مقدمة لا بد منها
في الحقيقة لم يسبق لي أن نشرت أية قصة على شبكة الانترنيت، ربما لأني لم أهتم بكتابة القصة من قبل، واليوم أضيف إلى تصنيفات المدونة صنفا جديد أسميته "دمعة وابتسامة" طبعا الإسم كان قد استعمله جبران خليل جبران عنوانا لكتاب له، وصدقوني لم أجد أفضل من هذا الإسم لكون الحياة كذلك دمعة وابتسامة، أفراح وأتراح. في هذا التصنيف الجديد سوف أضع كل ما سيهمس به الخاطر من سرد وحكي وقصص، وكلها ستكون من وحي الخيال، وأي تطابق في الأسماء أو تشابه في الوقائع فهو من محض الصدفة، ولا شيء غير ذلك.
أرجو أن أوفق في هذا العمل وأن يرقى إلى مستوى القارئ العزيز، وطبعا يبقى رأيكم ونقدكم عنصرا مهما في أن أتقدم بهذا العمل البسيط إلى الأمام. وأتمنى لكم قراءة ممتعة.
القصة
في عتمة المساء حين اجتمع الظلام وشكل وشاحا انسدل من السماء إلى أن سقط أخر طرف منه على الأرض، وفي الوقت الذي خلت الطرقات من المارة وعم السكون نسبيا بعض أوجه المدينة القديمة، التي صارت كأرملة طاعنة في السن لم يعد أحد يتطلع إلى أن ينظر إليها... خرج سمير من المنزل يمشي كعادته على الرصيف بعد أن قطع أزقة الحي الملتوية والمتعرجة تارة ذات اليمين وتارة ذات الشمال، فقد تعود أن يهرب من الحي ويسير جنب الشارع لساعة وساعتين مُطأطأ رأسه وكفيه غارقتان في جيوب سروال أكل الدهر عليه وشرب وبلي من كثرة الارتداء، وفي سيره البطيء المشحون بكل ألوان الشجون وبخطوات تخطو بتؤدة جاهلة مصيرها الذي تتجه نحوه، يرسل سمير رجله اليمنى فيركل حجرا كان أمامه فيستهويه منظر الحجر وهو منطلق بسرعة إلى الأمام، فيعيد الكرة مرات ومرات كأنه يسكب غيظه في ركلاته المتكررة...استمر سمير هكذا في سيره بجسم حاضر وذهن يشطح به في خضم من الأفكار:
" سحقا لهذا الواقع لا شيء يستحق للإنسان أن يعيش له مادام هذا المجتمع ينافق ويحكم بالمظاهر"
كانت هذه الكلمات ثورة باطنية داخل نفسه المتعبة، وكثيرا ما كانت توكزه بوكزات مؤلمة. بقي سمير منجرفا مع تيار من الأفكار حتى شعر بيد امتدت إليه تلمس كتفه المنهك وكأنها يد من الغيب أو من خلف ستار المجهول، وتنسم سمير بأنفه رائحة زكية علم أنها رائحة عطر غالي الثمن امتزجت مع نسيم البحر الذي حملته الريح اللطيفة التي تداعب أنوف المارين في الشارع، فاستدار خلفه ليجد شابا في سنه يلبس بذلة أنيقة وربطة عنق تناسقت ألوانها مع لون البذلة فبدت أكثر جمالا تحت ضوء عمود الإنارة، لم يستيقظ سمير من غفوته وتشرده الفكري رغم أنه تبث نظره جيدا في الشخص الذي أمامه، ولم يستعد وعيه إلا عندما بادره الشاب قائلا:
- كيف حالك يا سمير؟
حينئذ عاد انتباه سمير فحك رأسه محاولا استحضار جميع تركيزه كأنه كان تحث تأثير مخدر:
- كما ترى يا صديقي فحالي يخبر عني بكل صدق وليس هناك حديث أبلغ من هذا الحال.
- منذ مدة طويلة لم أرك؟
طأطأ سمير رأسه الثقيل الأشعث وقال:
- أنت الذي لم تعد تسأل عني بعد أن حصلت على عمل... أما أنا فدائما متشرد بين الدروب أروح وأغدو في هذا الشارع الطويل، حتى سئمني هذا الرصيف...
- لا عليك يا صديقي سيتغير الحال فدوام الحال من المحال.
- هز سمير كتفيه بحركة استهزاء وكأنه سمع من صديقه سخافة، أو لأن أذنه اعتادت سماع هذه العبارة حتى ملها:
- يتغير...؟ هيهات! أتدري أني منذ خمس سنوات وأنا هكذا لم اترك بابا إلا طرقته ولا مباراة إلا ولجتها... سئمت، أتعلم ما معنى سئمت؟
- لا تسأم و لا تيأس، ألا تذكر أني كنت مثلك؟
قاطعه سمير بصوت حاد:
- لا أنت لم تتشرد خمس سنوات بليلها ونهارها فأنت بعد سنة من تخرجك حصلت على وظيفة محترمة بعد أن...
قاطعه الشاب بسرعة قبل أن يكمل:
- إنه الحظ يا سمير
- ليس حظا... لماذا تنافق؟ أنت تعلم أن والدك غني وبالمال يمكنك أن تشق الطريق في البحر وتفعل المعجزات... أه ليت والدي كان غنيا لكنت...
لم يعجب الشاب ما قاله صديقه في حقه، فحاول أن يغير الموضوع وينحني بسياق الكلام في اتجاه أخر بعيدا عنه، فاستدرك قائلا قبل أن يكمل سمير ما أراد قوله:
- تعالى نجلس في أحد المقاهي نسترجع أيام الدراسة، لقد اشتقت للحديث معك.
