الوصف

ذكرى وحنين فقط.




لا يذكر المرء من طفولته الكثير غير بعض الصور الطفيفة التي قد تلازم مخيلته طوال حياته. والحقيقة أني كثيرا ما اختلي بنفسي متأملا في طفولتي الباكرة، وفي حياة يا للعجب بدأتها ولم أدرك منها إلا الشيء القليل! وفي ماضٍ لا أدري أهرب مني أم هربت منه..!؟ أتركني أم تركته..!؟ كل ما في الأمر أننا تفارقنا فراقا لا لقاء بعده...
أرغم تفكيري من حين إلى حين ليصنع لي شريطا يكون مرجعا لطفولتي بين جبال الأطلس المتوسط حيث كانت لي أول صرخة في هذه الدنيا وأول إستنشاقة هواء دخلت بها الحياة ... أخربش في بقايا الماضي وكل ما عساه  يساعدني على التذكر والاستلهام. فتلك الطفولة هي أطول فترة قضيتها في مسقط رأسي... طبعا زرته مرات لكن زيارتي كانت مرورا ولم تكن استقرارا، وهي كل ما أملك من بقايا حياة أمازيغية محضة.
كلما وقفت في مكان له ذكرى في نفسي تسمرت وأخذتني سهوة وخيم علي صمت كأني جامد كالصخر ...إنها لحظات حنين أعيشها أتبرك بها قبل أن تحل علي لعنة النسيان ... يدغدغ شعوري منظر زهر اللوز وشجيراته المخضرة الأوراق و النحيفة الأغصان المثناترة هنا وهناك في حقول بسيطة متناسقة تشبه المدرجات... وسلسلة من الجبال تحوم حول المنطقة كأنها حاجز كبير يخفي ورائه عالما أخر... عالما قد تخيلته وأنا في عمر البرعم أنه النهاية، تماما كالبحر الأطلسي أو بحر الظلمات قبل اكتشافه ، لم أكن أدرك أن العالم أوسع وأرحب من أن يختزل في ما كنت أشاهده كل يوم.
... حين تحل العشية أذكر أني كنت أقف فوق صخرة عالية أشاهد قافلة من الدواب تمشي بقوائم بطيئة وعلى ظهورها أوعية من الماء وتتبعها نسوة وفتيات يُسمع لهن ضحك وقهقهة و قد رجعن بعد أن ملأن قرابهن وأوعيتهن بالماء... صورة لا زلت أستحضرها وأنفق الوقت في تأملها خاصة وأن الوضع تغير الآن، فلم يعد كما كان، فالماء الذي كان يحمل على الدواب أصبح اليوم يمر في أنابيب معدنية إلى أن يصل إلى كل منزل.
لا أنسى يوم الخميس ... كان يوم فرحة للأطفال وهم ينتظرون بفارغ الصبر عودة الأباء من السوق لينالوا بعض الحلوة منهم.
كنا حين يخيم الليل ويرخي أستاره المظلمة نحوم حول عجوز لتحكي لنا الأسطورة الأمازيغية..! أسطورة " أحمد أونامير" جالسين بوقار مستضيئين بضوء القمر وكأن على رؤوسنا الطير، سائحين مع سرد العجوز وكلنا أذان صاغية... نرسم الخيال مع حكايات مستوحاة من الثقافة الشعبية، كانت ممتعة رغم أن أغلبها مخيف، لكننا جربنا أن يكون للخوف أيضا متعته.
كانت حياة تبعث على الاطمئنان والسكينة ، حياة رغم بساطتها كبيرة ، حياة لم يعكر صفوها التصنع ، حياة لا أقول بدائية بل فطرية تعني الكثير لي صارت ذكرى أخذها الماضي بين جوانحه. لم أكن أعرف وأنا طفل أني سأقف يوما على أطلال طفولتي وأشم رائحة النبات البري التي تكسبني نشوة الحنين، تغذي ذكرياتي.. حين كنت أرافق أمي لجمع الحشيش لتقدمه وجبة للبهائم... لم أكن أعرف أني سأطيل النظر في تراب خطوت عليه بنعلي الأصفر الصغير، ولم أكن أعرف أن طفولتي ستصبح  ذكرى أشاهد طبفها كلما سافرت إلى مسقط رأسي.
كل شيء تغير اليوم..! رغم الكهرباء والماء اللذان زودت بهما المنازل وغير ذلك من التكنولوجيا التي لم تكن من قبل ولم يكن أغلب أهل الدوار بعلم بها بإستتناء المذياع الذي كان الأنيس لمعظمهم، لكن رغم هذا هناك أشياء إفتقدتها في هذه الحياة ..! أشياء أحسها بإحساسي ولا يمكن تحديدها ... ربما يكون إنجذابا الى الماضي ، أو ربما هي ذكرى وحنين...ذكرى وحنين فقط .

