غارقتان في جيوب سروال أكل الدهر عليه وشرب وبلي من كثرة الارتداء، وفي سيره البطيء المشحون بكل ألوان الشجون وبخطوات تخطو بتؤدة جاهلة مصيرها الذي تتجه نحوه،  يرسل سمير رجله اليمنى فيركل حجرا كان أمامه فيستهويه منظر الحجر وهو منطلق بسرعة إلى الأمام، فيعيد الكرة مرات ومرات كأنه يسكب غيظه في ركلاته المتكررة...استمر سمير هكذا في سيره بجسم حاضر وذهن يشطح به في خضم من الأفكار:
" سحقا لهذا الواقع لا شيء يستحق للإنسان أن يعيش له مادام هذا المجتمع ينافق ويحكم بالمظاهر"
كانت هذه الكلمات ثورة باطنية داخل نفسه المتعبة، وكثيرا ما كانت توكزه بوكزات مؤلمة. بقي سمير منجرفا مع تيار من الأفكار حتى شعر بيد امتدت إليه تلمس كتفه المنهك وكأنها يد من الغيب أو من خلف ستار المجهول، وتنسم سمير بأنفه رائحة زكية علم أنها رائحة عطر غالي الثمن امتزجت مع نسيم البحر الذي حملته الريح اللطيفة التي تداعب أنوف المارين في الشارع، فاستدار خلفه ليجد شابا في سنه يلبس بذلة أنيقة وربطة عنق تناسقت ألوانها مع لون البذلة فبدت أكثر جمالا تحت ضوء عمود الإنارة، لم يستيقظ سمير من غفوته وتشرده الفكري رغم أنه تبث نظره جيدا في الشخص الذي أمامه، ولم يستعد وعيه إلا عندما بادره الشاب قائلا:
- كيف حالك يا سمير؟
حينئذ عاد انتباه سمير فحك رأسه محاولا استحضار جميع تركيزه كأنه كان تحث تأثير مخدر:
- كما ترى يا صديقي فحالي يخبر عني بكل صدق وليس هناك حديث أبلغ من هذا الحال.
- منذ مدة طويلة لم أرك؟
طأطأ سمير رأسه الثقيل الأشعث وقال:
- أنت الذي لم تعد تسأل عني بعد أن حصلت على عمل... أما أنا فدائما متشرد بين الدروب أروح وأغدو في هذا الشارع الطويل، حتى سئمني هذا الرصيف...
- لا عليك يا صديقي سيتغير الحال فدوام الحال من المحال.
- هز سمير كتفيه بحركة استهزاء وكأنه سمع من صديقه سخافة، أو لأن أذنه اعتادت سماع هذه العبارة حتى ملها:
- يتغير...؟ هيهات! أتدري أني منذ خمس سنوات وأنا هكذا لم اترك بابا إلا طرقته ولا مباراة إلا ولجتها... سئمت، أتعلم ما معنى سئمت؟
- لا تسأم و لا تيأس، ألا تذكر أني كنت مثلك؟
قاطعه سمير بصوت حاد:
- لا أنت لم تتشرد خمس سنوات بليلها ونهارها فأنت بعد سنة من تخرجك حصلت على وظيفة محترمة بعد أن...
قاطعه الشاب بسرعة قبل أن يكمل:
- إنه الحظ يا سمير
- ليس حظا... لماذا تنافق؟ أنت تعلم أن والدك غني وبالمال يمكنك أن تشق الطريق في البحر وتفعل المعجزات... أه ليت والدي كان غنيا لكنت...
لم يعجب الشاب ما قاله صديقه في حقه، فحاول أن يغير الموضوع  وينحني بسياق الكلام في اتجاه أخر بعيدا عنه، فاستدرك قائلا قبل أن يكمل سمير ما أراد قوله:
- تعالى نجلس في أحد المقاهي نسترجع أيام الدراسة، لقد اشتقت للحديث معك.
ابتسم سمير ابتسامة مغتاظة وهو ينظر إلى إحدى السيارات الفخمة وهي تمر في الشارع الطويل بسرعة قوية.
- أيام الدراسة؟ قل أيام الغباوة! أية دراسة؟! الطلاب في الدول المتقدمة يدرسون وهم متأكدون أنهم سيعملون بعد حصولهم على شواهدهم وكل واحد على حسب مؤهله، أما نحن فنجد وحش الرشوة أمامنا وغول المحسوبية وووو.. ثم نعلق شواهدنا في حائط وننساها وننسى معها أننا حصلنا عليها بدم قلوبنا...!
كان صديقه ينظر إليه بشيء من الاستنكار والاستغراب وملامح وجهه تكاد تنطق، هو يعلم أن كلام زميل دراسته وصديق طفولته يعنيه وإن لم يكن يقصده هو بالذات ولكنه يحس أنه يصنفه من أولئك، فقاطعه..
- لقد تغيرت... تغيرت كثيرا..
ابتسم سمير ابتسامته السخيفة التي ألفت وجهه النحيل، بعد أن رحلت عنه منذ زمن طويل تلك الابتسامة المفعمة بالحيوية والأمل، ولعل هذا ما جعل صديقه يستغرب من تغيره فقد كان من قبل إنسانا مرحا و يحب الدعابة وكان متفائلا وكم من مرة جلسا معا يرسمان مسارا لحياتهما...فأجاب سمير:
- تغيرت...؟ ومن هذا الذي لم يتغير في هذه البلاد...ألا ترى أن الفقير زاد فقرا والغني زاد غنا... يا صديقي البطالة تجعلك بلا قيمة تجعلك شيئا زائدا على الأرض وعالة على أسرتك ومحيطك، والكل ينظر إليك باشمئزاز، وإذا لم تتغير في مثل ظروفي فاعلم أنك صخر... وحتى الصخر يتغير بعوامل التعرية، ويشقه الماء سيولا وعيونا.
- ولماذا لا تبحث عن عمل كيفما كان؟
لقد اشتغلت نادلا في مقهى شعبي، وبعد نقاش مع صاحب المقهى طردني، واشتغلت في أعمال أخرى ولم أفلح فيها..أنا لا أصلح إلا في ميدان تخصصي، وإلا فلماذا ضيعت وقتي في الحصول على مؤهل؟ لا تقل لي أشعل شمعة خير لك أن تلعن الظلام، فالظلام دائم وحالك وكلما أشعلت شمعة انطفأت مع أول هبة ريح.