ابتسم سمير ابتسامة مغتاظة وهو ينظر إلى إحدى السيارات الفخمة وهي تمر في الشارع الطويل بسرعة قوية.
- أيام الدراسة؟ قل أيام الغباوة! أية دراسة؟! الطلاب في الدول المتقدمة يدرسون وهم متأكدون أنهم سيعملون بعد حصولهم على شواهدهم وكل واحد على حسب مؤهله، أما نحن فنجد وحش الرشوة أمامنا وغول المحسوبية وووو.. ثم نعلق شواهدنا في حائط وننساها وننسى معها أننا حصلنا عليها بدم قلوبنا...!
كان صديقه ينظر إليه بشيء من الاستنكار والاستغراب وملامح وجهه تكاد تنطق، هو يعلم أن كلام زميل دراسته وصديق طفولته يعنيه وإن لم يكن يقصده هو بالذات ولكنه يحس أنه يصنفه من أولئك، فقاطعه..
- لقد تغيرت... تغيرت كثيرا..
ابتسم سمير ابتسامته السخيفة التي ألفت وجهه النحيل، بعد أن رحلت عنه منذ زمن طويل تلك الابتسامة المفعمة بالحيوية والأمل، ولعل هذا ما جعل صديقه يستغرب من تغيره فقد كان من قبل إنسانا مرحا و يحب الدعابة وكان متفائلا وكم من مرة جلسا معا يرسمان مسارا لحياتهما...فأجاب سمير:
- تغيرت...؟ ومن هذا الذي لم يتغير في هذه البلاد...ألا ترى أن الفقير زاد فقرا والغني زاد غنا... يا صديقي البطالة تجعلك بلا قيمة تجعلك شيئا زائدا على الأرض وعالة على أسرتك ومحيطك، والكل ينظر إليك باشمئزاز، وإذا لم تتغير في مثل ظروفي فاعلم أنك صخر... وحتى الصخر يتغير بعوامل التعرية، ويشقه الماء سيولا وعيونا.
- ولماذا لا تبحث عن عمل كيفما كان؟
لقد اشتغلت نادلا في مقهى شعبي، وبعد نقاش مع صاحب المقهى طردني، واشتغلت في أعمال أخرى ولم أفلح فيها..أنا لا أصلح إلا في ميدان تخصصي، وإلا فلماذا ضيعت وقتي في الحصول على مؤهل؟ لا تقل لي أشعل شمعة خير لك أن تلعن الظلام، فالظلام دائم وحالك وكلما أشعلت شمعة انطفأت مع أول هبة ريح.
بعد برهة قصيرة من الصمت كان قد طواهما بين جوانحه وترك لكل منهما فرصة يستوعب فيها ما دار بينهما من حديث.
رفع سمير رأسه فقال:
أتدري فيما أفكر؟
بادله صديقه بنظرة تحمل علامة استفهام، ثم أخرج من جيب بدلته علبة سجائر باهظة الثمن، وبحركة سريعة وضع سيجارة بين شفتيه وأشعلها، بدأ الدخان يتطاير في وجه سمير وهو مسترسل في كلامه لا يعبأ بشيء:
- منذ مدة وأنا أقلب فكرة الهجرة السرية في عقلي، لا يلزمني إلا بعض المال، لكي أترك هذه البلاد التعيسة!
- ماذا تقول أجننت أترمي بنفسك في البحر، أتظن أن الجنة تنتظرك في الضفة الأخرى،لا... أنا لا أتفق معك أبدا.
بدأت علامات الغضب تظهر على وجه سمير، وبدا صوته يرتفع تدريجيا، كان يأمل من صديقه أن يشجعه أو أن يقدم له يد العون، ولكن هو اعتاد على خيبات الأمل أن تصفعه لدى كان انفعاله نتيجة معارضة فكرته وليس لأن صديقه لم يعنه فأجاب وهو مقطب الجبين:
- الجنون هو أن أبقى هنا أموت ببطء إنها مغامرة إن نجوت أجرب حظي هناك وإن مت فهو أفضل لي من هذا الحال الذي يرثى له.
- لم أعد أفهمك يا سمير صار تفكيرك غريباً!
فقاطعة بلهجة شديدة وقد زاد توترا وانفعالا:
- اسمع أنا هكذا الآن..! أما وعظك وإرشادك فدعني منه فأنت فتحت عينك على الحياة فوجدت كل شيء متوفر لك، وها أنت تلبس أفخر الثياب وتدخن سجائر باهظة... اتركوني وشأني... كلكم تريدون أن تنصحوني وما فائدة النصح في بلاد تستدير ظهرها لأبنائها وأهل ومعارف لا يتقنون إلا لغة النصح والوعظ؟! أبعد كل هذه الدراسة يكون مصيري التسكع والتشرد؟ لا مجال عندي لابد أن أغير هذه الأرض فأرض الله واسعة..
بعد هذه الكلمات التي انفجرت من سمير كقنابل موقوتة كانت تنتظر فقط من يجر فتيلها استدار وأكمل طريقه وهو يلعن ويشتم بكلام لم يستوعب منه صديقه شيئا مما أصابه بالدهشة فلم يستطع أن يحرك شفتيه، وبقيت كلماته ترن في أذنه كجرس إنذار متكرر، وظل واقفا مكانه مبهورا وهو يرمق صديق طفولته حتى اختفى عن نظره..ثم أطفأ سيجارته بأن سحقها بقدمه على الأرض وأكمل طريقه بعكس الطريق الذي سلكه سمير.
بقلم: أبو حسام الدين