أبو حسام الدين

9 تعليقك حافز مهم على الإستمرار:

عبير أكوام يقول...

طفولة وماضي
تماما كالماء والنار بالنسبة لي،
أحيانا الماضي حين أتذكره استبط منه دروسا إلا طفولتي تتركني وعلى رأسي ألف سؤال وسؤال..
أشياء كثيرة يأتيني الحنين إليها والذكرى تبقى ذكرى وان كانت مريرة..
فينهاية المطاف أبستملأني مازلت أقرأ هناوأتذكر بكبرياء وثقة..

طاب لي المكوث هنا وسط هذه السطيرات تحمل الكثير،

كن بخير
وسعادة
وصحة
في أمان الله

رشيد أمديون يقول...

مرحبا بك عبير في حديقة ذكرياتي وبين أشجار أشواقي...
هذه بعض الكلمات فرت هاربة من الماضي فأبت إلا أن ترسو هنا.. فشكري لك وتحيتي الخالصة لك.

للكنون عنوان يقول...

الجميع يبادلك هذا الشعور والجميع قد تغيرت له ملامح وأماكن طفولته ... فهذه هي الحياة لاتتوقف وتمر وتتغير عبر الزمان وليس هناك شئ يبقى على حاله إلا القلب

رشيد أمديون يقول...

مرحبا بك أخي الكريم"للكون عنوان"

الذكرى تبقى في الخاطر رغم مرور الزمن.

فاروق سحير ( فاروق بن النيل ) يقول...

أبو حام الدين ...
تعبيراتك قوية ومرتبة وقصصية لماذا ياأخى لاتسرد قصة من قصص حياتك وليس تلميحات وتعبيرات خش فى الموضوع على طول وبلاش لف ودوران إٍسمحلى والله ستكون كاتبا رائعا بس لازم تكون قصة لها معنى حقيقى يستفيد منه الصغير والكبير لو تذكرت ماكانت تحكيه جداتنا من أمنا الغولة المخيفة أو علاء الدين والمصباح السحرى أو الأميرات الثلاث أو سندريلا أو أو أو .....إلخ تقدم ياصديقى ولا تضيع وقتك وخش فى الموضوع على طول لاتقل لى لاأتذكر شيئا أنعش ذاكرتك فقد أنعشتها وأنا بالثلاث والستين عاما الآن وتذكرت كل شيئ ولم أكتب قصصى وحكاياتى إلا عندما سردت قصة بشبابى حدثت لى فى أوروبا فأشار إلى بعض الأصدقاء ممن أثق فيهم بأن سردى للقصص شيق ورائع وطلب منى أن أحكى حكاياتى فكونت المدونة الجديدة منذ شهر فقط" تجاربى وحكاياتى"
وحاولت بقدر ماأستطيع أن أرتبها زمنيا فلم أجد بداية أذكرها جيدا سوى منذ عمرى 12 عاما أى عام 1959 فبدأت المهم ياصديقى أن تبدأ ولا تجعل كلماتك الرائعة فى سرد الحكايات مجرد " ذكرى وحنين فقط " أعترض بشدة على ذلك حرام عليك أن تحبسها داخلك أطلقها ياصديقى تطير للحرية وشكرا لك دعوتى لمدونتك الرائعة.