بعد برهة قصيرة من الصمت كان قد طواهما بين جوانحه وترك لكل منهما فرصة يستوعب فيها ما دار بينهما من حديث.
رفع سمير رأسه فقال:
أتدري فيما أفكر؟
بادله صديقه بنظرة تحمل علامة استفهام، ثم أخرج من جيب بدلته علبة سجائر باهظة الثمن، وبحركة سريعة وضع سيجارة بين شفتيه وأشعلها، بدأ الدخان يتطاير في وجه سمير وهو مسترسل في كلامه لا يعبأ بشيء:
- منذ مدة وأنا أقلب فكرة الهجرة السرية في عقلي، لا يلزمني إلا بعض المال، لكي أترك هذه البلاد التعيسة!
- ماذا تقول أجننت أترمي بنفسك في البحر، أتظن أن الجنة تنتظرك في الضفة الأخرى،لا... أنا لا أتفق معك أبدا.
بدأت علامات الغضب تظهر على وجه سمير، وبدا صوته يرتفع تدريجيا، كان يأمل من صديقه أن يشجعه أو أن يقدم له يد العون، ولكن هو اعتاد على خيبات الأمل أن تصفعه لدى كان انفعاله نتيجة معارضة فكرته وليس لأن صديقه لم يعنه فأجاب وهو مقطب الجبين:
- الجنون هو أن أبقى هنا أموت ببطء إنها مغامرة إن نجوت أجرب حظي هناك وإن مت فهو أفضل لي من هذا الحال الذي يرثى له.
- لم أعد أفهمك يا سمير صار تفكيرك غريباً!
فقاطعة بلهجة شديدة وقد زاد توترا وانفعالا:
- اسمع أنا هكذا الآن..! أما وعظك وإرشادك فدعني منه فأنت فتحت عينك على الحياة فوجدت كل شيء متوفر لك، وها أنت تلبس أفخر الثياب وتدخن سجائر باهظة... اتركوني وشأني... كلكم تريدون أن تنصحوني وما فائدة النصح في بلاد تستدير ظهرها لأبنائها وأهل ومعارف لا يتقنون إلا لغة النصح والوعظ؟! أبعد كل هذه الدراسة يكون مصيري التسكع والتشرد؟ لا مجال عندي لابد أن أغير هذه الأرض فأرض الله واسعة..

بعد هذه الكلمات التي انفجرت من سمير كقنابل موقوتة كانت تنتظر فقط من يجر فتيلها استدار وأكمل طريقه وهو يلعن ويشتم بكلام لم يستوعب منه صديقه شيئا مما أصابه بالدهشة فلم يستطع أن يحرك شفتيه، وبقيت كلماته ترن في أذنه كجرس إنذار متكرر، وظل واقفا مكانه مبهورا وهو يرمق صديق طفولته حتى اختفى عن نظره..ثم أطفأ سيجارته بأن سحقها بقدمه على الأرض وأكمل طريقه بعكس الطريق الذي سلكه سمير.

