الوصف

الحوار (2)


وجه من أوجه الحوار عند الصحابة
 

تذكر كتب السيرة أن المسلمون الأوائل هاجروا إلى الحبشة هروبا من أذى قريش واحتموا بملك الحبشة الذي كان يدين بدين النصرانية. وعندما علمت قريش بأمرهم أرسلت رجلين هما عبد الله ابن أبي ربيعة، وداهية العرب عمرو ابن العاص، وذهبوا إلى الحبشة محملين بالهدايا للنجاشي وبطارقته.

الذي يهمنا هنا هو الحوار الذي دار مابين فئة المسلمين المهاجرة وبين النجاشي ملك الحبشة. فبعد أن قال عمر ابن العاص للنجاشي :
«أيها الملك، انه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشيرتهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.»
سأل النجاشي المسلمين قائلا :«ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا به في ديني ولا في دين أحد من الملل؟.»
وبعد تشاور اختار المسلمون جعفر ابن أبي طالب أن يكون المتحدث عنهم فقال: «أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار... فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان، فخرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك».
فقال النجاشي: «هل معك مما جاء به الله من شيء »... فقال له جعفر: نعم... وقرأ عليه من صدر سورة مريم، فبكى النجاشي وبكت أساقفته، ثم قال النجاشي : « إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة! انطلقا. فلا والله لا أسلمهم إليكما».
ولما رأى عمر ابن العاص ورفيقه أن الملك لم يستجب لطلبهم حاول أن يدبر مكيدة أخرى فقال: «أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما،(...) فسلهم عما يقولون».
فلما أذن الملك لجعفر أن يتكلم قال :« نقول فيه الذي جاءنا به نبينا - صلى الله عليه وسلم- فهو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول».
فما إن سمع النجاشي قول جعفر حتى ضرب بيده الأرض وقال: « والله ما خرج ابن مريم عما جاء به نبيكم مقدار شعرة».
في رواية أخرى أنه تناول عوداً من الأرض فقال: « يا معشر القسيسين والرهبان: ما يزيد ما يقـول هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم ما يزن هذه!! مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده. فأنا أشهد أن رسول الله والذي بشر به عيسى بن مريم ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أحمل نعليه!! امكثوا في أرضي ما شئتم. وأمر لنا بطعام وكسوة وقال: ردوا على هذين هديتهما».
في هذا الحوار الجميل الذي دونه المؤرخون، نلمس عبرا كثيرة من بينها: وعي المسلمين الأوائل بأدبيات الحوار، بحيث إنهم اختاروا وبعد تشاور بينهم رجلا فصيح اللسان ذو عقل رزين، وهو جعفر ابن أبي طالب - ابن عم الرسول (ص) والذي قال له يوما:
«أشبهت خلقي وخلقي.»
وقد أبان جعفر عن ذكاء عقله في هذه المحاورة بحيث عرض الإسلام عرضا جميلا في بضع دقائق..! وبراعته في اختيار آيات من القران تبين للنجاشي أن ما جاء به محمد هو الحق ولأن عقيدة النجاشي عقيدة نصرانية فجعفر قرأ له من سورة مريم آيات تحكي عن السيدة مريم وولادة المسيح، ولأنها أمور لا يدرك حقيقتها إلا من كان يدين بدين النصرانية فقد تأكد لدى الملك صدقهم وبراءتهم مما قيل عنهم.
وأبان جعفر عن خلقه الحسن، بحيث يتضح من كلامه حسن الأدب في الكلام وجمالية الرد.
وكذلك نستنتج مما سبق أن المسلمين قالوا الحق ولم يخشوا لومة لائم، فحين سألهم عن المسيح ابن مريم اتفقوا أن يقولوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد جاء في روايات أخرى من السيرة أن عمرو ابن العاص قال للملك أنهم لا يسجدون لك – سجود تكبير واحترام للملوك- وحين سألهم النجاشي قالوا له نحن لا نسجد إلا لله، ذلك ما علمنا رسول الله. فأعجب النجاشي بهم.

إن الحوار الذي يعتمد على الفصاحة واللباقة وحسن الخلق واللينة في الكلام وقول الحق واختيار الحجة المناسبة لهو الحوار الناجح وإن لم يقتنع من أحاوره بفكرتي المهم أني أترك في نفسه بذرة الاحترام المتبادل بيننا، ومن يدري ربما أسلوبي هذا يجعله يقتنع بعد حين.



6 تعليقك حافز مهم على الإستمرار:

غير معرف يقول...

موضوع جميل وقيم شكرا لك.

admin يقول...

كان الصحابة رضوان الله عليهم يطبقون قول الله سبحانه: وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة"، وقوله: "ولو كنت فظا غليظ القول لانفضو من حولك"..

هذا هو الأصل في أي حوار ناجح، الكلمة الطيبة والحكمة الرزينة..

كنت هنا.. وسأبقى..

رشيد أمديون يقول...

أخ نوردين شكرا لمرورك الجميل.

رشيد أمديون يقول...

كل سلوك جميل نرى الصحابة قد سبقوا إليه وكأنهم تخرجوا من أكبر جامعات العالم فاللهم صلي على من علمهم.
شكرا أخي خالد..بالتوفيق.

عبير أكوام يقول...

اختيار جدا موفق،
اكملته وتمنيت لو تكون ثالثة لاتابع
كن بخير

رشيد أمديون يقول...

ووددت ذلك أختي عبير لكن لا أريد أن أطيل أكثر مادام المعنى قد توضح وقد قيل: "خير الكلام ما قل ودل".
شكرا لك على المتابعة.

إرسال تعليق

كلماتكم هنا ماهي إلا إمتداد لما كتب، فلا يمكن الإستغناء عنها.
(التعليقات التي فيها دعاية لشركات أو منتوجات ما تحذف)

Join me on Facebook Follow me on Twitter Email me Email me Email me Email me

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | تعريب وتطوير : قوالب بلوجر معربة