رشيد أمديون يقول...

أستاذي الفاضل، لقد سعدت بتعليقك الجميل وبتشجيعك لي بارك الله فيك،وإن شاء الله سأحاول أن أكتب قصة حياتي رغم أنه ليس في حياتي ما يفيد...
أتدري يا سيدي أني في البداية حسبتك في سني ولم أعرف أنك تجاوزت الستين عاما إلا عندما صرحت لي بذلك، وبعدها قرأت مذكراتك...لقد وجدت روحك روح شباب وكلماتك خفيفة الظل نابعة من قلب لا يشيب، تسعدني صداقتك، بارك الله في عمرك سيدي.
في الختام أنا ممتن لك وجزاك الله خيرا.

فاروق سحير ( فاروق بن النيل ) يقول...

أبو حسام الدين ....
لايمكن أن أمر على تعليقك هذا دون الرد فقد أسعدنى ردك جدا وأنا فعلا بعد إحالتى للتقاعد لم أتقاعد بل عملت اللى لم أكن أعمله وهوايتى وهو الكتابة والشعر ولم أجد متنفسا سوى المدونات التى عرفتها فقط منذ خمسة أشهر تخيل ياصديقى معظم مقطوعاتى الشعرية ألفتها خلال هذه الفترة فقط وطبعا كل من يرانى الآن
يقول لى أنى لم أتجاوز الخمسين عاما والحمد لله هذا من فضل الله علينا نحن المسلمون الموحدون بالله .

المورقة عبير !! يقول...

تذكرت كل هذه الأشياء ومازالت بالنسبة لك قليلة ...

أما بالنسبة لي مسقط رأسي لم ازره أبداً بل عشت فيه السنوات الأربع من عمري فقط ..

كل ما اذكره في تلك القرية الصغيرة (قرية الشرف) هي تلك الدجاجة الحمراء التي اعطتها أمي لي لأعتني بها قبل مغادرتنا تلك القريةبثلاثة أيام فقط ...

وأذكر دمية جميلة أهداها لي والدي فإذا حركتها أصدرت صوتاً خفيفاً تلك الدمية التي كسرتها أختي الكبرى وصديقتها .. لأنهن أيضاً كن أطفال في ذلك الوقت .. ولكن لم يكن يملكن دمية مثلي ...

وآخر شيء أذكره حين سقطت من سطح منزلنا الصغير فاصطدم رأسي بالأرض فظن الجميع بأنني فارقت الحياة وحينما أسعفوني إلى شيء كان يسمى حينها مشفى كنت أرى كل شيء حوولي ومازلت أتذكر شكل الابرة التي كانت تدخل إلى رأسي وعليها خيط وأنا لا أبكي ...

ربما تكون هذه الأشياء ذكرياتي الوحيدة من مسقط رأسي الذي لم أره بعد أن فارقته

أعتذر عن الأطالة ولكن أحببت أن أتكلم عن مسقط رأسي الذي أريد زيارته ولكن ..... لا توجد طريق مؤدية إليه في حياتي لأنني أصبحت من بنات المدينة كما يقال ...وهناك أمل بأن أزوره في المستقبل رغم وعورة طريقه

تحياتي

رشيد أمديون يقول...

المورقة عبير

يبدو أن قريتك مثل قريتي بعيدة جدا وصعبة التضاريس، غير أن قريتي ترفرت لها كل الإمكانيات طرق وماء وكهرباء.
على العموم نحن لازال ولائنا لأرض الأجداد، فلهذا نزورها من حين إلى حين.

اشكرك عبير على مرورك هنا.

إرسال تعليق

كلماتكم هنا ماهي إلا إمتداد لما كتب، فلا يمكن الإستغناء عنها.
(التعليقات التي فيها دعاية لشركات أو منتوجات ما تحذف)

Join me on Facebook Follow me on Twitter Email me Email me Email me Email me

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | تعريب وتطوير : قوالب بلوجر معربة