بقلم: أبو حسام الدين

من تكون؟



قالت : ترى من تكون ؟


قال : أنا عذابك لحظة الاشتياق

أنا بدرك في عُتمة الليل المظلم

أنا سهدك وذِكراكِ  في المضجع

أنا طيف وحدتك

ومَبعث الأرق.




قالت : أخبرني من تكون؟


قال : أنا من جاء على حين غـفلة

أنا من احتل صروح خيالك...

وأسدل على العمر بهجة

بمقدمي تحلو الأيام 

ألا ترين أني اختزلت لك  الغرام في بسمة؟




قالت : بالله عليك من تكون؟

أخذت القلب وزرعت الجنون

ملأت الدرب فرحا وشجون

وسلخت من ليلِ مهجتي نهارا بل وهبت النور

لكنك  أتيتني بهمٍ أثقل من سكرة المنون.


فمن تكون؟

أبو حسام الدين

حل واجب أفضل خمسة مواقع لدي


 هذه فكرة جديدة ابتكرتها الأخت آلاء العسّاف صاحبة مدونة ثلاثة أنامل وقلم وهي عبارة عن واجب تدويني نشارك فيه بخمسة مواقع مفضلة والتي نجدها مفيدة ونزورها باستمرار، وقد تم اختيار مدونتي للمشاركة.

الواجب يتضمن سؤالين:
1- ما هي المواقع المفضلة لديك (كِ) وتزورها باستمرار؟ ضع (ي) رابطها و ما تستفيده منها ؟
2- حول الواجب أيضا إلى خمسة مدونين ؟

سوف أقوم بحل الواجب بعون الله تعالى.
1- المواقع المفضلة لدي وأزورها باستمرار هي:

1- www.Google.com أكثر المواقع التي أستعملها في البحث وكذلك في حسابي على Gmail
2- الشبكة الاجتماعية الفيسبوك لتبادل الأفكار مع الأصدقاء والتواصل معهم وكذلك نشر مواضيعي.
3- منتديات الأمل ذلك لأني من المشاركين فيه كما أنه أول منتدى عربي موثق وخالي من المنقول.
4- منبر الدكتور محمد عابد الجابري (رحمه الله) وهو من المواقع الفكرية الجميلة  وأجد متعة في تصفحه وذلك لما يضمه من مقالات  فكرية وفلسفية عميقة - مع أن الموقع لم يعد يعطي الجديد بعد وفاة صاحبه في هذه السنة -
5- الموسوعة العالمية للشعر العربي وهو موقع متخصص فقط في الشعر، وتحلو لي زيارته للاستمتاع بعذب الكلام ولحن القافية لعمالقة الشعر العربي، والغربي.

طبعا هناك مواقع دينية وإخبارية وفنية أزورها ولكن ليس باستمرار، مثل موقع الدكتور يوسف القرضاوي وموقع الجزيرة والكل يعرفه، وموقع الرفيع في المدح والنشيد، بالإضافة لمدوناتكم.

2- أحول الواجب أيضا إلى خمسة مدونين:


أعزائي كلكم لكم مقام في قلبي وطبعا سوف تقدرون صعوبة الاختيار، وحتما سوف يصلكم الواجب عن قريب إن شاء الله.
وشكرا على تتبعكم

إقرأ المزيد

نفحات من أواخر رمضان


 عندما أنزل الله تعالى كتابه الكريم اختار له شهرا عظيما، واختار من هذا الشهر ليلة وصفت بأنها مباركة، ومن حكمة الله تعالى أن أخفاها كما أخفى عن عباده الصلاة الوسطى وساعة الاستجابة في يوم الجمعة، حتى يتسابق المؤمنون إلى الخيرات ويجتهدوا في الطاعات في كل وقت وحين.
في موضوعي هذا سأحاول أن أرسل النظر عبر آيات القرآن وخاصة وأن هذا الشهر هو شهره وحريٌ بنا أن نتدبره ونغوص في تفاسيره الكثيرة والمتنوعة التي تركها لنا علماء التفسير كإرث نرجع إليه في فهم هذا الكتاب المعجز.


-1-
يقول الله تعالى في التنزيل: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان)(1)
ويقول: (إن أنزلناه في ليلة القدر)(2)
نستنتج من الآياتين وكما سبق الذكر أن القرآن نزل في رمضان وبالتحديد في ليلة من لياليه وسميت ليلة القدر.
هنا جاءت كلمتا "أنزل وأنزلناه" الأولى بصيغة المبني للمجهول والثانية بصيغة المتكلم – والمتكلم هو الله تعالى- مما نفهم مباشرة من المعنى أنه كلام منزل أي وحي موحى به، وكما نعلم أنه نزل به جبريل عليه السلام المكلف بالوحي (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ على قلبك لتكون من المنذرين) (3)
والمقصود بالروح الأمين هو ملك الوحي جبريل وقد جاءت كلمة الروح بمعنى جبريل في موضعين آخرين في القرآن. الأول في سورة النحل قال تعالى:( نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بالحق)(4) ، والثاني في سورة القدر: (تنزل الملائكة والروح فيها).(5)
ومعلوم أن الله حافظٌ كلامه، فلا يجري عليه ما جرى على الكتب السماوية السابقة من تحريف ونقص وزيادة، كما أن الوحي كان ينزل وهو محفوف بالملائكة يقول تعالى في سورة الجن:
(عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا )(6)
وكلمة "رصدا" يقصد بها الملائكة الذين يحرسون الوحي ويحفظونه من الجن والشياطين، لأنه غيب والغيب لا يطلع عليه إلا من أذن له الرحمن من الرسل والأنبياء.
وقد برّأ الله تعالى رسوله من تلك الأقوال التي كان الكفار والمشركون يصفونه بها من كون القرآن الذي يتلوه قول شاعر أو قول كاهن.. وفي هذا السياق القرآني جاءت آيات تؤكد صدق ما يدعو إليه الرسول وصدق ما يتلوه من قرآن، قال تعالى في سورة الحاقة :
(ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين)(7)
فهذا تأكيد وبرهان على أنه لو قدر الله تعالى أن قال محمد –صلى الله عليه وسلم - غير ما يوحى إليه لانتقم الله منه بقوته، ولا قطع العرق الذي يصل إلى قلبه فيموت. قال القرطبي: "والوتين عرق يتعلق به القلب، إذا انقطع مات صاحبه"(8)
(فما منكم من أحد عنه حاجزين) حينها لن يستطيع أحد أن يحول بين الله وبينه إن أراد عقوبته.
وتأملت في جملة " بعض الأقاويل" وقلت لماذا لم يقل ولو "تقول علينا الأقاويل" فاستنتجت أن هذا العقاب قد يكون ولو عن زيادة بسيطة وصغيرة في وحي الله تعالى، وهذا لا يجوز ومحال في حق رسولنا الأمين.

-2-
يبقى الجانب الغامض من الموضوع هو كيف نفهم نزول القرآن في ليلة القدر كما جاء في صريح آياته التي هي قطعية الدلالة لما فيها من وضوح، ونزوله مفرقا على حسب الأحداث والوقائع. ونعلم جميعا أن لكل أية أو سورة سبب لنزولها، كما جاءت بها الآثار والأحاديث النبوية.
لهذا فقد ذهب المفسرون(9) إلى أن: "المراد بإنزال القرآن، هو إنزاله من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم نزل به جبريل إلى الأرض في مدة ثلاث وعشرين سنة، قال ابن عباس: أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى البيت العزة من السماء الدنيا، ثم نزل مفصلا بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله"(10)
نعم هكذا نزل القرآن الكريم الذي نقرأه اليوم والذي جمعه بعد ذلك الخليفة عثمان ابن عفان رضي الله عنه في مصحف واحد بعدما كان في صدور الصحابة وفي صحائف متفرقة.
وقد قال الكفار كما جاء في سورة الفرقان: ( وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا)(11)
جاء في تفسير ابن كثير لهذه الأية ما يلي:
"يقول تعالى مخبرا عن كثرة اعتراض الكفار وتعنتهم ، وكلامهم فيما لا يعنيهم ، حيث قالوا : لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة أي : هلا أنزل عليه هذا الكتاب الذي أوحي إليه جملة واحدة ، كما نزلت الكتب قبله ، كالتوراة والإنجيل والزبور ، وغيرها من الكتب الإلهية . فأجابهم الله عن ذلك بأنه إنما أنزل منجما في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع والحوادث ، وما يحتاج إليه من الأحكام لتثبيت قلوب المؤمنين به كما قال : (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا)(12) ، ولهذا قال :( لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا). قال قتادة : وبيناه تبيينا . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : وفسرناه تفسيرا" . انتهى (13)

وقد يعتبر نزول القرآن مفرقا ومنجما وموافقا لكل الأحداث خلال عشرين سنة إعجازا، لأن نزوله بهذا الشكل كان أقوم، حتى يستشعر المسلمون آياته ويدركوا أن الوحي يساير كل حركاتهم وسكناتهم، وما يسرون وما يعلنون، وفعلا فقِه الصحابة هذا الأمر فكانوا كلما نزلت سورة فيها أمر إلا و اتمروا به، أو فيها نهي إلا وانتهوا عنه.
فعاشوا القرآن واقعا جليا في حياتهم.
-3-
وإذا رجعنا إلى قول الله تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ اللامين عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِين)
نجد أن الآيات تبين أن الله هو المتكلم، والذي نقل الكلام هو جبريل، والمتلقي هو رسولنا الكريم. وقد يشطح بنا الكلام إلى أن نذكر ما ادعته المعتزلة أن القرآن مخلوق ونفوا أن يكون كلام الله تعالى لأنهم كما زعموا نزهوا الله عن صفة الكلام، وقد أخذوا هذه المقولة عن" الجهم ابن صفوان" الذي أخذ أكثر أرائه في علم الكلام عن "الجعد ابن درهم" الذي كان ينفي عن الله صفات كثيرة من ضمنها الكلام والخلة، قال أن الله لم يكلم موسى تكليما، ولم يتخذ إبراهيم خليلا، فتبنت طائفة سميت بالجهمية مذهب جهم ابن صفوان: "قالوا إن الله لم يتكلم ولا يتكلم إنما كون شيئا فعبر عن الله، وخلق صوتا فأسمع، وزعموا أن الكلام لا يكون إلا من جوف ولسان وشفتين" (14)
ورد عليهم إمام أهل السنة احمد في ردود كثيرة من بينها: " هل يجوز لمكون أو غير الله أن يقول (يا موسى إني أنا ربك) أو يقول إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري) فمن زعم ذلك فقد زعم أن غير الله ادعى الربوبية..." (15)
نعود للآية السابقة فنجد أنه استعملت كلمة "قلبك" من دون أي كلمة أخرى بحيث لم تَرد في الآية مثلا كلمة "عقلك" مما قد يدل على أن القلب هو محل الإدراك ومحل الإيمان والهداية، فالعقل قد ينسى، أما القلب فبه يثبتنا الله تعالى، وقد خٌوطب الرسول- صلى لله عليه وسلم- في الآية السابقة حيث قيل له (كذلك لنثبت به فؤادك )
جاء في تفسير فتح القدير للشوكاني ما يلي: "ومعنى على قلبك أنه تلاه على قلبه ، ووجه تخصيص القلب ، لأنه أول مدرك من الحواس الباطنة" .

-4-
من خصائص ليلة القدر أن فيها تفرق الأرزاق والآجال، وسائر أحوال العباد يقول الله تعالى في سورة الدخان: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا)(16)
وطبعا الهاء عائدة على ليلة القدر لأن الآية القبلية تتحدث عنها والمقصود هنا أن الله تعالى يقدر على العباد ما يكون في تلك السنة.
يقول ابن عباس: "يحكم الله أمر الدنيا إلى السنة القابلة ما كان من حياة أو موت أو رزق"(17)

وهذه هي الليلة التي خصها الله من دون كل الليالي بهذا الفضل العظيم هي خير من ألف شهر فرغم أن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم- لا تٌعمر كثيرا كسائر الأمم السابقة التي كان الرجل منهم تصل حياته إلى قرنين أو ثلاثة أو أكثر إلا أن أمة محمد قد تكسب من الحسنات والصالحات ما قد يكسبه من عمّر كثيرا بفضل من الله حيث جعل الحسنة بعشر أمثالها، وجعل لنا ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.

هذا والله تعالى أعلم
 _______________________________________________________________________

الهوامش والمراجع:

1- البقرة: 185
2- القدر: 1
3- الشعراء:192 -194
4- النحل: 102
5- القدر: 4
6- الجن: 26-27
7- الحاقة: 44- 47
8- تفسير القرطبي (قول القرطبي نقلته من صفوة التفاسير)
9- مختصر ابن كثير والقرطبي
10- صفوة التفاسير الجزء الثالث ص: 557
11- الفرقان:32
12- الإسراء :106
13- ابن كثير في تفسير القرآن العظيم الجزء السادس
14- كتاب عقائد السلف (الرد على الزنادقة والجهمية للإمام أحمد ابن حنبل) ص: 87 / كتاب علي سامي النشار وعمار زجمعي الطالبي
15- نفس المصدر السابق/ ص: 87- 88
16- الدخان: 4-5
17- القول مأخوذ من صفوة التفاسير الجزء الثالث ص: 109

أبو حسام الدين

Join me on Facebook Follow me on Twitter Email me Email me Email me Email me

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | تعريب وتطوير : قوالب بلوجر معربة